الأحد 11 / ذو القعدة / 1445 - 19 / مايو 2024
هُوَ ٱلَّذِى يُصَوِّرُكُمْ فِى ٱلْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ ۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

" إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ۝ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة آل عمران:5-6:] يخبر تعالى أنه يعلم غيب السماوات، والأرض، لا يخفى عليه شيء من ذلك.
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء أي يخلقكم في الأرحام كما يشاء من ذكر، وأنثى، وحسن، وقبيح، وشقي، وسعيد.
لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة آل عمران:6] أي هو الذي خلق، وهو المستحق للإلهية وحده لا شريك له، وله العزة التي لا ترام، والحكمة، والأحكام، وهذه الآية فيها تعريض، بل تصريح بأن عيسى ابن مريم عبد مخلوق، كما خلق الله سائر البشر؛ لأن الله صوره في الرحم، وخلقه كما يشاء، فكيف يكون إلهاً كما زعمته النصارى - عليهم لعائن الله -، وقد تقلب في الأحشاء، وتنقل من حال إلى حال كما قال تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ [سورة الزمر:6]".

يعني أن الله حينما توعد من كفر بآياته أخبر بإحاطته، وقدرته على خلقه - سبحانه، وتعالى - فقال: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ [سورة آل عمران:6]، والمقصود بالتصوير في هذه الآية أي نقلهم من طور إلى طور، أي من النطفة إلى العلقة، ثم إلى المضغة، وما إلى ذلك حتى يكتمل هذا الخلق، ومن ذلك جعل هذا المخلوق ذكراً، أو أنثى، وما يحصل لهم من تفاوت في الألوان، وما يحصل لهم من تفاوت في الخلق.
والتصوير يأتي بمعنى التشكيل، وهذه المعاني التي يذكرها بعض السلف كلها داخلة فيه، إذ كل ذلك يفعله الله بهم كما ذكر في الآيات الأخرى، كقوله: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ [سورة الزمر:6] فهذا هو التصوير.
وحينما يقول الله : هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [سورة الحشر:24] يكون الخالق بمعنى المقدر، والبارئ بمعنى الموجد المنشئ من العدم، والمصور بمعنى الذي أعطى كل مخلوق شكله، وصوره بما يليق به، فيكون التصوير بمعنى التشكيل، ويدخل في هذا التشكيل ما يحصل لهم من التخطيط، حيث إنه بعد أن يمر على الجنين واحد، وثمانون يوماً يخطط الجنين أي أنه يرسم، فالعيون تكون عبارة عن نقط، والفم نقطة، وتظهر خطوط الأيدي، والأرجل، وهكذا شيئاً فشيئاً ثم تنفصل هذه الأشياء، ويتشكل بصورة ينتقل معها من طور إلى طور حتى يكون بهذه الهيئة، قال سبحانه: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء [سورة آل عمران:6].

مرات الإستماع: 0

"هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ . . .  [آل عمران:6]: برهانٌ على إثبات علمِ الله المذكور قبل، وفيه ردٌّ على النصارى؛ لأن عيسى لا يقدر على التصوير، بل كان مُصورًّا كسائر بني آدم."

وهذا أيضًا - كما سبق - ولكن المعنى أعم من ذلك يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ [آل عمران:6] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا. . . [الحج:5] الآية.

فهذا من التصوير الذي ذكره الله - تبارك، وتعالى - وكما قال الله - عز، وجل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12]: هذا في الأصل ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [المؤمنون:13]: هذا في النسل ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا . . . [المؤمنون:14] فهذا من تخليقه - تبارك، وتعالى - وتصويره.

هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ [آل عمران:6] فينقلهم من نطفة إلى علقة إلى مضغة، التصوير حينما ذكره الله - تبارك، وتعالى - في آخر سورة الحشر مع الْخَالِقُ الْبَارِئُ [الحشر:24] كان معنى الْمُصَوِّرُ هناك - والله تعالى أعلم - أخص مما هنا، فيكون هناك لما ذكر الخالق يكون الخالق هناك بمعنًى أخص، وهو المقدر، الخلق بمعنى: التقدير هناك، وإلا الخلق يأتي بمعنى: الإيجاد من عدم - كما هو معلوم - لكن لما ذكره مع البارئ، فالبارئ؛ هو المُوجد من العدم، وقلنا: التأسيس مقدم على التوكيد، فلا يكون تكرارًا، فالخالق: المقدر.

فلا أن تفري ما خلقت وغيرك يخلق ثم يفري

يمدحُ ملكًا يقول: تقدر، وتنفذ، تفري ما خلقت، وغيرك يخلق، يعني يقدر، ويخطط، لكنه لا يستطيع أن ينفذ؛ لعجزه.

ففي آخر سورة الحشر الْخَالِقُ: المقدر الْبَارِئُ: الموجد من العدم الْمُصَوِّرُ: يعني الذي يعطي كل مخلوقٍ هيئة تخصه يتميز بها، صورة تختلف عن غيره.

"كَيْفَ يَشَاءُ: من طولٍ، وقصرٍ، وحسنٍ، وقبحٍ، ولونٍ، وغير ذلك."

مرات الإستماع: 0

هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:6]، قال الله ذلك بعد قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، ووجه الارتباط وهو ما يُسمى بالمناسبة ظاهر لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، ومن دقيقه وعجيبه مما لا تقع عليه الأبصار أبصار الخلق هو ما في الأرحام، فإن الله -تبارك وتعالى- يعلمه بل هو الذي يُقلبهم ويصورهم في الأرحام كيف يشاء، فهذا الذي تحويه الأجنة، وما يحصل من التخليق والأطوار من غير حاجة إلى شق بطن، ولا أشعة، ولا غير ذلك مما يمكن أن يُتعرف به على ما في الجوف، أو على ما يحويه الرحم وهو منبت الولد.

فالله -تبارك وتعالى- يفعل ذلك جميعًا من غير أدوات ومناظير، ولا أجهزة، ولا وسائط، ومن غير أن تشعر الأم بشيء من ذلك مما يحصل في داخل جوفها ورحمها، يصوركم في أرحام الأمهات كيف شاء، فيجعل هذا طويلاً، وهذا قصيرًا، وهذا صحيحًا، وهذا عليلاً، وهذا أبيض، وذاك أسود، وهذا أحمر، إلى غير ذلك مما يتعلق بالحُسن أو القُبح، إعطاء كل واحد من هؤلاء المخاليق صورة يتميز بها عن غيره، وله بصمته التي يفترق بها عن الآخرين، بصمة نفسية، وبصمة في البنان، وبصمة في الصوت، وبصمة في العين، خلقهم هذا الخلق الدقيق، فهذه النطفة تتحول فيكون ما يكون من الخلق قلبًا ويكون بعضه عينًا، ويكون بعضه أمعاء، ويكون بعضه رئة، ويكون بعضه دماغًا، ويكون بعضه جلدًا.

وهكذا خلق هذا الإنسان في شعره وبشره بهذه الدقة العجيبة، الأُذن في موضعها، والعين في موضعها، والرأس في موضعه، والكبد في موضعها، والطُحال في موضعه، والمعدة في موضعها، والرجل في موضعها، والأصابع في مواضعها، أصابع القدمين تختلف عن أصابع اليدين، الأنف في موضعه، كل ذلك بإحكام، وفي غاية الدقة يتكون ويتحول في بطن أمه كما قال الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ}، هذا في أصل الخلق الأول، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، وهذا في ذرية آدم ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً [الحج:5].

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ۝ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [المؤمنون:12-13]، وهو الرحم في هذا الموضع المكين الحصين في أقوى المواضع، وأقوى العظام وهي عظام الحوض، في حال من التمكن والاستقرار والحفظ والصيانة، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14]، وفي حديث الصادق المصدوق المشهور: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد[1].

وقوله -تبارك وتعالى-: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ [لقمان:34] "ما" هذه تُفيد العموم، بعض الناس يستشكلون علم الناس في العصر الحديث عبر الأشعة يعلمون حال الجنين هل هو ذكر أو أنثى، فيستشكلون هذه الآية، وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ [لقمان:34] وأن ذلك من خصائص الله ، والجواب: نعم، هو من خصائص الله وما علموا شيئًا هؤلاء بأشعتهم ما علموا شيئًا؛ لأن قوله: مَا فِي الْأَرْحَامِ [لقمان:34] الملك يُبعث إليه فيعلم ذلك قبل أن يعلموه، و"ما" تفيد العموم ليست قضية ذكر أو أنثى شقيّ أم سعيد، من يعلم هذا؟! هذا لا يُعلم لا بأشعة ولا بغيرها.

أجله، من الذي يعلم الأجل؟! وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ [لقمان:34]، ما أجل هذا الجنين؟! وهل سيخرج حيًّا أو ميتًا؟! كما سيعيش إذا خرج حيًّا؟! ماذا عن عمله؟! ماذا عن صحته؟! ماذا عن ما يجري له في حياته مما قدره الله ؟! وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ [لقمان:34].

ثم أيضًا الطب لا يعلم ذلك إلا بعد مدة، الله يعلمه منذ البداية قبل أن يعلمه الملك بعد ما علمه الملك حينما يُبعث إليه إذا كان له أربعة أشهر، وفي بعض الروايات أنه يُبعث إليه منذ البداية حينما يكون نُطفة يعني في الأربعين الأولى يُبعث إليه الملك، الطب لا يعرف في الأربعين الأولى حينما يكون نطفة هل هو ذكر أو أنثى، ما يعلمون هذا.

العلماء قديمًا كابن العربي وغيره أعني أبا بكر ابن العربي ذكروا أشياء مما يعلمه الناس في ذلك الحين كانوا يعلمون من أمور: ثِقل الحمل، الجانب الأيمن الجانب الأيسر، كذلك أيضًا لون الحلمة الأيمن والأيسر، كان القدماء يعرفون هل هو ذكر أو أنثى عبر هذه الأمور منذ القدم، يعني: الطب الحديث بالأشعة ونحو ذلك لم يأتِ بجديد بالنسبة إلى القدماء، يعني: هم لم يستشكلوا قوله تعالى: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ [لقمان:34]؛ لأن ذلك يشمل ما ذكرت، ما الذي يحتوي عليه هذا الرحم؟! هذا المخلوق ما أجله وما عمله ما رزقه؟! هذه لا يعلمها إلا الله -تبارك وتعالى- والملك يُطلعه الله عليها؛ لأنه يكتب ذلك، إذا كان له أربعة أشهر، وفي رواية إذا كان في الأربعين الأولى أن الملك يعلم هذا، يعني: علمه مخلوق أعلمه الله  بذلك فلم يعد من الخصائص -من خصائص الله- بعدما أعلم الملك به، فهذا لا يُشكل.

وعلى كل حال، يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات والفوائد: أن عيسى عبد لله مخلوق؛ لأنه داخل في جملة من ذكر الله -تبارك وتعالى-: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ [آل عمران:6]، فهو من جملة من يُصورهم الله -تبارك وتعالى-، فهو مخلوق مربوب لله -تبارك وتعالى-.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:6] أن من يفعل ذلك أنه ينبغي أن يُفرد بالعبادة، وهذا التعقيب بقوله: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:6] يدل على أن الذي يفعل ذلك هو من كان كامل القدرة يضع الأشياء في مواضعها ويوقعها في مواقعها، هذا التصوير الدقيق وإعطاء هذا المخلوق خلقه بهذه الدقة العجيبة ينقله بأطوار مختلفة هذا كله يدل على كمال حكمته وكمال علمه.

كذلك أيضًا ما ذكر الله -تبارك وتعالى- من هذا التصوير في الأرحام كيف يشاء هذا يدل على كمال انفراده بالملك والتدبير لشأن الخلق، يعني: من الذي يختار صورته؟ هل في أحد يختار؟ من الذي يختار نسبه؟ يختار أنه ابن فلان، من الذي يختار رزقه غني أو فقير؟ من الذي يختار فيما يتعلق بأمور لا اختيار له فيها من الجمال والقُبح والطول والقِصر ونحو ذلك؟

لو تُرك الأمر للناس لتنافسوا غاية التنافس، وانظروا التهافت على عيادات التجميل في أرجاء المعمورة، الإنسان لا يختار صورته، وإنما الله -تبارك وتعالى- هو الذي يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص:68]، وهذا يشمل ما يتعلق بالاصطفاء والاجتباء، ويتعلق أيضًا بالخلق والتقدير يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ [آل عمران:6]، وهذا من معاني قيوميته، فهو القائم على خلقه بأعمالهم، وآجالهم، وأرزاقهم، فذلك داخل فيه.

وكذلك أيضًا فيه رد على النصارى كما قلنا بأن هذه الآيات في بضع وثمانين آية أنها نزلت في النصارى وفي وفدهم الذين قدموا على النبي ﷺ من نجران، وكما ذكرنا بأن أفراد تلك الروايات لا تخلو من ضعف، ولكن مجموعها قد يتقوى.

يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ [آل عمران:6] يتحدث عن الخلق جميعًا أنهم تحت تصرفه، وتدبيره وقدرته وما إلى ذلك، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:6]، لاحظ في أول السورة اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2]، وهنا لما ذكر بعض معاني قيوميته والخلق والتدبير، وهو من أدق المعاني الداخلة تحتها قال: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:6] كل ذلك لتقرير الوحدانية، والرد على هؤلاء الذين يقولون بأن الله ثالث ثلاثة لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:6]، وذلك يدل أيضًا على أن الاطلاع والمعرفة لأطوار الخلق، وما يُبديه الطب الحديث من صور ومعلومات وأحوال وما إلى ذلك أن ذلك يدعو إلى الإيمان وتوحيد الله ، وتعظيمه وإجلاله.

هكذا من اطلع على هذه الأحوال والدقة في هذا الخلق والأطوار وما إلى ذلك، ينبغي أن يكون في حال من التقديس، والتوحيد، والتعظيم، والإجلال لربه وخالقه جل جلاله وتقدست أسماؤه.

كذلك أيضًا هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ [آل عمران:6]، هذا التصوير، هذا الخلق، هذه الدقة ليست بطفرة، أو طبيعة تُبديها وتوجدها، وإنما لها خالق عليم حكيم مُدبر واحد لا إله إلا هو يتصف بأوصاف الكمال، ما هذه الطبيعة التي توجد هذا الخلق الدقيق وبهذه الأطوار، ويكون مُهيأ لما خُلق له في بطن أمه يكون له رجلان، ويدان وفم وعينان، وكذلك يكون له جهازًا تنفسيًّا مع أنه في بطن أمه لا يمشي، ولا يأكل، ولا يُبصر، لكنها قد خُلقت وهُيأت للمرحلة التي بعدها للطور الذي بعدها، هناك طور آخر سيأتي ينتقل إليه هذا الإنسان، فجاء هذا الخلق بهذه الدقة، وجعل له من الخلق ما تحصل به حاجاته ومصالحه، ويكون به قوامه.

لو نظرت إلى كل شيء العين في هذا الموضع في هذا التجويف بين العظام، وهذه الجفون فوقها كالمسّاحات، وهذه العين المالحة تجلوها وتغسلها، ويكون ذلك النبع بقدر حاجته فيجم في أحواله العادية لكنه لا يجف فإذا حصل ما يحصل من العوارض من شيء يدخل في عينه من رمل أو نحو هذا فاضت هذه القناة بالدموع من أجل أن تغسل هذه العين، فإذا انتفت الحاجة جمت.

وقل مثل ذلك في الغُدد اللُعابية في نواحي مختلفة في الفم، فإنها تُفرز بالقدر الذي يحصل به البلل للسان ونحوه في الفم، فإذا كان عند مضغ الطعام تحركت بصورة تلقائية من غير أن يضغط على شيء في جسده فتُفرز بحسب ذلك الطعام من أجل سهولة المضغ والبلع، وقل مثل ذلك في حال الأنف وكونه إلى أسفل، هذا تكلمنا عليه كثيرًا في الكلام على الأسماء الحسنى، لاسيما الخالق البارئ المصور.

وهكذا أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:6] بعد ذكر الإلهية لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:6]، وهذا باعتبار أن هذه الأمور من التخليق والتصوير في الأرحام أن ذلك لا يكون إلا من كان متصفًا بهذه الصفات، وذلك أيضًا من كمال إلهيته -تبارك وتعالى-، هذا ما يتعلق بهذه الآية الكريمة. 

  1. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، رقم: (3208)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته رقم: (2643).