الجمعة 11 / ذو القعدة / 1446 - 09 / مايو 2025
هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ ۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَآءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِۦ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُ ۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُو۟لُوا۟ ٱلْأَلْبَٰبِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ ۝ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ۝ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [سورة آل عمران:7-9].
يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، أي بينات، واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس، أو بعضهم، فمن ردَّ ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكَّم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى، ومن عكس انعكس؛ ولهذا قال تعالى: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه".

هذا المعنى الذي ذكره - رحمه الله - في معنى المحكم، والمتشابه هو من أجود ما قيل فيه، على كثرة الأقوال، ومن هذه الأقوال ما يرجع إلى بعض، وعلى كل حال هذا القول هو من أجودها، وهو منقول أيضاً عن الإمام أحمد - رحمه الله -.
وعن طائفة من السلف أن معنى المحكمات هي التي تقوم بنفسها، ولا تحتاج إلى غيرها لفهم معناها، والمتشابهات هي التي تحتاج إلى ردها إلى غيرها من أجل فهم معناها، ولهذا قال عن المحكمات: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، وأم الشيء أي أصله الذي يرجع إليه، كما يقال في الراية التي يحملها الجند، وينضوون تحتها، وينضمون إليها، ويجتمعون عندها، يقال لها: أمّ، ومن ذلك أمّ الرأس.
فالحاصل أن قوله: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ بمعنى الأصل الذي يرجع إليه، فالمتشابهات ترجع إلى المحكمات من أجل بيان معناها، وهذا إذا قلنا بأنه لا يوجد متشابه مطلق من جهة المعاني - وسيأتي الكلام على هذا عند الوقف في الآية - فيكون ذلك من الأمور النسبية من جهة المعنى، فالتشابه في المعنى يكون من الأمور النسبية، بمعنى أنه يكون متشابهاً بالنسبة لبعض الناس، وغير متشابه بالنسبة لآخرين، ففي قوله - تبارك، وتعالى - مثلاً: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ [سورة الحديد:4] قد يلتبس هذا على بعض الناس فيحتاج إلى رده إلى بعض المحكمات، فمن المحكمات التي يرد إليها: الآيات الدالة على العلو، والعلو الخاص الذي هو الاستواء، فذلك يدل على أنه مباين لخلقه - سبحانه، وتعالى - فتكون المعية لا تقتضي المخالطة، ومن الناس من يفهم معنى قوله - تعالى - هذا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ [سورة الحديد:4]، ولا يخطر في باله أن ذلك يقتضي المخالطة حيث إن ذلك ليس بلازم في كلام العرب، فتكون هذه الآية لهذا الشخص من المحكمات، وبالنسبة للآخر من المتشابهات، وقل مثل ذلك في كل ما اشتبه على الإنسان، والتبس عليه.
ومن أمثلة ذلك قوله - تبارك، وتعالى - مثلاً: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [سورة المعارج:4] مع قوله - تبارك، وتعالى - في سورة السجدة: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ [سورة السجدة:5]، تجد أن من الناس من يفهم المراد  بالألف سنة المذكورة في سورة السجدة مع الخمسين ألف سنة التي في المعارج - الآية الأخرى - فيقول: المراد باليوم الذي في سورة السجدة هو اليوم الذي يكون عند الله ، واليوم المذكور في آية المعارج هو في يوم القيامة، فإذا كان الإنسان يعتقد هذا المعنى فلا إشكال عنده في الآيتين، فهي بالنسبة إليه من المحكمات، وتجد شخصاً آخر يستشكل هذا المعنى، ويتردد فيه، فتكون هذه الآيات بالنسبة إليه من المتشابهات، وقل مثل هذا في أمثلة كثيرة جداً، ولذلك يقال، - والله أعلم -: إن التشابه من جهة المعاني هو أمر نسبي، لا يوجد من جهة المعنى تشابه مطلق بحيث يلتبس على جميع الأمة.
وعلى كل حال فإن قوله: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ يشعر برجحان تفسير المحكمات بأنها ما قام بنفسه، ولم يحتج إلى غيره في فهم معناه، والمتشابهات هي التي تحتاج إلى ردها إلى غيرها من أجل فهم معناها.
"ولهذا قال تعالى: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [سورة آل عمران:7] أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئاً آخر من حيث اللفظ، والتركيب لا من حيث المراد، فالمحكمات: ناسخه، وحلاله، وحرامه، وأحكامه، وحدوده، وفرائضه، وما يؤمر به، ويعمل به، والمتشابهات: المنسوخة، والمقدم منه، والمؤخر، والأمثال فيه، والأقسام، وما يؤمن به، ولا يعمل به".
لم يقل هنا قال ابن كثير: فالمحكمات ناسخه، وحلاله، وحرامه، وأحكامه إلى آخره، فمثل هذا الإيراد بهذه الطريقة لا يبرر أن ينسب لابن كثير، وعلى كل حال فإن من أهل العلم من حاول أن يرجع الأقوال إلى المعنى الأول الذي ذكره ابن كثير؛ باعتبار أنهم رأوا أن هذا أوسع هذه المعاني، وأشملها، فحاولوا أن يرجعوا إليه سائر المعاني، فالحاصل أن هذه الطريقة في الاختصار فيها إشكال؛ لأن الأصل أن يورد ما اختاره ابن كثير، ولا يدمج معه شيئاً آخر يرتضيه، أو لأن الرواية صحت فيه عن ابن عباس مثلاً، فإن هذا لا يبرر أن يورده بهذه الطريقة، وإنما كان ينبغي أن يقول: قال ابن عباس، - والله أعلم -.
والإحكام يطلق بإزاء معنيين:
يطلق - أعني الإحكام الخاص -، ويراد به ما يقابل المتشابه، وهذا هو المراد هنا، ويطلق الإحكام فيما يقابل المنسوخ، تقول: هذه الآية محكمة، وهذه الآية منسوخة، وأما الإحكام العام فالمراد به الإتقان كما وصف الله القرآن كله بأنه محكم فقال: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [سورة هود:1]، فوصف القرآن بكامله بأنه محكم، كما وصفه في موضع آخر بأنه متشابه، كما في قوله - تبارك، وتعالى -: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا [سورة الزمر:23]، فالمقصود بهذا التشابه العام، بمعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن، والبلاغة، والفصاحة.
والإحكام العام المقصود به: أنه متقن لا تجد فيه ما يوجب الريب كما قال تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2]، ولا تجد فيه تناقضاً كما قال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [سورة النساء:82] فهذا هو الإحكام العام، والتشابه العام.
قول ابن عباس: "ناسخه" الناسخ يقابله المنسوخ الذي لا يعمل به.
وقوله: ناسخه، وحلاله، وحرامه، وأحكامه، وحدوده، وفرائضه" يعني الأمور التي بينها الله ، وطالب الناس بالقيام بها، والعمل بها.
قوله: "والمتشابهات: المنسوخة" أي التي لا يعمل بها.
قوله: "والمقدم منه، والمؤخر" بمعنى أنه محل للاشتباه مثل قول الله : إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواَْ [سورة آل عمران:55] فكيف قال الله : مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ، وعيسى ﷺ لم يمت؟ هذا يمكن أن يقال: هو من قبيل المقدم الذي محله التأخير.
قال: "والأمثال، والأقسام" الله قال: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [سورة العنكبوت:43]، وأولئك قالوا: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً [سورة البقرة:26]، أضف إلى ذلك أن الأمثال ليست من الآيات التي يتعلق بها التكليف من حيث إنها تتضمن أحكاماً بالعمل، وإنما يبين بها المعنى، ويوضح، وربما يبين ذلك المعنى بصورة المحسوس، كقوله تعالى: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا [سورة الرعد:17] فهو صوَّر الوحي، والهدى بالمطر الذي ينزل.
"قال محمد بن إسحاق بن يسار - رحمه الله -: مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ [سورة آل عمران:7] فيهن حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم، والباطل، ليس لهن تصريف، ولا تحريف عما وضعن عليه.
قال: والمتشابهات في الصدق لهن تصريف، وتحريف، وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال، والحرام ألا يصرفن إلى الباطل، ولا يحرفن عن الحق".

هذا الكلام يرجع تماماً إلى قول ابن كثير فهو موافق تماماً لكلامه - رحمه الله -، وهذا الكلام يمكن أن يختصر فيحذف؛ باعتبار أن هذا الكتاب مختصر، ويمكن أن يقتصر عليه في تفسير المحكمات، من غير قول ابن عباس.
وعلى كل حال ما كان محتملاً فإنه يكون من المتشابه، وإن كان محتملاً عند زيد، وليس بمحتمل عند عمرو فيكون بالنسبة لهذا متشابهاً، وبالنسبة لهذا محكماً.
"ولهذا قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [سورة آل عمران:7] أي ضلال، وخروج عن الحق إلى الباطل، فيتبعون ما تشابه منه، أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها؛ لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دامغ لهم، وحجة عليهم، ولهذا قال الله تعالى: ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ [سورة آل عمران:7] أي الإضلال لأتباعهم، وإيهاماً لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهذا حجة عليهم لا لهم، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى هو روح الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وتركوا الاحتجاج بقوله: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ [سورة الزخرف:59]، وبقوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [سورة آل عمران:59]، وغير ذلك من الآيات المحكمات المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله، وعبد، ورسول من رسل الله".
يعني النصارى يحتجون بمثل هذه الآية على أن عيسى ﷺ جزء من الله ، وأنه ابن الله، وربما احتجوا على التثليث بما ورد من ضمير الجمع، كقوله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ [سورة يوسف:3]، قالوا: نحن تستعمل للجمع، وغير ذلك مما يلبسون به، فهذا من قبيل اتباع المتشابه.
فهؤلاء الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يعني ميلاً عن الحق، وانحرافاً عنه.
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ أي: يتبعون مثل هذه الآيات المحتملة المتشابهة.
ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ أي: ابتغاء الإضلال، أو التشكيك، والتلبيس على الناس بمثل هذه الآيات، ويدخل في هذا كل من تتبع الآيات المحتملة ليلبس بذلك على الناس، إما للتشكيك، أو الطعن في القرآن، أو من أجل الاحتجاج على باطله بنصوص القرآن كما فعل كثير من أهل الضلال، فهؤلاء كلهم قد رفعوا لواء الفتنة.
"وقوله تعالى: وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ [سورة آل عمران:7] أي تحريفه على ما يريدون.
وقد روى الإمام أحمد عن عائشة - ا - قالت: قرأ رسول الله ﷺ: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ إلى قوله: أُوْلُواْ الألْبَابِ [سورة آل عمران:7] فقال: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهُم الذين عنى الله فاحذروهم[1]
وقد روى هذا الحديث البخاري عند تفسير هذه الآية، ومسلم في كتاب القدر من صحيحه، وأبو داود في السنة من سننه، ثلاثتهم عن عائشة - ا - قالت: تلا رسول الله ﷺ هذه الآية: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ إلى قوله: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [سورة آل عمران:7] قالت: قال رسول الله ﷺ: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم[2] [لفظ البخاري].
قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ [سورة آل عمران:7]: "اختلف القراء في الوقف هاهنا فقيل على الجلالة، كما تقدم عن ابن عباس - ا - أنه قال: "التفسير على أربعة أنحاء، فتفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله"، ويروى هذا القول عن عائشة، وعروة، وأبي الشعثاء، وأبي نهيك، وغيرهم".

فقول ابن عباس : "التفسير على أربعة أنحاء" يعني على أربعة أنواع، وذكر الأول منها، وهو قوله: "تفسير لا يعذر أحد في فهمه"، وهذا القول جاء عن ابن عباس بألفاظ متقاربة، فهو بهذا اللفظ مع ما ينضم إلى ذلك من ذكر الأصناف الثلاثة، أو الأنواع الثلاثة - ما تعرفه العرب، وما يعلمه الراسخون، وما لا يعلمه إلا الله - كأنه أراد بذلك - والله تعالى أعلم - لا يعذر أحد في فهمه أي أنه ظاهر المعنى، لا يحتاج إلى كثير معرفة بلغة العرب، وكلامها، ولا يحتاج إلى علم، ورسوخ، وإنما يفهمه كل من سمعه، هذا الذي يظهر، - والله أعلم -.
وقد يفهم من بعض ألفاظه أن المراد بذلك هو ما يتعلق بالفرضية، يعني مما افترض الله على الإنسان، وخاطبه به من العمل، والأحكام التي يجب عليه أن يعلمها، وعلى كل حال فهذا القول، وهو أن الوقف على لفظ الجلالة هذا عليه السواد الأعظم من أهل العلم، أي أن عامة السلف من الصحابة، ومن بعدهم يقولون: إن الوقف على لفظ الجلالة.
ويحتجون على ذلك بأمور، منها: أنه جاء في قراءة أبيّ، وابن عباس - أجمعين -: (ويقول الراسخون في العلم آمنا به كل من عند ربنا)، يعني أن المعنى يكون هكذا: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، ويقول الراسخون في العلم آمنا به كل من عند ربنا)؛ لأنه على هذه القراءة: (ويقول الراسخون) تكون الواو استئنافية، وتكون هذه جملة فعلية جديدة لا مرية، ولا إشكال فيها، وفي القراءة الأخرى، وهي رواية غير متواترة كذلك - قراءة ابن مسعود -: (إنْ تأويله إلا عند الله)، فـ"إن" هنا هي إن النافية، وليست المخففة (إن تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا)، فـ"إن تأويله" معناه ما تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا.
وعرفنا قبل بأن القراءة الآحادية، أو غير المتواترة تفسر القراءة المتواترة، فاحتجوا بهذا، واحتجوا أيضاً بأمور أخرى كذلك منها أنهم قالوا: إن ما نفاه الله عن الخلق، وأثبته لنفسه لا يمكن لأحد أن يعلمه، وهذا في باب المعلومات، وإن كان في غيرها فكذلك ما نفاه الله  عن الخلق، وأثبته لنفسه فلا يمكن أن يضاف إليهم، فالله قال: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ [سورة آل عمران:7]، حيث جاء بصيغة هي أقوى صيغ الحصر، وهي النفي، والإثبات، التي جاءت بها كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، كما قال في المراقي: أعلاه لا يرشد إلا العلماء، فهذه أعلى صيغة من صيغ الحصر، ومن أراد أن يراجع الكلام عليها فلينظر في كتب الأصول، والمفهوم منها، ومن أهل العلم من اعتبره منطوقاً، فالحاصل أنهم قالوا: إن الله إذا نفى شيئاً عن الخلق، وأضافه لنفسه فلا يمكن أن يضاف إليهم.
واحتجوا على ذلك أيضاًَ بأن الله ذمَّ الذين يتطلبون تأويله فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ [سورة آل عمران:7] فأخبر أنهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، فهؤلاء ذمهم الله على تتبع المتشابه، ونفَى علمه عنهم، أو عن الخلق فقال: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ فكيف لهؤلاء الراسخين في العلم أن يتشاغلوا بهذا المتشابه طلباً لمعناه!
هذه أبرز وجوه احتجاج هؤلاء، وهم سواد أعظم، بل عامة أهل العلم يقولون بهذا، وهو اختيار ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وغيره خلق كثير لا يحصيهم إلا الله ، وعلى قول هؤلاء تكون الواو استئنافية، وما بعدها جملة جديدة، فهو قال: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ، ثم مدح الراسخين في العلم بأنهم يفوضون علمه إلى عالمه، ويؤمنون به.
والذين خالفوهم، وقالوا: إن الواو للعطف احتجوا على هذا أيضاً بأمور، حيث قالوا: إذا كان الراسخون في العلم لا يعلمون تأويله فما مزيتهم على غيرهم ممن لا يوصف بالرسوخ، فكل المؤمنين العوام، وأوساط المتعلمين سوى أهل الزيغ الذين يتتبعون هذا المتشابه يقولون: آمنا به، ويفوضون علم ما لم يعلموا إلى الله، فما مزية الراسخين إذاً؟
هذا مما احتجوا به، ويمكن أن يرتفع كثير من الخلاف -، ولا أقول كل الخلاف - في حال التفصيل، وذلك ببيان المراد بالتأويل.
فالتأويل أصل مادته من الأوْل، وهو الرجوع، وهذه اللفظة، وردت في القرآن، وفي كلام السلف في الدلالة على معنيين اثنين:
الأول: التأويل هو التفسير، فتأويل الكلام يمكن أن يراد به معنى التفسير، وتأويل الرؤيا يرد بمعنى تفسيرها، قال تعالى: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [سورة يوسف:36] معناه نبئنا بتفسير هذه الرؤيا، ويقال: هل يوجد أحد يؤول الرؤى؟ أي يفسرها، وفي الرواية المشهورة دعا النبي ﷺ لابن عباس فقال: وعلِّمْه التأويل[3] بمعنى، وعلمه التفسير.
المعنى الثاني الذي يرد له لفظ التأويل: هو ما يئول إليه الشيء ثانياً، فالمراد بتأويل الرؤيا بهذا الاعتبار هو تحققها، ووقوعها، كما قال يوسف ﷺ لما رأى أباه، وأمه، وأخوته قد سجدوا له: وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [سورة يوسف:100]، والرؤيا التي رآها هي قوله: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا، وَالشَّمْسَ، وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [سورة يوسف:4] فتأويل هذه الرؤيا هو وقوع ذلك منهم، وتأويل الخبر هو وقوع المخبر به، كما قال الله : هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ [سورة الأعراف:53] يعني، وقوع ما أخبر به يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [سورة الأعراف:53]، يعني أنهم سيندمون عندما يتحقق وقوع ما أخبر به الله من البعث، والنشور، والقيامة.
فالمقصود أن ن أن تأويل الخبر وقوع المخبر به.
وكذلك تأويل الأمر فعل المأمور، والامتثال كما في حديث عائشة - ا - المشهور، لما نزلت: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [سورة النصر:1]، وفيها: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [سورة النصر:3] قالت: "كان النبي ﷺ يكثر أن يقول في ركوعه، وسجوده: سبحانك اللهم ربنا، وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن"[4]، بمعنى يمتثل، ويحقق، ويفعل ما أمره الله بفعله.
المعنى الثالث للتأويل - عند المتأخرين -: هو صرف الكلام من المعنى الراجح، أو من الاحتمال الراجح إلى المرجوح لقرينة تدل على ذلك، وهذا المعنى لا يعرف عند السلف، ولا وجود له في لغة القرآن.
وبعد أن عرفنا هذا التفصيل في معنى التأويل نرجع إلى الآية: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ [سورة آل عمران:7]، فإنْ حملنا ذلك على المعنى الأول - أي التفسير -، وقلنا: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ يعني تفسيره، إذا قلنا هذا، ووقفنا عند لفظ الجلالة، فهذا يعني أنه توجد في القرآن معانٍ لا يعلمها إلا الله ، بمعنى أنه لا أحد يعرف تفسير هذه الآية، أو هذه الكلمة، أو الجملة إلا الله فيكون ذلك مما استأثر الله بعلمه، وإذا قلنا بهذا أيضاً فيمكن أن نحمل عليه أثر ابن عباس الوارد قبل قليل الذي ذكر فيه أن التفسير على أربعة أنحاء، وذكر أن منها ما لا يعلمه إلا الله، أي ما استأثر الله بعلمه، فإذا قررنا الوقف على قوله: إِلاَّ اللّهُ، وجعلنا التأويل بمعنى التفسير فمعنى ذلك أنه يوجد في القرآن أشياء خاطبنا الله بها لا أحد يعرف معناها، لا الرسول ﷺ، ولا غيره.
والذين يقولون بهذا القول لديهم أمثلة على ذلك، ومن أقربها الحروف المقطعة، فإن فيها نحو خمسة، وثلاثين قولاً، قالوا: إن هذه الأقوال كلها لا دليل عليها، وإنما هي احتمالات لا يجب الوقوف عندها، ولا أدل على ذلك من أنها اختلفت إلى هذه الأقوال الكثيرة جداً، فليس فيها شيء عن الله، ولا عن رسوله ﷺ، وهذا إذا قلنا: إن لها معنى في نفسها.
وإذا قلنا: إن التأويل في الآية بمعنى التفسير على أن الواو عاطفة في قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [سورة آل عمران:7] يعني أنهم يعلمون، وفي الحال يقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا، فيكون هنا التأويل بهذا الاعتبار بمعنى التفسير لكن هذا التأويل يعلمه الله ، ويعلمه الراسخون في العلم، وعلى هذا القول - القول بالوصل - لا يوجد في القرآن متشابه مطلق من جهة المعاني، وقولنا: متشابه مطلق يعني لا يعلمه إلا الله، وأما ما يعلمه بعض الناس، ويخفى على البعض، أو يلتبس عليهم يسمى متشابهاً نسبياً.
وإذا قلنا: إن التأويل في قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ بالمعنى الآخر الذي هو حقائق الأشياء الغيبية التي أخبر الله عنها مثل كنه صفات الله أي حقائقها، وكيفياتها، فهذا لا يعلمه إلا الله ، وهو واضح، فإذا فسرنا التأويل بهذا الاعتبار فهنا يجب أن نقف على لفظ الجلالة ما نصل فنقول: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ، بمعنى حقائق الغيبيات.
وبالنسبة للترجيح في هذه المسألة إما أن نأخذ بقول الأكثر، وانتهينا، لكن قد يقول قائل: هل الترجيح بمجرد قول أكثر أهل العلم طريقة صحيحة في الترجيح؟
الطريقة الثانية: أننا نرجح بين القولين باعتبار آخر، وذلك بالنظر إلى أكثر هذه المعاني استعمالاً في القرآن، أعني في دلالة لفظ التأويل، فلو جئنا نستقرئ كلمة "تأويل" في القرآن نجد أنها استعملت في معنى التأويل أكثر من التفسير، من ذلك تأويل الرؤيا بمعنى الوقوع، وتأويل الخبر بمعنى وقوع المخبر به، وأما بمعنى التفسير فربما لم يرد إلا في موضع، واحد هو قوله: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [سورة يوسف:36] يعني تفسيره، فالمعنى الثاني هو الأكثر، وروداً في القرآن، وبالتالي يمكن أن نرجح بهذه الطريقة فنقول: اللفظة قد احتملت معنيين، ووجدناها تستعمل في القرآن غالباً بالمعنى الآخر، فنحملها عليه في هذا الموضع، فهذه طريقة في الترجيح سار عليها بعض أهل العلم مثل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -، وبالتالي فإننا إذا حملناه على المعنى الآخر، بمعنى أن المراد بالتأويل حقائق الأمور الغيبية، وما تئول إليه، فهذا معناه أنه لا يوجد لفظ، أو كلمة، أو جملة، أو آية في القرآن يعرفها أحد، لا النبي ﷺ، ولا غير النبي ﷺ، وإنما يقال: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ [سورة آل عمران:7]، وعلى هذا يكون الوقف عند لفظ الجلالة.
الطريقة الثالثة الجيدة في الترجيح هي أن نجمع بين هذه الأقوال، والمعاني، فابن عباس - ا - ثبت عنه أنه قال بالوقف على لفظ الجلالة، وثبت عنه أيضاً الوصل، وقال: "أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله"، وكل هذا صح عن ابن عباس، ولا تعارض بينهما، فيقال: الوقف صحيح، ويكون الوقف عند الجلالة على معنى حقائق هذه الغيبيات، وكنهها، وما تئول إليه، وما أشبه ذلك من الأمور الغيبية، ويكون الوصل باعتبار التفسير؛ لأنه لا يوجد في القرآن شيء لا يُعرف له معنى؛ لأن الله خاطبنا بلسان عربي مبين، ولم يخاطبنا بالألغاز، والأمور التي لا تصل إليها عقولنا، ولا نفهمها، فالله يقول: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [سورة القمر:17]، ولا أدل على ذلك من أن الصحابة حاولوا أن يفسروا كل شيء، ومن ذلك الحروف المقطعة، فهذه الحروف المقطعة، من الأقوال الجيدة فيها أنها حروف مبانٍ، وليست بحروف معانٍ، وحروف المعاني كحروف الجر، في، وإلى، وعن. . إلى آخره، وهي التي يقول عنها النحاة: إنها تدل على معنىً في غيرها، ولا تدل على معنىً في نفسها، أي أنها للربط، مع أن شيخ الإسلام يخالفهم في هذا فيقول: "في" تدل على الظرفية، و"إلى" تدل على الغاية..الخ، وهم يقولون: نحن نقصد شيئاً آخر.
المهم أن هذه حروف مبانٍ أي تبنى منها الكلمة، وأما ألف، باء، جيم، دال، حاء، فهذه من المؤكد أنها ليس لها معنىً في نفسها، وإنما تركب منها الأسماء، والأفعال، وتركب منها كذلك حروف المعاني، أما هي في نفسها فليس لها معنى، وبناء على هذا لا يرد هذا السؤال القائل: هل يوجد في القرآن شيء ليس له معنى؟
وإن سئلنا فإننا سنقول: لا يوجد في القرآن شيء ليس له معنى، بل كل ما في القرآن له معنى.
فإن قيل: وكذلك الحروف المقطعة؟ قلنا: هي بهذا الاعتبار ليست من الأفعال، ولا الأسماء، ولا حروف المعاني، والكلام في لغة العرب: اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى، أما ألف، باء، جيم، دال، فهذه ليست لها معنى، وهذه الحروف المقطعة هي إنما تشير إلى الإعجاز، وأن هذا القرآن مكون من هذه الأحرف، فهو يتحداهم أن يأتوا بمثله، وهذا القول قال به بعض أهل العلم، وهو قول جيد، ولذلك تجد عامة المواضع التي ذكرت فيها هذه الحروف يذكر بعدها القرآن، أو الوحي.
والخلاصة أن الوقف على لفظ الجلالة يكون المقصود العلم بكنه الأشياء، وحقائقها، وما تئول إليها، وعلى الوصل وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [سورة آل عمران:7] يكون المقصود التفسير، وبهذا نكون جمعنا بين القولين - الوصل، والوقف -، ونزلنا كل حالة على معنىً يناسبها، - والله تعالى أعلم -.
هذه هي الخلاصة لكلام طويل في هذا الباب بُحث في كتب أصول الفقه، وفي علوم القرآن، فشيخ الإسلام ألف فيه رسالة "ذات الإكليل"، وكل هذا من المتشابه أعني المتشابه الخاص، وأما المتشابه العام فهو الوارد في قوله تعالى: كِتَابًا مُّتَشَابِهًا [سورة الزمر:23]، - والله أعلم -.
"ومنهم من يقف على قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [سورة آل عمران:7]، وتبعهم كثير من المفسرين، وأهل الأصول، وقالوا: الخطاب بما لا يفهم بعيد.
وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس - ا - أنه قال: "أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله"، وفي الحديث أن رسول الله ﷺ دعا لابن عباس - ا - فقال: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل[5].
والتأويل يطلق، ويراد به في القرآن معنيان: أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشيء، وما يئول أمره إليه، ومنه قوله تعالى: وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ [سورة يوسف:100]، وقوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [سورة الأعراف:53] أي حقيقة ما أُخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا، فالوقف على الجلالة؛ لأن حقائق الأمور، وكنهها لا يعلمها على الجلية إلا الله ، ويكون قوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [سورة آل عمران:7] مبتدأً، وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [سورة آل عمران:7]: خبره، وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر، وهو التفسير، والبيان، والتعبير عن الشيء كقوله: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [سورة يوسف:36] أي بتفسيره، فإن أريد به هذا المعنى، فالوقف على وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ؛ لأنهم يعلمون، ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون قوله تعالى: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [سورة آل عمران:7] حالاً منهم، وساغ هذا، وهو أن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه كقوله تعالى: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [سورة الحشر:8] إلى قوله: يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا، وَلِإِخْوَانِنَا الآية [سورة الحشر:10]، وقوله تعالى: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [سورة الفجر:22] أي، وجاءت الملائكة صفوفاً صفوفاً.
وقوله إخباراً عنهم: إنهم يقولون آمنا به: أي بالمتشابه، كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [سورة آل عمران:7]: أي الجميع من المحكم، والمتشابه حق، وصدق".

ابن كثير - رحمه الله - ذكر الاحتمالين، وحمل قوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [سورة آل عمران:7] على ما ذكر، وهذا كلام جيد مداره على ما ذكرت، لكن قد يرد هنا سؤال من القائلين بالوقف على الجلالة في الوقت الذي يحملون معنى التأويل فيه على التفسير، يقولون: إذاً إذا قلتم بأن الراسخين في العلم يعلمون تأويله، فما فائدة ما ذكر الله من صفتهم من قولهم: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [سورة آل عمران:7] ؟
فالجواب أن يقال: هذا واضح، فهم مع علمهم بمعناه ليسوا كالزائغين الذين يشككون، ويلبسون به على الناس، وينقرون عن هذه الأشياء، ويتتبعونها، فهم مع علمهم بذلك يؤمنون به، أي الجميع من المحكم، والمتشابه حق، وصدق، وكل واحد منهما يصدق الآخر، ويشهد له، وأن الجميع آمنا به، وهو كلام الله حق، وصدق، فهم بخلاف أولئك الزائغين.
"كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا أي الجميع من المحكم، والمتشابه حق، وصدق، وكل واحد منهما يصدق الآخر، ويشهد له؛ لأن الجميع من عند الله، وليس شيء من عند الله بمختلف، ولا متضاد؛ لقوله تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [سورة النساء:82]، ولهذا قال تعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [سورة آل عمران:7] أي إنما يفهم، ويعقل، ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة، والفهوم المستقيمة.
وروى ابن المنذر في تفسيره عن نافع بن يزيد قال: يقال الراسخون في العلم، المتواضعون لله، المتذللون لله في مرضاته لا يتعاطون من فوقهم، ولا يحقرون من دونهم".

العبارة كما في الكتاب الأصل: "لا يتعاظمون على من فوقهم" لذلك ينبغي أن يعدل قوله: "لا يتعاطون" إلى "لا يتعاظمون"، فهي الأصح، وهذا مما يدخل في الكتب من التصحيف.
"قال: يقال الراسخون في العلم المتواضعون لله، المتذللون لله في مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم، ولا يحقرون من دونهم".
  1. أخرجه أحمد (24256) (ج 6 / ص 48)، وقال الأرنؤوط: حديث صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين.
  2. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة آل عمران (4273) (ج 4 / ص 1655)، ومسلم في كتاب العلم -  باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعيه، والنهي عن الاختلاف في القرآن (2665) (ج 4 / ص 2053).
  3. أخرجه أحمد (2397) (ج 1 / ص 266)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده قوي على شرط مسلم.
  4. أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب التسبيح، والدعاء في السجود (784) (ج 1 / ص 281)، ومسلم في كتاب الصلاة - باب ما يقال في الركوع، والسجود (484) (ج 1 / ص 350).
  5. سبق تخريجه.

مرات الإستماع: 0

"مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ [آل عمران:7]: المحكم من القرآن هو البينُ المعنى الثابتُ الحكم، والمتشابه هو الذي يحتاج إلى التأويل، وفي النسخة الخطية: هو الذي يحتاج إلى تأويل."

هو الذي يحتاج إلى التأويل" لا إشكال إلى تأويلٍ، أو إلى التأويل.

"أو يكون مستغلق المعنى كحروف الهجاء، قال ابن عباس: المحكماتُ الناسخاتُ، والحلالُ، والحرام، والمتشابهات المنسوخاتُ، والمقدم، والمؤخر[1] وهذا تمثيلُ لما قلنا."

يقول: "مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ المحكم من القرآن هو البينُ المعنى الثابتُ الحكم". الإحكام أصله الإتقان، وسُميت محكمات من الإحكام، وكأنه أحكمها، فمنع الخلق من التصرف فيها؛ لظهورها، ووضوح معناها، أصل هذه المادة - لفظة حَكَمَ - مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ تأتي بمعنى المنع لإصلاح، يقول: حكمها التي تُوضع الحديدة في فم الدابة، تمنعها من الانفلات، والحكم، والحاكم هو الذي يمنع أحد الخصمين من التعدي على الآخر، وأخذ حقه، والحُكم كذلك.

والحكمة؛ هي تلك الخلة، والصفة التي تمنعُ صاحبها من الخطل في الرأي، وكذلك أيضًا يكونُ بمعنى الحكمة أعني: الإصابة في القولِ، والعمل هذه الحكمة، يكون صاحبها مسددًا في قوله، وفعله، حَكَمَ، وهكذا في كل استعمالاتها، وكثيرٌ من أهل العلم يرجعونها إلى هذا المعنى، وشيخُ الإسلام يزيد معنًى آخر عليه، ولعله قد مضى في "الغريب" شيءٌ من ذلك، فهذا في أصل المعنى اللغوي، لكن هنا يتحدث عن المعنى الشرعي في المحكم.

يقول: "المحكم من القرآن: هو البينُ المعنى الثابتُ الحكم".

يعني: ما لا يحتاج إلى غيره لبيانِ معناه، ما استقل بنفسه هذا معناه، وهذا من أحسن ما قيل في تفسيره على كثرة كلام أهل العلم فيه، أحسن ما قيل فيه - والله أعلم - ما ذكره الإمام أحمد - رحمه الله - وحاصله: أن المحكم ما استقل بنفسه فلم يحتج إلى غيره لبيان معناه، مثل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] واضحة هذه؟ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ هذا كله من المحكم الْحَيُّ الْقَيُّومُ.

لكن المتشابه بالمعنى الخاص، التشابه الخاص كما في آية آل عمران هذه يقول: "هو الذي يحتاج إلى التأويل" المتشابه هو الذي يحتاج إلى التأويل، يحتاج إلى التأويل يعني أنه ليس على ظاهره، وهذا الكلام غير صحيح، فالأصل: حمل نصوص القرآن، والسنة على ظواهرها إلا لدليل.

وأهلُ الكلام يقولون: بأن ظواهر نصوص الكتاب، والسنة تدل على معانٍ غير مرادة فيما يتصل بالصفات مثلًا صفات الله فيحرفونها، ويسمون ذلك تأويلًا، ولهذا يقولون: بأن آيات الصفات من المتشابه، هذا كثير، تجده في كتب المتكلمين الذين كتبوا في العقائد، أو في التفسير، أو في أصول التفسير، وعلومه علوم القرآن، ونحو هذا، لما تقرأون في كلامهم، مثلًا السيوطي - على سبيل المثال - في كتابه "الإتقان"؛ الذي هو خزانة هذا العلم، أوسع الكتب المصنفة فيه، وتقرأون في مثل كتاب الزُرقاني "مناهل العرفان" فهذه كتب مشهورة ذائعة سارت مسير الشمس، لما يتحدثون عن موضوع المتشابه يذكرون فيه مثل هذه الأمور الباطلة، مباشرةً يمثلون بنصوص الصفات، وهذا الكلام غير صحيح إطلاقًا، نصوص الصفات من المحكم، وليست من المتشابه.

 فعبارته: "هو الذي يحتاج إلى التأويل": ذكره أولًا، كأنه يميل إليه، وهذا بناءً على ما يعتقده أهل الكلام، وإلا فالمتشابه ليس هو الذي يحتاج إلى التأويل.

 يقول: "أو يكون مستغلق المعنى كحروف الهجاء" هذا بناءً على أن حروف التهجي لها معنى استأثر الله بعلمه، ولهذا لما يتحدثون عن قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] - كما سيأتي على الوقف هنا على لفظ الجلالة - بعضهم يفسره بالمعنى، يعني: المتشابه المطلق - كما سأوضح إن شاء الله - من جهة المعنى، طيب هل يوجد في القرآن شيء متشابه تشابهًا مطلقًا، بمعنى أنه لا يعرفُ معناه لا الرسول ﷺ ولا الصحابة، ولا أحد من الأمة من جهة المعنى؟ بعضهم يقول: نعم، ما هو؟ يقولون: الحروف المقطعة، هذا بأي اعتبار؟ باعتبار أن لها معنى في نفسها استأثر الله بعلمه، لماذا خاطبنا بما لا نعلم؟ يقولون: امتحانًا للعقول من أجل التسليم، والانقياد.

وهذا الكلام غير صحيح، فالله خاطبنا بلسانٍ عربيٍّ مبين، أما الصفات فهي أهم المهمات؛ إذ هي التي تُعرِّف بالمعبود، فكيف تكون ملتبسة، أو غير معروفة المعنى كما يقوله بعض غلاة المفوضة؟ - المفوضة طوائف - فغلاتهم يقولون: بأن معاني الصفات غير معلومة، لا يعلمها الرسول ﷺ ولا غير الرسول ﷺ هؤلاء كما يُقال: أهل التجهيل؛ يقولون: الأمة كلها جاهلة بمعانيها، لا يعلمها إلا الله، ولذلك لا يتعرضون لتأويلها، ولكن هذا الكلام من أبطل الباطل، قولهم هذا من أعظم الضلال، كيف تكون نصوص الصفات التي تُعرِّف بالله والقرآن من أوله إلى آخره هو في قضية التوحيد، فهو شارحٌ له، وأعظم ذلك: ما يتصل بالله - تبارك، وتعالى - ووحدانيته، وأسمائه، وصفاته، فيقال: هذه غير معلومة المعنى، أو أنها على غير ظواهرها، فهذا من أبطل الباطل.

فهنا حينما ذكر حروف التهجي، يعني باعتبار أنها من المتشابه المطلق، وقبل أن نأتي لقول ابن عباس - ا - أنا أوضح لكم القضية بصورة ملخصة، هذه الآية هنا في سورة آل عمران هي الآية الوحيدة في المحكم بالمعنى الخاص، والمتشابه بالمعنى الخاص.

هناك إحكام عام بمعنى الإتقان كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود:1]: كل القرآن محكم، محكم في ألفاظه، ليس فيه لحن، ولا ضعف في أساليبه، وكذلك محكمٌ في معانيه، فهو لا يتطرق إليه الباطل، ولا يتناقض، ولا يتعارض، وهو متشابهٌ أيضًا بالمعنى العام اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا . . . [الزمر:23] بمعنى: يشبه بعضه بعضًا في الحسن، والبلاغة، والفصاحة، يصدقُ بعضه بعضًا، متشابه، هذا في التشابه العام، والإحكام العام، في هذه الآية منه، ومنه مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ فمن هذه: للتبعيض هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فالمحكمات هنا بالمعنى الخاص، الإحكام بالمعنى الخاص، وليس العام بمعنى الإتقان، لا.

فهنا المحكمات ما هي؟ المحكمات هنا هي: ما اتضح معناه، واستقل بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره ليستبين المراد منه، ما نحتاج نرجعه إلى آيات أخرى، أو إلى أحاديث تشرحها مثلًا، أو نحو هذا.

أما المتشابهات تشابه الخاص فالمراد بها: كما قال الإمام أحمد - رحمه الله - يعني ما احتاج إلى غيره في بيان المراد منه.

مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ . . . [آل عمران:7] إذا وقفت هنا فما المعنى؟ إِلَّا اللَّهُ الذين يقولون: يوجد في القرآن متشابه مطلق من جهة المعنى، يقولون: مثل الحروف المقطعة باعتبار لها معنى لا يعلمه إلا الله، وهذا الكلام غير صحيح، والراجح: أنه لا يوجد شيءٌ في القرآن لا يُعرف معناه؛ لأن الله خاطبنا بلسانٍ عربي مبين، إذًا من جهة المعنى لا يوجد متشابه مطلق، وإنما التشابه من جهة المعنى نسبي، فإذا حملنا الآية على المعنى، وصلنا ما نقف، إذا حملناها على المعنى، وهو محملٌ صحيح، وثابت عن ابن عباس - ا - حيث قال: "أنا من الذين يعلمون تأويله"[2] هذا صح عن ابن عباس - ا.

مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا . . . [آل عمران:7].

يعني: والراسخون في العلم يعلمون تأويله، الله يعلم تأويله، والراسخون يعلمون، إذًا من الذين لا يعلمون؟ هم غير الراسخين، فصار من جهة المعنى على الوصل، التشابه نسبي، ما معنى نسبي؟ يعني بالنسبة لبعض الناس، هذا يخفى عليه، فيستشكل المعنى، وهذا يتضح له، هذا يدخل فيه أنواع من الآيات، مثل الآيات التي ظاهرها التعارض، يعني حينما يقول الله مثلًا: لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ ثم يقول في موضعٍ آخر: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] فكلمهم، فهذه كيف نجمع بينها؟

العلماء يعرفون الجمع بينها، لا يكلمهم كلام تكريم، أو يوم القيامة يوم طويل لا يكلمهم في بعض المقامات، وفي بعضها يكلمهم.

وكذلك: لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن:39] وفي موضعٍ آخر: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24] فإما أن يُقال: هذا لا يُسأل سؤال استعتاب من أجل أن يُعذر ليُبين عن عذره، أو أنه لا يُسأل في بعض المقامات في يوم القيامة، ويُسأل في مقامات، وأحوال أخرى فهو يومٌ مقداره خمسين ألف سنة - يوم طويل، هذا وجه الجمع، لكن من خفي عليه، وأشكل عليه هذا يكون بالنسبة إليه من قبيل المتشابه، ومن اتضح له فهو بالنسبة إليه محكم، هذا معنى نسبي.

وقد يكون في الآية الواحدة يعني من غير تعارض وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ . . . [الأنعام:3] بعض الناس قد يستشكل هذا، هل الله - تبارك، وتعالي - في السماوات، وفي الأرض؟ الراسخون يعلمون المعنى، فالله على العرش استوى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50] إذًا ما معنى وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ . . .؟

إما أن يكون وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ يعني، وهو المألوه المعبود في السموات عند أهل السماوات، وعند أهل الأرض وَفِي الأَرْضِ أو يكون وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ يعني المألوه في السموات وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ فيكون متعلقًا بالعلم، ولا يُقال: إن الله في السموات، وفي الأرض، فالله فوق العالم على عرشه، بائنٌ من خلقه.

هذا قد يكون متشابهًا مشكلًا بالنسبة لبعض الناس، فما أشكل من جهة المعنى فهو متشابه بالنسبة لهذا الذي أشكل عليه، فالواجب عليه أن يرد ذلك إلى المحكم، ما هو المحكم؟ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ؟ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ونحو ذلك، فيتبين المعنى.

هذا على الوصل، على قراءة الوصل وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وعلى الوقف على لفظ الجلالة: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فهذا المتشابه المطلق، لكن ليس في المعنى، وإنما في الكنه، والكيفية، وحقائق الأمور الغيبية وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ هنا ما تطرق للكلام على التأويل، أو العلة.

على كل حال هو يتحدث عن هذه القضايا فيما بعد، لكن أنا أوضح لكم، أجمع الكلام فيها من أجل أن يتضح وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فنقف هنا، فيكون المعنى في المتشابه المطلق ليس من جهة المعاني، وإنما الحقائق، الأمور الغيبية وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ كيف يد الله؟ وهكذا ما أخبر عن الغيوب، متى تقع الساعة؟ متى يقع ما أخبر الله به؟ فهذا غيب، فالتأويل يأتي بمعنيين في لغة الكتاب، والسنة:

 الأول: التفسير وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ أي: تفسيره، هنا على معنى التفسير تأتى ذلك على قراءة الوصل وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يعني: يعلمون تأويله أي: تفسيره، فيكون من قبيل المتشابه النسبي من جهة المعنى، والتفسير.

وأما على الوقف فليس ذلك بالتفسير للمعنى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ فالتأويل هنا بمعنى الأوْل، وهو يأتي بمعنى: الأوْل الرجوع، وهو ما يكون في ثاني حال، فلاحظ فيما ذكر في سورة يوسف - عليه الصلاة، والسلام: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [يوسف:36] يعني: بتفسيره، فتأويل الرؤيا: تفسيرها، وأيضًا حينما سجد أبواه مع إخوته قال: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ [يوسف:100] هنا ليس معناها التفسير، وإنما الوقوع، فهو يأتي - التأويل - بمعنى التفسير هذا المعنى الأول، تأويل الآية بمعنى: التفسير، تأويل الكلام بمعنى: التفسير.

ويأتي بمعنى: الوقوع بالنسبة لما أخبر به هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الأعراف:53] يعني: وقوع ما أخبر به.

ويأتي بالنسبة للأمر بفعل المأمور: الامتثال، قول عائشة - ا -: كان النبي ﷺ يكثر أن يقول في ركوعه، وسجوده: سبحانك اللهم ربنا، وبحمدك، اللهم اغفر لي يتأوّل القرآن[3].

ومعنى يتأوّل القرآن، يعني: يطبق، ويمتثل فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3] لما قال: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] يتأول القرآن: يمتثل، ويطبق، فهذا معنًى للتأويل، فتأويل الخبر وقوع المخبر به، وتأويل الأمر فعل المأمور، هذا المعنى الثاني للتأويل.

 أما المعنى الثالث - الذي يذكره المتكلمون كثيرًا: وهو صرف الكلام من المعنى الراجح المتبادر إلى معنًى مرجوح، فهذا لا يوجد في كلام الله ولا في كلام رسوله ﷺ ولا في كلام السلف الصالح، وإنما هذا جاء بعد ذلك على يد المتكلمين من المعتزلة، وأضرابهم، ولذلك لا يصح أن نفسر ألفاظ القرآن باصطلاحٍ حادث، يعني: إذا أتينا نتحدث هنا وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ كثير من المفسرين من أهل الكلام يقول: والتأويل صرف الكلام من المعنى. . . . ؛ لأن هذا اختمر في أذهانهم، فظنوا أن هذا معنى التأويل في القرآن، بينما هذا المعنى لم يكن مستعملًا، ولا معهودًا، ولا معروفًا في كلام الله، ولا في كلام رسوله ﷺ ولا في كلام السلف الصالح .

 هذه خلاصة في هذه الآية التي هي الآية الوحيدة التي تذكر الإحكام، والتشابه بالمعنى الخاص، وهذا هو التفصيل فيها على الوقف، وعلى الوصل، ما يأتي من كلامه - رحمه الله - يكون قد تبين - إن شاء الله تعالى -.

قال: "قال ابن عباس: المحكماتُ الناسخاتُ، والحلالُ، والحرام، والمتشابهات المنسوخاتُ، والمقدم، والمؤخر" هذا بإسنادٍ حسن عن ابن عباس - ا - وهو أحد المعاني المذكورة فيه، وذكرت لكم قول الإمام أحمد - رحمه الله - قال: "وهذا تمثيلٌ لما قلنا".

"هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ أي: عمدةُ ما فيه، ومعظمه."

يعني: أصل الكتاب، قال: لأصل كل شيء، ومرجعه: أم، ولذلك الراية التي يحملها الجيش معهم يُقال لها: "أم" هذا جاء في كلام العرب "أم" لأن الجند يجتمعون حولها، ولهذا قيل للفاتحة: أم الكتاب - كما سبق في الكلام على أسمائها - باعتبار أنها أصل ترجع إليه جميع معاني القرآن أُمُّ الْكِتَابِ "أم القرآن" فهي جامعةُ معانيه، وحاوية لها - والله أعلم -.

"فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ نزلت في نصارى نجران، فإنهم قالوا للنبي ﷺ أليس في كتابك أن عيسى كلمةُ الله، وروحٌ منه؟ قال: نعم، قالوا: فحسبنا إذا[4] فهذا من المتشابه الذي اتبعوه."

على كل حال - كما ذكرت لكم - هذا لا يصح، وهنا بأنها نزلت: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ نزلت في نصارى نجران هذا جاء عن الربيع بن أنس - رحمه الله - ولكن روايته مرسلة، وفي سنده أيضًا من لا يُعرف، لا يصح هذا حتى عن الربيع بن أنس، مع أنه مرسل، فالرواية في هذا لا تصح.

لكن لا شك أن النصارى اتبعوا المتشابه، يعني في مثل هذا، وفي غيره، قالوا: رُوحٌ مِنْهُ روح يعني قالوا: هو جزء من الله بينما الله - تبارك، وتعالى - أخبر  بأن الله  أعطى الخلق، ورزقهم، ونحو ذلك من السموات، والأرض، قال: جَمِيعًا مِنْهُ فهل هذه المخلوقات هي جزءٌ من الله ؟ لا أحد يقول بهذا، فهم يتبعون - على كل حال - المتشابه.

ويقولون: بأن عيسى - عليه الصلاة، السلام - خُلق من غير أب، ولا يُعقل أن لا يكون له أب، فهو ابن الله - تعالى الله عما يقولون - فيُرد عليهم بأن آدم - عليه الصلاة، والسلام - من باب أولى إذًا، لا أب له، ولا أم، ومع ذلك هو عبدٌ لله - تبارك، وتعالى -.

وكذلك النصارى يحتجون، أو يتبعون المتشابه في أشياء مثل: ضمائر الجمع نحن، حينما يأتي ذلك في كلام الله  فيقولون: هذا يدل على الجمع فهو ثالث ثلاثة - تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا - وإنما يقول ذلك المعظم نفسه كما هو معلوم، والقرآن نزل بلغة العرب، وبكلامهم.

فهذا من اتباع المتشابه، يدخل في هذا النصارى، وغير النصارى، كل من يتبع المتشابه، هذا دليلٌ، وبرهان على أن في قلبه زيغ، ولهذا قال النبي ﷺ فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم[5] الذي سواءً كان يتبع المتشابه من القرآن، أو من السنة، يعني: يأتي بأحاديث، أو يأتي بآيات يُلبس بها على الناس، ليستحل الحرام، أو يشكك الناس في الثوابت، فمثل هذا الذي يبحث عن هذه المواضع هذا في قلبه زيغ، يتتبع هذه المناقيش، ويستخرجها، ويلبس بها على الناس، ويضللهم بذلك، هذا في قلبه زيغ.

"وقيل: نزلت في أبي ياسر بن أخطب اليهودي، وأخيه حُيي[6] ثم يدخل في ذلك كل كافر."

لكن هذا أيضًا لا يصح، فهي رواية مرسلة عن مقاتل - رحمه الله - "مقاتل" توفي سنة مائة، وخمسين للهجرة، فهي رواية مرسلة، لا يصح أنها نزلت في أبي ياسر، وأخيه حيي.

"ثم يدخل في ذلك كل كافر، أو مبتدعٍ، أو جاهلٍ يتبع المتشابه من القرآن."

ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران:7] أي: ليفتنوا به الناس."

"ليفتنوا به الناس" يعني طلبًا للفتنة، والفتنة يدخل فيها الشرك، والكفر، والشر عمومًا، وأصلها - كما هو معلوم، وذكرنا في الغريب: الاختبار، والابتلاء، والامتحان من الفَتْن، ولذلك يُقال: بأنه من إدخال الذهب في النار ليتميز خالصه من شائبه، وتظهر جودته، فهنا ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ يعني: طلبًا للشبهات، واللبس على أهل الإيمان، وتضليلهم، الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ أي: لإضلال أتباعهم[7] يضلون أتباعهم إيهامًا لهم بأنهم يحتجون على ضلالهم، وبدعتهم بالقرآن.

ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ والمعنى يشمل هذا، ويشملُ غيره، هؤلاء الذين يتتبعون المتشابهات، يبحثون عنها؛ من أجل التلبيس، والتشكيك، والطعن، وتضليل الناس، هذا سواءً كان في العقائد، أو كان ذلك في الأحكام، يعني مثل الذي يريد أن يقول: بأن الحجاب لا أصل له مثلًا، فيبحث عن مواضع يزعم أنها تدل على مراده، وبعض هؤلاء قد لا يصل إليها أصلًا، ولا يعرفها، ولا يعرف يقرأ صفحة من كتب السنة، ولا يعرف كتب السنة، ولا يعرف أسماءها، لكن يوجد بعض المنتكسين مـمن قرأ، ودرس، وعرف فيأتونهم بهذه الأشياء، ويجمعونها لهم في دفاتر، وفي بحوث بالمناقيش، ويجمع له هذه المتشابهات، ويعطيه إياها، فيبدأ هذا يلبس، ويشكك، ويدندن حولها؛ ليضل الناس، فيروج هذا على بعض من قلَّ بصره. 

أو يريد مثلًا أن يقرر قضايا بشهوات في نفسه، ونحو ذلك، ويأتي ببعض المواضع، ويقول: انظروا هذه امرأة أجنبية، وجالسة مع الرجال، وتخدمهم، ونحو ذلك، وهكذا، هؤلاء يتبعون المتشابه، ويتركون المحكمات الواضحات، والأصل الكبير أنك إذا أشكل عليك موضع أن يكون متشابه بالنسبة إليك، ارجع إلى المحكمات، ارجع إلى الأصل الكبير، إذا التبس عليك شيء فيما يتعلق بالقرآن، أو تحريف القرآن، أو نحو هذا، أو الأحرف السبعة، والقراءات، أشكل عليك موضع فارجع إلى الأصل الكبير لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ [فصلت:42] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] تسلم.

إذا كان يتعلق بقضية الصحابة، وهل في بعضهم قدح، وفي عدالتهم شيء، ولبس عليك مُلبّس، وما عرفت الجواب المفصل، ارجع إلى الأصل المحكم: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ . . .  [الفتح:29] إلى آخره لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ . . . [الفتح:18] ونحو ذلك وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ  [التوبة:100].

وكذلك قال: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ [الحشر:8] ثم قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ [الحشر:9] وهم الأنصار فأثنى على المهاجرين، والأنصار، هذه محكمات ترجع إليها، تعرف عدالة الصحابة .

فدائمًا إذا أشكل عليك موضع خاص، ما عرفت الجواب عنه، ارجع إلى الأصل الكبير، فيكون كالجبل، وبذلك تأمن من الضلالة، ولا يستهويك أحد من هؤلاء الذين في قلوبهم زيغ، فتقع في شَركه، وشبهته، وإذا كنت تعرف الجواب المفصل فهذا أكمل، وهذا المعنى ذكره الشيخ محمد عبد الوهاب - رحمه الله - في أول كتابه "كشف الشبهات" - والله أعلم -. 

"قوله تعالى: وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ أي: يبتغون أن يتأولوه على ما تقتضي مذاهبهم، أو يبتغون أن يصلوا من معرفة تأويله إلى ما لا يصل إليه مخلوق."

تعرفون خبر صبيغ بن عسل الذي كان يسأل عن متشابه القرآن، فقال عمر : (اللهم أظفرني به) فكان يجول بين الجند، ويسأل عن متشابه القرآن، فدخل على عمر  يومًا كان الناس عنده يتغدون، قال: يا أمير المؤمنين وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ۝ فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا [الذاريات:1 - 2] فقال عمر : أنت هو؟ وفي رواية: أنه قال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، قال: وأنا عبد الله عمر، كان قد خبأ له عراجين، فضربه على رأسه حتى سقطت عمامته، ثم في اليوم الثاني، والثالث، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، إن كنت تريد قتلي فأنت وذاك، وإن كنت تريد ما بي فوالله قد ذهب، يعني: اتباع المتشابه أذهبته العراجين، فتبخر هذا الذي في رأسه، قال عمر : (والله لو وجدتك محلوقًا لأخذت الذي بين عينيك).

يعني: قتلتك، محلوقًا إشارة إلى الخوارج، فإن سيماهم التحليق كما ذكر النبي ﷺ في ذلك الوقت، وإلا بعضهم كان له شعر، كما ذكرنا في العبر من التاريخ بأن عبد الرحمن بن ملجم كان له شعر إلى منكبيه.

ثم نفاه عمر إلى البصرة، وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يُجالَس، ولا يُكلَّم، فكان إذا جلس إلى حلقة في المسجد لا يعرفونه، وعرفه بعضهم قال: عَزمةُ أمير المؤمنين، فقاموا، وبقي وحده، كان عزيزًا في قومه فذل حتى استقام أمره، فكتب أبو موسى الأشعري إلى عمر بأن الرجل قد استقامت حاله، فأمر عمر بمجالسته، فلما خرج الخوارج بعد ذلك قيل له: هذا أوانك، فقال: لا، قد نفعتني موعظةُ الرجل الصالح عمر [8].

فهذا إتباع المتشابه، والبحث، والتنقير الذي يتتبع الغوامض، أو ما يحصل به التلبيس على الناس، أو يُنقر في المسائل، أو يبحث عن الغرائب، أو نحو ذلك، هذا يدل على زيغ في قلبه، وأنه غير سوي، ولا نظيف إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم[9].

فمن الناس من يكون ذلك طبيعة فيه غالبة، يعني: أن عقله هكذا يميل دائمًا إلى هذه المواضع، ويستخرجها مع أنه ليس من المشتغلين بالعلم، لكنه يميل إلى هذه الأشياء، ويبحث عنها، وإذا جاءك يسأل عرفت مباشرة ماذا سيسأل عنه، أنه سيسأل عن أشياء من هذا القبيل، يستخرجها بالمناقيش، ويأتي ليسأل، يقرأ القرآن، ويأتيك يقول: عندي سؤال، ثم يسأل سؤالًا من هذا القبيل، يبحث عن هذه الأشياء، ويقف، ويذهب إلى هذا، وهذا، وهذا، يسأل عنها، فهذا طريق الزيغ.

والجادة: أن يسلك الإنسان سبيل العلم، ويتعلم العلم بأصوله الصحيحة، ويتدرج فيه التدرج الصحيح، ولا يأخذ المسائل بالمقلوب، يعني: يأخذ مسائل الكبار، ويهجم عليها، ويسأل عنها، ويترك ما هو بصدده من المسائل التي ينبغي أن يتعلمها من الأسس، والأصول، فإذا رأيت من يتقحم من الأعلى فاعلم أنه على طريق ضلالة، وإذا رأيت من يتتبع هذه، وينقر عنها - هذه القضايا - فاعلم أنه على طريق ضلالة، ليست هذه هي الجادة، ومثل هؤلاء أنا أرى أنهم لا يُشتغل بهم، ولا بالجواب عن مسائلهم، لكن من بسط الله يده مثل عمر من له ولاية، فيمكن أن يؤدب مثل هؤلاء بهذه العراجين، ومن ليس كذلك فكما قال شيخ الإسلام: من المسائل ما جوابه السكوت، ما كل من سأل يُجاب، فإذا سأل الإنسان عن شيءٍ ليس بصدده، أو لا يعنيه، أو غيره من المسائل التي لربما متكلفة، أو من قبيل التعمق في البحث، والتنقير، ونحو ذلك، فمثل هذا يُصرف عنه، ويُوجه إلى غيره، فإذا عُرف أن هذا من عادته الغالبة تُرك - والله المستعان -.

"وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ إخبارٌ عن إنفراد الله بعلم تأويل المتشابه من القرآن، وذمٌّ لمن طلب علم ذلك من الناس.

طبعًا هذا بناءً على الوقف وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ: فيكون العلم علم الكنه، والكيفية بالنسبة لحقائق الأمور الغيبية، وكذلك أيضًا الغيبيات، ووقوع الساعة، ونحو ذلك، متى تقع؟ متى يقع كذا؟ هذا في علم الله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فبعض الناس يُجرون حسابات بناءً على الحروف المقطعة، وغير ذلك يقول لك: الساعة ستقوم عام كذا، ستخرج الشمس من مغربها في وقت كذا، في عام كذا، فإذا قيل له: إن هذه الأمور لا يعلمها إلا الله، قال: نعم ممكن يحصل أمور في الكون فيختل هذا السير، وهذا النظام، ويتغير الوقت - للأسف - يوجد من يقول مثل هذا الكلام، ويوجد من يكتب، وينشر أشياء من هذا القبيل.

"وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مبتدأٌ مقطوعٌ مما قبله."

هذا بناءً على الوقف الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: مبتدأ، فتكون الواو استئنافية وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: يعني ليست عاطفة، وهذا صحيح ثابت عن ابن عباس - ا - يعني: الوقف، فيكون محمله على ما ذكرت، يعني ليس على التفسير، والمعنى؛ لأنه لا يوجد في القرآن شيء لا يُعرف معناه، ويكون على هذا: الرَّاسِخُونَ: مبتدأ، والخبر: جملة يَقُولُونَ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ فهذا على قراءة الوقف.

والراسخون ما المراد به في قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ؟

يعني: الذين رسخت قدمهم فيه، يعني: الثابتون فيه، الذين أتقنوا العلم، وضبطوه بحيث لا يُداخلهم في ذلك شك، ولا لبس، فالرسوخ يعني: الثبوت، وهذا أصلُ هذه المادة: "رَسَخَ" راسخ، يدل على الثبات، فالناس في العلم مراتب: فمنهم من يكون في مبدأه، وهذا يحصل عنده من الشك، يقبل التشكيك في معلومهِ، ومنهم من يكون متوسطًا بين بين، ومنهم يكون راسخًا، فهذا الراسخ هو الذي يكون العلم سجيةً له، يعني: من غير تكلف، ولا تصنع، فيكون العلم من الصفات الثابتة فيه، ولا يقبل التشكيك، وليس عنده فيه تردد.

والشاطبي - رحمه الله - في "الموافقات" ذكر مراتب الناس في العلم من وجه آخر، من جهة ما يحمل عليه، فذكر المراتب الثلاث، ولما ذكر أهل الرسوخ في العلم، ذكر أنهم بالنسبة إليهم هؤلاء المعصية لا يحتاجون إلى مجاهدات، ولا يحتاجون إلى صوت القوارع، والوعيد، والحدود التي تردعهم، كما هو الشأن بالنسبة لأصحاب المرتبة الأولى: تردعهم الحدود، والمرتبة الثانية: تردعهم الوعد، والوعيد، وأصحاب المرتبة الثالثة: هم الذين صار العلم كالأنفاس بالنسبة إليهم، والعبادة بلا تكلف[10].

يعني: تجد مثل هذا يقوم الليل الساعتين، والثلاث، ونحو ذلك بلا منبه، حتى لو نام متأخرًّا ينام ساعة، أو نحو ذلك، ويقوم بلا منبه، ولا يحتاج تكلف، ويتوضأ باليوم الشاتي، ولا يجد كبير كلفة في هذا، ولا يحتاج إلى كبير مجاهدات.

بينما تجد الفئة رقم واحد لربما لا يستيقظ الفجر إلا بكلفة شديدة، ومجاهدات، ولربما تفوته تكبيرة الإحرام، أو الركعة الأولى، أو تفوته الصلاة في أيام من الأسبوع.

والمرتبة الثانية: لربما يستيقظ لصلاة الفجر، ويجاهد نفسه، لكنه قد لا يكون بذاك بالنسبةِ للعبادة، فنفسه ليست منقادة الانقياد الكامل لها، وكذلك بالنسبة للمعصية يقع، ويقوم، ويقع، ويقوم، ويحتاج إلى نصوص الوعد، والوعيد، ونحو ذلك؛ ليحصل له الانكفاف، والانزجار، والعمل بطاعة الله وترك معصيته، ومخالفته، هذا لا شك أنه واقعٌ موجود، ولو تقرأون في سير العلماء الراسخين، وتنظرون إلى حالهم من الاستقامة، والعبادة، والطاعة، والتلاوة، وقيام الليل، وصيام النهار، تجدون أن هذا مثل السجية بالنسبة إليهم، هذا هو السبب لما تسمعون تراجم معاصرين، وقدماء أنه لربما لا ينام إلا ساعة، أو يقسم الليل ثلاثة أقسام، أو نحو هذا، والبعض من طلاب العلم لربما يبقى الليل، وهو في حالٍ من السهر، والنشاط، ونحو ذلك، ويكسل عن ركعة يوتر فيها، هذا ليس من أخلاق، ولا من صفات الراسخين في العلم أصلًا، ولذلك قد تجده يحفظ أشياء، وتجده يحسن الإلقاء - ونسأل الله أن يلطف بنا، ويرحمنا برحمته - يشتغل بالعلم، ونحو ذلك، ولكنه إذا نظرت إليه في حاله، في عبادته، في صيامه، في قيامه، في طاعاته، في ذكره، في ورده، تجد التقصير الكبير، وتجد حالًا لا تفترق كثيرًا عن حال العوام، بل حال بعض العوام أفضل، بعض العامة يقومون الليل، ويبادرون إلى الصلاة، ويصلون خلف الإمام، ولا تفوتهم تكبيرة الإحرام، ما يؤذن المؤذن إلا وهو في المسجد، وبعض طلبة العلم آخر من يأتي، هذا ليس من صفات الراسخين في العلم، فهي مراتب، وراجعوا كلام الشاطبي في هذا كلام جيد مفيد.

"والمعنى: أن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه، وإنما يقولون آمنا به على وجه التسليم، والانقياد، والاعتراف بالعجز عن معرفته، وقيل: إنه معطوفٌ على ما قبله، وأن المعنى: أنهم يعلمون تأويله، وكلا القولين مرويٌّ عن ابن عباس[11]."

يعني: كل ذلك ثابت - كما ذكرت، وعلى هذا المعنى الثاني فقوله: الرَّاسِخُونَ مرفوع وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يكون مرفوع عطفًا على لفظ الجلالة وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يعني يعلمون تأويله، هذا على قراءة الوصل، ويكون قوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ هذا يكون الجملة تكون حالية، حال، يعني حال كونهم قائلين: آمَنَّا بِهِ أو خبر لمبتدأ محذوف غير الأول، أي هم يقولون: آمَنَّا بِهِ وكأن الذي قبله أحسن أنه حال، وأن الأصل عدم التقدير - والله تعالى أعلم - وأن المعنى: أنهم يعلمون تأويله.

"والقول الأول: قول أبي بكرٍ الصديق[12] وعائشة[13] وعروة بن الزبير[14]."

هنا في الهامش لم أقف على قول أبي بكر الصديق في هذه المسألة، وهو مرويٌّ عن عمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنس كما في "المحرر الوجيز لابن عطية "[15] بدون ذكر سند.

طبعًا المؤلف هنا ينقل باختصار، واقتضاب في الأحكام التي يذكرها من التخريج، أحاديث الكتاب في رسالة ماجستير في جامعة أم القرى، ينقل هذه الأحكام التي ترونها في هامش الكتاب، ينقلها باختصار، واقتضاب، فهناك تجد في التخريج لم أقف على قول أبي بكر الصديق.

وهذا ثابت عن عائشة - ا - كان من رسوخهم في العلم: أن آمنوا بمحكمه، ومتشابهه، ولم يعلموا تأويله.

القول الأول: يعني: هذا باعتبار الكنه، والكيفية، يعني على الوقف، وليس المعنى، والتفسير.

القول الثاني: أنه معطوف على ما قبله يكون بالتفسير، ويكون التشابه فيه نسبي، يعني: بالنسبة لبعض الناس، من خفي عليه فهو متشابه في حقه، فهو متشابه بالنسبة إلى فلان، وفلان، وفلان، وليس بمتشابه بالنسبة إلى فلان، هذا معنى نسبي ليس بمطلق.

وعروة بن الزبير، هنا يقول: أخرجه الطبري في "جامع البيان" بسندٍ ضعيف. 

على كل حال: هو مروي أيضًا عن ابنه هشام بن عروة، وعن أبي نهيك الأسدي، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، وأبي الشعثاء[16] وهذا القول أيضًا اختيار بن جرير[17] والواحدي[18] وابن قدامة[19] والشنقيطي[20] ونسبه أبو عمرو الداني - رحمه الله - إلى أكثر العلماء من المفسرين، والقراء، والنحاة[21].

وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: (وعليه أصحاب ابن عباس)[22] وفي قراءة ابن مسعود: (إِنْ تَأْوِيلَهُ إِلَّا عِنْدَ اللَّهُ) يعني: إنْ هنا هذه نافية، بمعنى: ما تأويله إلا عند الله، يكون الله استأثر بعلمه (إِنْ تَأْوِيلَهُ إِلَّا عِنْدَ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ).

هذا على كل حال كما ذكرت بأن الوقف، والوصل كلاهما ثابت عن ابن عباس - ا - ولكلٍ محمله، ولا إشكال في ذلك - والله أعلم -.

إذًا القول الأول: على الوقف هو قول الأكثر وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فيكون محمله على ما ذُكر، حقائق الأمور الغيبية، ونحو ذلك، ولكن على الوصل أيضًا المعنى واضح، ولا إشكال فيه، فيمكن أن تصل، ويمكن أن تقف، كل ذلك سائغ - والله أعلم -. يقول ابن جزي هنا: "وهو أرجح" يعني القول الأول على الوقف.

"القول الأول: قول أبي بكرٍ الصديق، وعائشة، وعروة بن الزبير، وهو أرجح.

وقال ابن عطية: المتشابه نوعان: نوعٌ انفرد الله بعلمه، ونوعٌ يمكن وصول الخلق إليه، فيكون الراسخون ابتداءً بالنظر إلى الأول، وعطفًا بالنظر إلى الثاني."

"المتشابه نوعان: نوعٌ انفرد الله بعلمه": فيكون هنا الوقف على لفظ الجلالة، والراسخون ابتداء "ونوعٌ يمكن، وصول الخلق إليه" فيكون على الوصل، فيكون معطوف وَالرَّاسِخُونَ معطوف على لفظ الجلالة وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يعني: يعلمون تأويله، وعطفًا بالنظر إلى الثاني.

وعلى كل حال: عرفتم أن الوقف قول الأكثر، لكن الوصل - كما قلت - أيضًا ثابت عن ابن عباس - ا - وهو مروي أيضًا عن مجاهد، والربيع بن أنس، ومحمد بن جعفر بن الزبير، والضحاك بن مزاحم[23] وشيخ الإسلام - رحمه الله - ذكر القولين، وأنه لا منافاة بينهما.

وجوَّز الأمرين: الراغب الأصفهاني أيضًا[24] وهذا مما يدخلُ في قاعدة: أن القرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فمن الفروع الداخلة تحتها ما يتعلق بالوقف، والوصل، والابتداء، يعني يتغير المعنى، ويكون كل ذلك صحيح.

قد ذكرت في بعض المناسبات قوله - تبارك، وتعالى -: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ على هذه القراءة المتواترة، تقف هنا، القتل وقع على من؟ على النبي، أنبياء كُثر "كأي" تدل على التكثير أنبياء قٌتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ يعني جماعات كثيرة أتباع مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ يعني من قتلِ نبيهم، ومُقدَمهم، وقائدهم - عليه الصلاة، والسلام - مَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وعلى الوصل: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ يعني: قُتل كثير من الأتباع، فما فت ذلك في أعضاد من بقي على قيد الحياة.

على القراءة الأخرى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران:146] وتقف وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ كثير من الأنبياء قاتلوا الكفار مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:146] فيتغير المعنى بحسب الوقف، وكل ذلك صحيح - إن شاء الله - وله أمثلة على كل حال، لكن من أوضحها: آية آل عمران هذه في المتشابه.

"كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا أي: المحكمُ، والمتشابه من عند الله."

رَبِّنَا: هذا من قولِ الراسخين، وجاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء ثم قال رسول الله ﷺ اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك[25].

وعن شهر بن حوشب، قال: قلت لأم سلمة: يا أم المؤمنين ما كان أكثر دعاء رسول الله ﷺ إذا كان عندك؟ قالت: "كان أكثر دعائه: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" قالت: فقلت: يا رسول الله ما لأكثر دعائك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ قال: يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ. فتلا معاذ  رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8][26].

هنا يقول: حكاية عن الراسخين، يعني أن هذا من كلامهم أنهم يقولون هذا، ويحتمل أن يكون منقطعًا على وجه التعليم، يعني: يكون هذا من قبيل الموصول لفظًا، المفصول معنًى.

يعني: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا هذا كلام الراسخين وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا يكون من كلام الله يعلم عباده كيف يدعون. 

وعلى الأول: يكون من جملة كلام الراسخين أنهم يقولون: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ويدعون، ويقولون: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا وهذا فيه معنًى لطيف في غاية الأهمية، وهو أنه مع رسوخهم في العلم يسألون الله الثبات رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا فيخافون على أنفسهم، فهذا لا شك أنه يدل على معنًى كبير، إذا كان هؤلاء مع رسوخهم بهذه الحال يسألون الله ألا يُزيغ قلوبهم، فكيف بمن دونهم ممن لا علم له، أو لديه من العلم ما يقبل التشكيك، والتردد، ونحو ذلك، يضطرب، لا يثبت على حال!

فهذا من باب أولى أن يلهج كثيرًا بهذا الدعاء، فهؤلاء ما أورثهم الرسوخ في العلم الغرور، والإعجاب بالنفس، فيشعر أنه لا سبيل إلى الضلال، أو الزيغ، ولا طريق للانحراف إلى قلبه، فهم يخافون، فالمؤمن حري به أن يخاف دائمًا، وأن يُكثر من هذا الدعاء، ويبتعد - إذا كان هؤلاء يسألون مع رسوخهم - يبتعد عن كل الأسباب التي تؤدي إلى زيغ القلب من النظر للشبهات، وتعريض القلب للفتنة: فتنة الشهوات، وفتنة الشبهات، لئلا تعلق في قلبه فيضل، أما الذي يفرِّط، ويتعرض لكل آسرٍ، وكاسر، فيقرأ هنا، وهناك، ويتابع مدونات، ويتابع حسابات، ويبحث عن الكتب، وكأنه قد ظفر بشيءٍ عظيم حينما يجد كتابًا لبعض أهل الضلال في سفر، أو نحو ذلك.

هذا قبل وجود هذه الشبكة، ونحو هذا كان بعضهم يفرح إذا وجد بعض كتب الضلالة، بل رأيت بعض من فرح فرحًا كبيرًا أنه وجد كتابًا مشهورًا في السحر في بعض البلاد - ولا حاجة لذكر اسم ذلك الكتاب - فرأيت ذلك الرجل مغتبطًا أنه وجده في أحد المكتبات، يُبشر أنه وجده، هو ليس من السحر في شيء لكن الرغبة بالممنوع، والرغبة بالشيء النادر، ونحو هذا، فهذا موجود، وبعض الناس يبحث عن كتب للفرق المنحرفة، والضالة، ويحاول أن يقتني هذه الكتب، وليس من أهل الاختصاص، وإنما البحث دائمًا عنه، والآن أصبح كل شيء متاح عبر هذه الشبكة، فتجد يقرأ لهذا، ويتابع هذا، ويبقى القلب في حالٍ من التقلب، والتعرض لفتن قد لا تقف أمامها الجبال، وهو بحجة أنه يثق كما يقول بعضهم: أنا واثق من نفسي، ونظري في هذه الضلالات، والانحرافات التي تقولون عنها انحرافات، وضلالات يزيدني ثقةً بما عندي؛ لأني لا بد أن أعرف كل ما عند الآخر؛ لأكون على بينة، هذا من أعظم أبواب الزيغ.

فكان هذا دعاء الراسخين: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا والنبي ﷺ لما رأى مع عمر نسخة من التوراة غضب[27] فكيف بكتب مليئة بالفتن، والشبهات بأنواعها؟ أو الذي يقضي ليلًا طويلًا أمام مواقع إباحية، ويرى ما لا قِبل له به فتتراءى له الفاحشة، وهو ساجد، ولا يرى فيمن يشاهد من محارمه إلا صورة المرأة العارية، هذا كيف يكون ممن يطلب السلامة، والخلاص، والثبات على الحق، وقلبه بمثل هذه الحال مستطير مع هذه الشرور الكبار، فقد ينحرف في أي لحظة، وقد ينحرف، ويضل، ويُختم له بالخاتمة السيئة عند الموت. 

وقد رأيت بعض من كان دون ذلك يقرأ على بعض المتكلمين في علوم اللغة، والبلاغة، ونحو هذا، ونُهي عن هذا، ونُصح، فكان يذهب إليهم سرًّا سنوات، ثم بعد ذلك قال كلمة سمعتها، قال: أجد في نفسي حُسيكة من أثر تلك القراءات على هؤلاء، لكن بعد متى؟ بعد سنوات، ولم ينتصح، ويذهب إليهم سرًّا، بعض المبتدعة من كان يذهب إليهم في أوقات الظهيرة، وإذا خفت الرِجْل، والناس في هدأة، ونحو هذا، ويذهب إليهم في الساعة الثانية ظهرًا في الصيف، فيقرأ عليهم، ويوجد غير هؤلاء ممن يمكن أن يأخذ العلم عنه، فأثر هذا فيه - كما يقول هو - وفي البداية كان يقول: هذه علوم لا علاقة لها، والواقع أن الأخذ، والتلقي عن مثل هؤلاء يؤثر في القلب - الله المستعان -.

"رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا [آل عمران:8]: حكايةٌ عن الراسخين، ويحتمل أن يكون منقطعًا على وجه التعليم، والأول أرجحُ لاتصال الكلام."

يعني: هذا الأصل أنه الكلام يكون متصلًا، فيكون هذا من دعائهم.

"وأما قوله: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ: فهو من كلام الله تعالى لا حكايةُ قول الراسخين."
  1.  الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/145).
  2.  تفسير ابن كثير (2/11).
  3.  أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب التسبيح، والدعاء في السجود، رقم: (817) ومسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع، والسجود، رقم: (484).
  4.  تفسير الطبري (6/186).
  5.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب منه آيات محكمات [آل عمران:7] رقم: (4547) ومسلم، كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعيه، والنهي عن الاختلاف في القرآن، رقم: (2665).
  6.  تفسير ابن أبي حاتم (2/595).
  7.  تفسير ابن كثير (2/8).
  8.  انظر قصته في تاريخ دمشق لابن عساكر (23/410).
  9.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب منه آيات محكمات [آل عمران:7] رقم: (4547) ومسلم، كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعيه، والنهي عن الاختلاف في القرآن، رقم: (2665).
  10.  الموافقات (1/89).
  11.  تفسير ابن كثير (2/11).
  12.  لم أقف عليه.
  13.  تفسير الطبري (6/202).
  14.  المصدر السابق.
  15.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/403).
  16. تفسير ابن كثير (2/10).
  17.  تفسير الطبري (6/204).
  18.  التفسير الوسيط للواحدي (1/414).
  19.  ذم التأويل (ص:37).
  20. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/189).
  21.  المكتفى في الوقف، والابتدا لأبي عمرو الداني (ص:37).
  22.  مجموع فتاوى ابن تيمية (1/29).
  23.  تفسير ابن كثير (2/11).
  24.  المفردات في غريب القرآن (ص:443).
  25.  أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء (2654).
  26.  أخرجه الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ رقم: (3522).
  27.  مسند أحمد (23/349) رقم: (15156).

مرات الإستماع: 0

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7].

هذه الآية في صدر هذه السورة له ارتباط ظاهر في هذا السياق الطويل الذي جاء في الرد على النصارى، وفي إبطال دعواهم في تقرير التوحيد الخالص لله رب العالمين، وذلك من جهة أن النصارى كانوا يتبعون المتشابه من القرآن ويُلبسون به، لما قدم عليهم المُغيرة بن شعبة إلى نجران سألوه عن ذكر هارون مع مريم في قوله -تبارك وتعالى-: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28] قالوا: كان بين هارون ومريم مدة من الزمان طويلة فلم يدرِ ما يُجيبهم حتى قدم على النبي ﷺ فسأله فقال:  إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم [1].

يعني: أن هارون الذي قيل يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28] هو مُسمى على هارون الذي هو من أنبيائهم، وهو أخو موسى -عليهما السلام-، فكان هذا هو الجواب، فهذا من اتباع المتشابه، وهناك أشياء كانوا يتبعونها في المتشابه لا حاجة لذكرها في قضايا الاعتقاد والتثليث يحتجون بأشياء من القرآن، يقولون: إنه تدل على اعتقادهم الفاسد الإشراك والتثليث، وأن عيسى إله وأنه ابن الله، الرد على هذه الشبهات ظاهر لا يحتاج إلى كد الأذهان، ولا إلى جهد، ولست أعرض الشبهات، ولكن المقصود بيان هذا القدر أن النصارى وَالِغُون في اتباع المتشابه.

فهذه الآية فيها تقرير عام لهذا الأصل الكبير بأن أهل الزيغ يتبعون المتشابه، فهذا من أبرز سماتهم، وسيأتي الحديث عن هذا إن شاء الله تعالى، وأما أهل الرسوخ فهم أهل الإذعان والتسليم فلا يتتبعون المتشابه، ولا يضربون كتاب الله بعضه ببعض، فهذا سبيل الراسخين اتباع المحكمات ورد المتشابهات إلى المحكمات.

على كل حال، الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية يُبين أنه وحده الذي أنزل على النبي  ﷺ الكتاب هذا القرآن، وأن هذا الكتاب ينقسم من حيث الإحكام والتشابه إلى قسمين: الأول: المتشابه، والثاني: المحكمات، وهذه الآيات المحكمات قلنا: الواضحات من جهة الدلالة؛ ظاهرة الدلالة لا تحتاج إلى غيرها لفهم معناها، بخلاف المتشابهات فإنها بحاجة إلى ردها إلى المحكم لتبين المراد، هذا أحسن ما قيل في معنى المحكم والمتشابه وهو الذي قال به الإمام أحمد -رحمه الله-[2].

كلام العلماء كثير في معنى المحكم ومعنى المتشابه، والحديث في هذه الآية حديث يتشعب، ولكن أحاول أن أتحدث بقدر لا يُفضي إلى شيء من الخروج عن المقصود، أو التوسع والتطويل قدر الإمكان، وإلا فهذه من المواضع التي تحتاج إلى بيان وهي أصل في باب المُحكم والمُتشابه في كتاب الله -تبارك وتعالى- أعني المُحكم والمُتشابه بالمعنى الخاص؛ لأن الإحكام والتشابه في كتاب الله -تبارك وتعالى- جاء بإطلاقين: الإطلاق الأول وهو الإطلاق العام، فالله وصف القرآن كله بأنه مُحكم، ووصف القرآن كله بأنه مُتشابه.

كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود:1]، كل القرآن مُحكم بهذا الاعتبار، والمعنى على هذا أنه مُتقن في مبانيه وألفاظه، ليس فيه خلل، ولا لحن، ولا خطأ، ولا عيب، وكذلك أيضًا هو مُحكم في معانيه، مُحكم في المباني والألفاظ، مُتقن وهو محكم أيضًا من جهة المعاني ليس فيه تعارض وتضارب، ليس في مضامينه شيء يمكن أن يُقال إنه غلط، أو أنه يُضاد ويُخالف العقول أبدًا، فهو مُحكم لا يمكن لأحد أن يستدرك عليه قليلًا ولا كثيرًا، هذا كلام رب العالمين الذي أحاط بكل شيء علما.

وأما التشابه فكما قال الله في وصف القرآن كله بأنه متشابه: كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [الزمر:23]، كل القرآن متشابه بالمعنى العام بمعنى أنه يُشبه بعضه بعضًا في الحُسن والبلاغة والفصاحة من جهة الألفاظ، ومن جهة المعاني يُصدق بعضه بعضا، فهذا بالمعنى العام.

وهذه الآية هي الوحيدة في كتاب الله التي تذكر الإحكام والتشابه بالمعنى الخاص، بمعنى أن التشابه المحكم والمُتشابه بالمعنى الخاص، المُحكم ما استقل بمعناه وظاهر وبان المُراد منه، فلم يحتج إلى غيره لمعرفة المراد به مثل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [النساء:77]، وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، وهذا أكثر القرآن، ظاهر من جهة المراد.

النوع الثاني: المُتشابه وهو ما احتاج إلى غيره، يعني: يحتاج أن يُرجع إلى المُحكم لتبين المراد، فهذا كقوله -تبارك وتعالى-: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ [الأنعام:3]، لاحظ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ، ما المراد؟ هل يُفهم من هذا أن الله ، وتقدست أسماؤه، وتنزه وتعالى عن كل عيب ونقص- في السماوات والأرض؟ حاشا وكلا، لكن لو أنه التبس على أحد من هذه الآية المراد يرجع إلى الآيات المُحكمات الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، في سبعة مواضع من كتاب الله ، يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، فهو مُتصف بالعلو والفوقية، مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، إذًا ما المراد بقوله: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام:3]؟

بعض العلماء فسره، قال: وَهُوَ اللَّهُ، يعني: المألوه، فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ، يعني: يألهه أهل السماء وأهل الأرض، هذا المعنى، ليس أنه في السماوات وفي الأرض مُخالطا لخلقه؛ فالله بائن من خلقه فوق سمواته، مستوٍ على عرشه، وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام:3]، فتُرجع إلى الآيات الأخرى المحكمات.

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]، فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا، قد يفهم منها بعضهم أن السعي بين الصفا والمروة أمر لا يجب فمن فعل فلا حرج فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]، فهنا يُرجع إلى المُحكمات سواء كان ذلك من نصوص الكتاب أو من نصوص السنة، فيتبين المراد بذلك، يعني: يرتفع الإشكال، يرتفع اللبس، وهكذا في أمثلة متنوعة، في أبواب شتى، فهذا التشابه أحيانًا يكون لغرابة اللفظ، أو غموضه فلا يظهر المعنى.

وأحيانًا يكون لإجماله اللفظ يحتمل أكثر من معنى فما هو المراد من نفس اللفظة:  وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، القُرء يُطلق في اللغة على الحيض ويُطلق على الطُهر، ما المراد؟ فهذا مُشترك.

وقد يكون التشابه بسبب التركيب كما ذكرت آنفًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158] ما قال أن لا يطوف بهما فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]، فبالرجوع إلى مُلابسات النزول يتبين المراد، فهذا من جهة التركيب، فهذا أيضًا قد يكون بسبب ما يظهر من التقابل بين الآيات، يعني: ما يُسميه العلماء مُوهم التعارض لا يوجد في القرآن تعارض لكن قد يتوهم البعض، مثلًا في قوله -تبارك وتعالى- : فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ [الرحمن:39]، هنا نفى السؤال عن الجميع عن الثقلين إِنسٌ وَلا جَانٌّ، ومع قوله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24]، فهنا نفى السؤال وهنا أثبته، فهذا قد يتوهم البعض منه التعارض، والواقع أنه لا تعارض، فهم لا يُسألون سؤال استعتاب من أجل أن يعتذر فيُقبل العذر، وإنما يُسألون سؤال تبكيت، فهذا وجه.

وبعض العلماء يقولون: يوم القيامة يوم طويل فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]، ففي بعض أحواله أحوال ذلك اليوم لا يُسأل أحد، وفي بعضها يُسألون، وهكذا في الآيات التي نفى التكليم وَلَا يُكَلِّمُهُمُ [البقرة:174]، قال يعني عن أهل النار: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، المعنى: أنه لا يُكلمهم كلام تكريم، وإنما يُكلمهم كلام إهانة.

فهذا على كل حال يوضح المراد بالمُتشابه، وهذا التشابه كله من جهة المعنى يُقال له المُتشابه النسبي، المعنى أنه بالنسبة إلى بعض الناس مُتشابه، وبالنسبة لبعضهم من قبيل المُحكم، يعني: أن التشابه من جهة المعنى لا يكون من قبيل المُتشابه المُطلق، المُتشابه المُطلق الذي لا يعلم أحد معناه، لا يوجد في القرآن شيء لا يعلم أحد معناه؛ لأن الله لم يُخاطبنا إلا بما نفهم، لكنه قد يخفى على البعض، ويُشكل عليه ويظهر لغيره، قد لا يفهم المراد من آية، ولا يعرف الجمع بين آيتين، لكن غيره يعلم المراد ويتضح له ذلك، فهو بالنسبة إلى من عرفه مُحكم، وبالنسبة إلى من خفي عليه مُتشابه، بالنسبة، فهذا الذي نُسميه المُتشابه النسبي، كل ما يتعلق بالمعاني في هذا الباب فهو من قبيل المتشابه النسبي لا يوجد مُتشابه مُطلق، أين المُتشابه المُطلق؟ هو في الأمور الغيبية.

هنا قال: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] فالوقف على لفظ الجلالة وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] هنا لا يُحمل على المعنى، التأويل عند السلف في القرآن يأتي لمعنيين: المعنى الأول التفسير، تفسير الكلام، تأويل الكلام تفسير الكلام، وتأويل الرؤيا تعبير تفسير نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [يوسف:36]، ويأتي بمعنى آخر وهو ما يكون في ثاني حال في باب الأمر بفعل المأمور، وباب الخبر بوقوع المُخبر به، وفي باب الرؤيا لتحققها ووقوعها، يعني: في باب الأمر في حديث عائشة -رضي الله عنها المشهور-: لما نزلت على النبي ﷺ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ۝ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ۝ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]، قالت: كان رسول الله ﷺ يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن [3] ما معنى يتأول؟ يعني: يُطبق ويُنفذ الأمر، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3]، ففعل المأمور هذا يُقال له تأويل وتأول.

وكذلك أيضًا ووقع المُخبر به هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:53]، يعني: وقوع ما أخبر به، ما أخبر به القرآن من وقوع القيامة والحساب والجزاء والجنة والنار، فهذا يُقال له تأويل من هذه الحيثية، يعني: وقوع تحقق ما أخبر به هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الأعراف:53].

وهكذا تأويل الرؤيا في قول يوسف : هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف:100]، لما قال: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4]، هذه الرؤيا، فلما رآهم حينما قدموا عليه بعد ذلك وسجدوا  وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ [يوسف:100]، يعني: تحققت، فيأتي تأويل الرؤيا بمعنى التفسير نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [يوسف:36]، ويأتي بمعنى تحقق الوقوع، فهذا معنى المتشابه على الوقوف على لفظ الجلالة في آية آل عمران هذه وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، أي: حقائق الأمور الغيبية، معاني الصفات لله معلومة هذه مُحكم، لكن كيفية الصفة هذه مُتشابه، ولا يجوز لأحد أن يسأل عنها.

ولهذا لما جاء الرجل إلى مالك بن أنس وقال: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ  [الأعراف:54]، كيف استوى؟ فعلته الرحضاء، يعني: تغيرت ملامحه، وظهرت عليه آثار الغضب، احمر وجهه، ثم بعد ذلك أطرق ورفع رأسه بعد ذلك وقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، أخرجوا الرجل، فأمر به فأُخرج "[4]

هذا يسأل عن المُتشابه، حقائق الأمور الغيبية، كيف؟ كيف استواءه تعالى؟ كيف وجهه؟ كيف يده؟ هذه أمور لا يجوز الخوض فيها لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، متى الساعة؟ وقت القيامة؟

هذا الله أعلم، الحور العين خُلقن من ماذا؟ الله أعلم، ثمار الجنة، أنهار الجنة، من أي مادة؟ هذه أمور لا نخوض فيها؛ لأنها غيبية، فالوقف ثابت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- على قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7][5] فهذا المُتشابه المُطلق الذي لا يعلمه إلا الله، وهذا لا يكون في المعاني وإنما في الغيبيات.

والوصل ثابت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7][6]

فعلى الوصل يكون الراسخون في العلم ممن يعلم تأويله، الله يعلم والراسخون في العلم يعلمونه، وإنما يخفى على من دونهم، فيكون على الوصل يكون التشابه في المعنى، وليس في الحقائق حقائق الأمور الغيبية، والكُنه والكيفية ونحو ذلك هذا لا يعلمه الراسخون في العلم، فعلى الوقف يكون المُتشابه من قبيل المُطلق ويُحمل على الكُنه والكيفية وحقائق الأمور الغيبية وما أشبه ذلك، وعلى الوصل هذا صحيح أيضًا، لكنه يكون معنى المتشابه التشابه النسبي من جهة المعنى يُشكل على بعض ويعرفه آخرون، فالوصف له محمل، والوقف له محمل، وهكذا القرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فإن وقفت صار لها معنى، وإن وصلت صار لها معنى آخر. 

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7].

فقوله -تبارك وتعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، هذا شروع في بيان أقسام الناس إزاء المتشابه، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7]، أي: ميل عن الحق، فهؤلاء مرضى الشبهات، فحالهم أنه يتبعون المتشابه لسوء قصدهم، وذلك طلبًا للفتنة ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران:7]، فتن الناس بالتشكيك والتضليل فيما يتعلق بالوحي، وما يتبع ذلك من النبوة فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، طلبًا لحمله على محامل غير مرادة لله -تبارك وتعالى- وذلك؛ لأن هذا المتشابه قد يكون محتملاً لوجوه من المعاني فيحملونه على مرادهم الفاسد، بخلاف ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، والله وحده هو الذي يعلم تأويله، على الوقف -كما ذكرنا- باعتبار أنه لا يعلم حقائق الأمور الغيبية إلا الله -تبارك وتعالى.

وأما الراسخون في العلم الذين حصّلوا فيه تحصيلاً بحيث صار العلم سجية لهم وتمكنوا فيه غاية التمكن، فهؤلاء بخلاف حال أولئك الزائغين فإنهم يُعلنون موقفهم إزاء المتشابه بالإيمان والإذعان والتسليم، هذا على الوقف.

قلنا على الوصل يكون هؤلاء ممن يعلم تأويله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7]، أي: يعلمون تأويله، قائلين في الوقت نفسه آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، يعني: المحكم والمُتشابه، فهؤلاء يُصدقون، ولا يضربون بعضه ببعض، ولا يُلبسون، ولا يُنقرون في هذه المتشابهات وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7]، لا يحصل التذكر والتعقل والانتفاع بذلك كله إلا أصحاب العقول السليمة، أصحاب العقول الراجحة الصحيحة.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات والفوائد: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:7]، "هو" ابتدأ بالضمير المتعلق به -سبحانه وتعالى- تعظيمًا وتفخيمًا للمُنزل، وما يتبع ذلك أيضًا من تعظيم شأن المُنزل والمُنزل عليه، هُوَ الَّذِي [آل عمران:7]، والتعبير هنا بالضمير في هذا السياق أفخم من التعبير أيضًا بالاسم الظاهر، وهذه قضايا يُدركها من له ذوق في البلاغة والفصاحة هُوَ الَّذِي [آل عمران:7].

لو قال الله الذي خلاف هو الذي، ففي كل مقام يكون التعبير بحسبه، والقرآن هو أفصح الكلام، هُوَ الَّذِي [آل عمران:7] ثم لاحظ معلوم أن الضمير معرفة، الضمائر معارف، فهذه معرفة "هو" وكذلك دخول أل (الذي) هاتان معرفتان تعاقبتا وذلك يُشعر بالحصر هُوَ الَّذِي [آل عمران:7]، يعني: ليس غيره أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7]، فذلك يرجع إلى الله وحده هو المُنزل وحده هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ [آل عمران:7]، ومن ثَم هذا لا شك أنه يُفيد الامتنان من جهة، فالله -تبارك وتعالى- يتمدح بهذا، وفيه أيضًا من رفع شأن المُنزل عليه هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ [آل عمران:7]؛ لأنه قدم الضمير المتعلق به فقُدم هنا الجار والمجرور ما قال "هو الذي أنزل الكتاب عليك" قال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:7] "عليك" فجاء بالضمير المتعلق بالنبي ﷺ وقدمه فهذا لا شك أنه تقديم يدل على تشريف، وكذلك أيضًا تقديم ما حقه التأخير يدل على الاختصاص أو الحصر، يعني: أنه نزله على نبيه ﷺ ولم يُنزله على أحد سواه، يعني: ممن كان في ذلك الحين، وإلا فالله أنزل على أنبياء قبله كما هو معلوم.

ثم أيضًا إضافة ذلك إلى الله بهذه الصيغة هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، هذا فيه أيضًا إشارة إلى تنزيل المُتشابه أنه امتحان للقلوب واختبار لها، فالله أراد ذلك أنزل الكتاب منه كذا ومنه كذا؛ ليحصل بسبب ذلك الامتحان فيظهر أرباب القلوب المريضة وأرباب القلوب الصحيحة، وكذلك أيضًا ذكر الكتاب "الكتاب" كما ذكرنا في بعض المناسبات ودخول أل عليه هكذا يدل على أنه الكتاب الفرد، يعني: الكتاب الذي استجمع الأوصاف الكاملة بحيث إذا ذُكر الكتاب بإطلاق فهو القرآن، لم يكن هناك حاجة للتصريح بقوله مثلاً هو الذي أنزل عليك القرآن، وإنما هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:7]، والكتاب هو أحد الأسماء الأربعة للقرآن الكريم، العلماء -رحمهم الله- يذكرون أسماء كثيرة، وبعضهم ألف في ذلك مصنفًا مستقلاً في أسماء القرآن، والواقع أن أكثر ما يذكرون في ذلك إنما هو من قبيل الأوصاف، مثل الهدى، والتبيان، والنور، ونحو ذلك، هذه أوصاف للقرآن وليست بأسماء، وإنما أسماءه الثابتة أربعة: القرآن، والكتاب، والفرقان، والذكر، وهي التي ذكرها أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- في أول تفسيره، أربعة أسماء[7] وما عداها فهي أوصاف.

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ [آل عمران:7]، ما قال هو الذي نزّل عليك الكتاب منه آيات، قلنا نزّل تدل على التنجيم، وهي تدل على التكثير فعّل لكن هنا قال: أَنْزَلَ وذلك أنه هنا أضاف إليه هذا الوصف.

مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، فذلك -والله أعلم- باعتبار النظر إلى جملة القرآن، وليس النظر إلى بعض أفراده في كل آية.

وهنا قال: أَنْزَلَ، لأنه بالنظر الكلي منه كذا، ومنه كذا، لكن حينما يقول نزّل كما في صدر هذه السورة اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۝ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:2-3]، فذكر "نزّل" وذلك باعتبار أنه نزل مُنجمًا شيئًا بعد شيء، حينًا بعد حين، والله أعلم.

كذلك أيضًا هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7]، هنا لاحظ أنه قدم المُحكمات، وقلنا إن المُحكمات جمع مُحكم، والمُحكم ما استقل بنفسه، يعني في بيان المراد منه، لم يحتج إلى غيره لوضوحه وظهوره، والمتشابه بخلافه ما احتاج إلى غيره لبيان المراد منه، وهنا قدم ذكر المحكمات قال: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7]، قدمها لأنها الأصل، والله أعلم؛ ولأنها الأكثر والأغلب من الآيات أنها من قبيل المحكمات.

هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7] ومعنى الأم "أم الكتاب" يعني الأصل الذي يعول عليه ويُرجع إليه، وذلك -والله تعالى أعلم- بمعنى أن المُتشابهات تُرجع إلى المحكمات، وذلك أنها لا تُفهم إلا بإعادتها إلى المُحكم {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:7]، "هن" يعني جميع المُحكمات هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7] وما قال أمهات الكتاب؛ لأن المقصود بذلك جميع المحكمات فهي موصوفة بهذا الوصف، وليس المقصود أن كل آية منها هي أم الكتاب، لا، وإنما مجموع المحكمات أم الكتاب، وليس كل آية بمفردها هي أم الكتاب، فعموم المتشابهات ترجع إلى الأصل الذي هي الأم، فالأم يُقال لمجمع الشيء كما ذكرنا في الكلام على التسهيل في علوم التنزيل بشيء من التوسع، ولهذا يُقال للراية التي يجتمع الجيش عليها يُقال لها أم، ويُقال لجلدة الرأس أم الدماغ، والله قال: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:9]، وقد ذكرنا في الكلام على التفسير التعليق على المصباح المنير أقوال أهل العلم في ذلك، بعضهم يقول فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:9]، يعني: يخر في النار على أُم رأسه، وبعضهم يقول غير ذلك مما يرجع إلى هذا المعنى الذي هو الأصل أصل الشيء، ومجمعه وما إلى ذلك هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7].

وأيضًا قوله عن المحكمات هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7]، يدل على شرفها ومنزلتها، فقد قدمها وجعلها أصلاً، وهذا ظاهر، والله تعالى أعلم.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، قدم هنا ذكر أصحاب الزيغ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7]، وأخر الراسخين، ربما يكون ذلك -والله تعالى أعلم- باعتبار أن الآيات سيقت في الرد على النصارى ومجادلة النصارى، وهم أهل زيغ ويتبعون ما تشابه كما ذكرنا في الليلة الماضية، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7]، فهو يُخاطبهم ويُجادلهم، ويرد عليهم ويُبين ما هم عليه من الضلال، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7]، فقدم ذكر هؤلاء، وقد يكون ذلك باعتبار أن هذا الصنيع قُدم لشدة خطورته وضرره وضرورة التفطن له؛ لأنه أصل الضلال، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7].

ولاحظ أنه أضاف الزيغ إلى القلوب، وذلك أن موضع الزيغ الهدى والضلال في القلب رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا [آل عمران:8]، فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4]، فذلك يرجع إلى القلب، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]، فالهدى والضلال والزيغ كل ذلك يرجع إلى القلب، موضعه القلب، فالقلب هو مُستقر الإيمان والهدى.

وكذلك أيضًا الكفر والضلال والشهوات، ولهذا قال في مرض الشهوات فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، وفُسر هنا في آيات الأحزاب بالميل المُحرم للنساء فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، وكذلك النفاق فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10]، فهذا كله يرجع إلى القلب، فالنفاق يكون في القلب، والكفر يكون في القلب، أعني أساسه، وإلا فالكفر قد يكون باللسان، وقد يكون بالعمل والفعل كل ذلك يكون الكفر به، لكن أساسه ومستقره القلب، ومن هنا يحتاج المؤمن دائمًا إلى الدعاء فعن أنس قال: كان رسول الله ﷺ يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء [8]

بعضهم قال: "ما سُمي القلب قلبًا إلا من تقلبه" يتقلب، حتى قال بعض السلف كما ذكرنا في الكلام على الأعمال القلبية "أن القلب أشد تقلبًا من القِدر إذا استجمعت غليانا"، وبعضهم مثل ذلك بالريشة تكفأها الرياح، القلب يتغير -نسأل الله العافية والسلامة لنا ولكم ولإخواننا المسلمين- وكما قال النبي ﷺ في آخر الزمان في أوقات الفتن: يُصبح الرجل مؤمنًا ويُمسي كافرا، ويُمسي مؤمنًا ويُصبح كافرًا [9]

يعني: تحول سريع فيكثر ذلك في أوقات الفتن، فذلك يتطلب المزيد من الدعاء وسؤال المعبود الثبات على الحق والهداية إليه، ونحن في كل ركعة اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ  [الفاتحة:6]، كما يوجب ذلك الحذر الشديد من تعريض القلب لرياح الشُبه، فالشُبه كما قال السلف خطافة، وكذلك لنار الشهوات، الإنسان فيه من الغرائز ما هو معلوم، فإذا أوقد تحتها النار صار لها من الضِرام ما يعجز معه من كبح النفس، فهذا الذي يقرأ في الشبهات، ويجلس مع أهل الشبهات، ويسمع الشبهات، وذاك الذي يُشاهد، وينظر ما يُثير الشهوات كل هؤلاء عُرضة للضلال، فإن أصلي الضلال: إما بالشُبهة وإما بالشهوة، كل من ضل فإن ضلاله إما أن يكون لشُبهة أو لشهوة، أصحاب الشبهات هم أصحاب الأهواء والبدع التي لا يتوبون منها، يموت دونها، يتهافت على الموت ويسأل ربه التثبيت، ويرى أن الآخرين على ضلال، ولهذا قال السلف بأن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، ذلك أن صاحب المعصية يُرجي التوبة ويعلم أنه على ضلال وانحراف، ولكن صاحب الشبهة يموت دونها، ويقوم ويقعد وهو يقول أسأل الله الثبات.

وكما ترون -نسأل الله العافية- هؤلاء الذين يتعرضون للشبهات ويقرؤون ويسمعون مقاطع وغير ذلك من الضلالات، تراه -نسأل الله العافية- يفعل الأفاعيل والجرائر والجرائم الكبار العظام الموبقات ويتقرب إلى الله بأفضل الأوقات، يعني يتقرب إلى الله بقتل أبيه وأمه في رمضان، يتقرب إلى الله بقتل المصلين في ساحات المسجد النبوي، يقتل الصائمين عند الإفطار، هذا لا يمكن أن يُقال إن هذا يُمثل وهو يقتل نفسه قِتلة -نسأل الله العافية- قد يعجزون عن جمع وتتبع ما تناثر من جسده، هذه لا يُقدم عليها إلا إنسان قد تشرب عقيدة يموت دونها.

فلاحظوا الضلالة إذا أُشربها القلب كيف يتحول صاحبها، ولذلك بعض الناس يقولون هل هذا سحر، هو ليس بسحر ولكن الناس أسرى لأفكارهم ومعتقداتهم، يضحون من أجلها، ومن هنا كانت الخطورة بالغة في تعريض القلب للشبهات، القراءة في المواقع، السماع للمقاطع، الجلوس مع أصحاب اللوثات، لا تُجالس صاحب لوثة، فِر من هؤلاء فرارك من الأسد؛ لأن صاحب اللوثة يقذف الشبهة فتعلق في القلب، كما كان السلف يقولون، كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم ما يجلسون مع أحد من هؤلاء ولا يسمعون منه إطلاقًا، ويقولون: القلب ضعيف والشُبه خطافة، وأغلى ما يملك الإنسان قلبه وإيمانه، فلا يُعرض ذلك للشُبهات أو الشهوات.

وقد سمعت من بعض الأمهات ومن بعض من ابتلي بشيء من ذلك أنه حينما كان يُشاهد مشاهد تُثير الشهوات والغرائز أنه كان يبحث عن أقرب شيء يستفرغ فيه هذه الشهوة فيقع على أخته، وبعضهم يقع على بنته، سمعت هذا من زوجات، وسمعته من بعض من ابتلي بهذا، يوقد تحت الشهوات، والغرائز جامحة تحتاج إلى ضبط، وهذا يوقد النار تحتها ليلاً طويلاً، وينظر في هذه المشاهد فيُسعر قلبه حتى يجد أثر ذلك في جميع أجزاء جسده يتلهب، ثم بعد ذلك يعمى لا يرى شيئًا إلا هذه الشهوة فيقع على أقرب من يليه، على بنته، على أخته، ونحو ذلك -نسأل الله العافية.

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7].

تحدثنا عن صدر هذه الآية وقلنا بأنها أصل في الباب؛ باب المحكم والمُتشابه بمعناه الخاص، فقوله -تبارك وتعالى-: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، قلنا الزيغ بمعنى الميل، هذه القلوب زائغة عن الحق، إما بسبب النفاق، أو بسبب الشكوك والشبهات الغالبة على صاحبها، فَيَتَّبِعُونَ فالفاء تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، يعني: أن الزيغ الذي يقع في القلوب يكون سببًا لاتباع المتشابه فَيَتَّبِعُونَ فهذا مرتب على هذا، لماذا يتبعون ما تشابه؟ لأن القلوب فيها زيغ، كما أن الفاء هذه تدل على التعليل بمعنى ما العلة الموجبة لاتباع المتشابه عند هؤلاء السبب هو الزيغ.

وكما جاء في الحديث: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم [10] فهذه أمارة وعلامة بارزة وواضحة لزيغ القلب، أن صاحبه يتتبع المتشابه، يتتبع المتشابه إما في نفسه فيقع عليه ونفسه، تميل إليه وتطلبه وتنُقر عنه، فيكون ذلك في بعض النفوس من قبيل الاعتلال والمرض، بحيث إن هذا الإنسان يُنقر ويبحث عن المُشكلات، يبحث عن مواطن الإشكال، ثم يبحث عن حلها، والجواب عنها، ويقع على أشياء قد لا تخطر على البال فيأتي لهذا وهذا وذاك ويسألهم ويتطلب ذلك ويشتغل به، فقد يسلم في المرة الأولى والثانية، وقد لا يسلم في الثالثة أو الرابعة، فيكون ذلك سببًا لوقوع الشك في قلبه أو الكفر؛ لأن مداركه لم تتوصل إلى الجواب.

وهذا كما جاء وصح في الخبر عن صبيغ بن عِسل، هذا رجل كان في زمن الإمام المُحدث الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ، فكان هذا الرجل يتطلب المُتشابه يسأل عن مُتشابه القرآن، عُرف بهذا بين الأجناد، رجل ليس من أهل العلم، ولكنه يبحث عن هذا، نفسه تُنقر وتتطلب مثل هذا النوع، فسمع عنه عمر فقال: اللهم أظفرني به، كان عمر كما تعلمون بابًا وسدًا أمام الأهواء والضلالات وأهل الضلالات، فقال: اللهم أظفرني به، فبينما الناس يتغدون عند عمر إذا جاء رجل تغدا مع الناس عليه عمامة كبيرة فقال: يا أمير المؤمنين، وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ۝ فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا [الذاريات:1-2] فقال عمر : أنت هو، وفي رواية: من أنت، فقال: عبد الله صبيغ، متواضع، أنا عبد الله صبيغ، فقال عمر : وأنا عبد الله عمر، وكان قد خبأ له عراجين، والعراجين معروفة، العراجين هي العذق الذي يكون فيه التمر فإذا أُخذ ذلك منه بقي هذا العرجون يُكنس به تارة ويُضرب به تارة، فكان عمر قد خبأ له العراجين، فجعل يضربه على رأسه حتى سقطت عمامته وفعل ذلك به أيامًا، فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد قتلي فأنت وذاك، وإن كنت تريد ما بي فوالله قد ذه[11].

من الناس من يكون بهذه المثابة، يعني: أنه لا يطلب الحق، مريض، وما كل سؤال يحتاج إلى جواب، وما كل سائل يمكن أن يوقف معه ويُجاب على كل ما ينقدح في ذهنه وما يولده ذلك الذهن العليل من شبهات، فهذا كان علاجه عند عمر بضربه على رأسه بهذه العراجين حتى ذهب ما برأسه، فأمر عمر به فنُفي إلى البصرة، وأمر أميرها آنذاك أبا موسى الأشعري أن لا يُجالس ولا يُكلم، مقاطعة لئلا ينتشر الداء من جهة، ومن أجل أن ينزجر هذا الرجل، فكان إذا جلس إلى حلقة قال من يعرفه لمن لا يعرفه عزمة أمير المؤمنين، يعني: هذا الذي أمر أمير المؤمنين أن لا يُجالس ولا يُكلم، فيقومون فيبقى وحده، فكان عزيزًا في قومه فذل.

ثم كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر يخبر عن حال الرجل وعن صلاحه، وأن ذلك قد ذهب عنه، فأمر عمر بمكالمته ومجالسته، لاحظ العلاج، ولاحظ الانضباط انضباط الناس، قال لهم أمير المؤمنين لا يُجالس، ولا يُكلم، انتهى، عزمة أمير المؤمنين، هذا الرجل بعد مدة لما ظهرت الخوارج في زمن عثمان حتى قتلوه، ثم استشرى أمرهم وظهر في عهد علي فاستأصل شأفتهم في النهروان وبقي منهم أفراد قلائل نشروا بعد ذلك مذهبهم، ثم ما زالوا تتولد مثل هذه النبتة إلى ما شاء الله، أفكار عليلة، وأذهان كليلة، فقيل له في ذلك الوقت لما ظهرت الخوارج: قد آن أوانك، يعني: هذا وقتك الآن، فقال: لا، نفعتني موعظة الرجل الصالح، لاحظ المناعة والعلاج، قالوا: هذا أوانك، هذا وقتك، الأفكار المنحرفة والضلالة هذا سوقه الآن، فقال: لا.

وهذا يدل على أن مثل هذه الأذهان وهذه الأفكار أنها تنمو وتظهر وتتكاثر ويكثر أصحابها ويُظهرون ما كانوا يعجزون عن إظهاره في أوقات الشرور والفتن والانفتاح، فلو أن عمر اطلع على الكتابات في وسائل الإعلام الجديد وغير الجديد والمقالات والمقاطع وما يُبديه هؤلاء من شُبهات في مدوناتهم ونحو ذلك مما يُشككون فيه بثوابت الدين، ويطعنون في نصوص الكتاب والسنة، ويُلبسون على الناس بما يعلم الراسخون في العلم أنه مُجرد شبهات لا قرار لها ولا ثبات، ولكنها تروج على من قل علمه، وضعُفت بصيرته، ويحصل بسبب ذلك فتنة كبيرة للناس، ولهذا ذكر العلماء -رحمهم الله- كالشاطبي وغيره بأن من مآخذ أهل الأهواء في الاستدلال اتباع المتشابه[12].

هذه من أبرز العلامات، فهم في الاستدلال يبحثون عن الأشياء المتشابه، في قضايا المرأة والحجاب الاختلاط ونحو ذلك، يبحث عن نصوص متشابهة ويترك النصوص المُحكمة الواضحة في نهي الرجال في الدخول على النساء إياكم والدخول على النساء [13] والتحذير من فتنة النساء، وما إلى ذلك من النصوص المُحكمة وهو يبحث عن نصوص متشابهة، فهذه علامة أهل الزيغ، وقد لا يستطيعون لجهلهم التام في البحث عن مثل هذه المواضع لكنه يوجد ممن كان له اشتغال بالعلم وفي قلبه مرض، أو أنه حصل له نكوص أنه يستخرج لهم مثل هذه المادة ويُقدمها لهم فيشتغلون على ذلك ويُثيرون هذه الشبهات، فمثل هذا إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم، والحذر كيف يكون؟ الحذر أن يبتعد الإنسان عنهم، فلا يُجالس هؤلاء، ولا يقرأ لهم، ولا يسمع لهم؛ لأن هؤلاء يصطادون القلوب ويُفسدون العقائد والأديان، فيكون إيمان العبد عُرضة لكل آسر وكاسر، فهذا في غاية الأهمية.

فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، وبعض الناس يتولد عنده مثل هذا ويُنقر عنه في نفسه، وبعضهم يفعل ذلك من أجل إضلال غيره وهذا لا شك أنه أخطر وأسوء حالاً، والواجب على المؤمن أن لا يتتبع المُتشابه، وأن يطلب العلم بطريقة صحيحة، ولا يُنقر هذا التنقير، وإنما يجعل المحكمات أصلاً يُرد إليها المُتشبهات، كما قال الله -تبارك وتعالى- عن المُحكمات: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7] فهن الأصل الذي يُرد إليه المُتشابه فيظهر ويستبين معناه.

ولاحظ هنا التعبير ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، ابتغاء الفتنة، فهنا ابتغاء يدل على مُبالغة في الطلب والتتبع والبحث عن هذه المُتشابهات ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ، هو يُريد فتن الناس بذلك، وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ من أجل أن يحمله على المحامل التي يُريدها، ولهذا ذُكر في ترجمة واصل بن عطاء وهو من رؤوس المعتزلة، ومن مؤسسيهم ومن متقدميهم وهو أول من أسس مذهب المعتزلة كان كما قالت زوجته حينما سُألت عنه: ماذا يصنع في بيته؟ قالت: كان يُصلي الليل وإذا أتى على آية يعني من المُتشابه التي يحتج بها وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ قام فدونها، كتبها، وهو يصلي، هذه الصلاة التي لا تزيده إلا ضلالة وبُعدًا، وهو يصلي يتتبع المتشابه فإذا مر بآية يمكن أن يحتج بها على المخالفين أو يحتج لمذهبه قام فكتبها، ثم يرجع إلى صلاته، فهؤلاء الذين في قلوبهم زيغ، ولذلك تجد جميع طوائف الضلال يحتجون بآيات من القرآن.

ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، فهنا التأويل يختلف ولهذا تكرر، ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ التأويل هم يريدون حمله على المحامل التي يريدون، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7]، على قراءة فإذا قرأنا بالوصل  وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7]، يعني: وما يعلم تفسيره ومحمله الصحيح إلا الله والراسخون في العلم، وعلى الوقف وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، بمعنى: حقائق الأمور الغيبية ونحو ذلك مما لا يُدرك بالعقول، وقد استأثر الله بعلمه وهو المُتشابه المُطلق، يعني: لا من جهة المعنى.

وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، وقد جاء عن عمر أنه قال: "ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا من فاسق بيّن فسقه، ولكني أخاف عليها رجلاً قد قرأ القرآن بلسانه، ثم تأوله على غير تأويله، فيحمله على غير محامله"[14].

فهذا هو الخطير الذي لم يرسخ في الإيمان ولا في العلم، ثم بعد ذلك يستخرج مثل هذه المتشابهات فيضل ويُضل الناس بها.

وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، إذا وقفنا على لفظ الجلالة فالراسخون يُسلمون فما لم تصل إليه مداركهم وعقولهم، فإنهم لا يُنكرونه ويعارضونه بالعقول ويقولون: نعرض على عقولنا فما قبلت تلك العقول قبلناه، وما لم تقبله عقولنا تركناه كما يفعل أهل البدع والأهواء من أهل الكلام وغيرهم وممن يرثهم في مثل هذه الأزمان فيقولون: نعرض على عقولنا، اعرض على عقلك كل شيء فما قبله العقل قُبل، وما رده رُد، يعني: حتى لو كان نصوص الكتاب والسنة، نصوص الوحي يريدون عرضها على العقول، ثم هذه العقول في غاية التفاوت، فإذا عُرض ذلك على هذه العقول فما ظنكم مع الجهل، وغلبة الأهواء وضعف الإيمان.

وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران:7]، مفهوم المخالفة أن غير الراسخين ليسوا كذلك، فهم يردونه ويُعارضونه ولا يؤمن به، فهذا يدل أيضًا على فضيلة الرسوخ في العلم، وَالرَّاسِخُونَ فذكرهم فعلى الوصل يكون هؤلاء ممن يعلم تأويله، وعلى الوقف يكون هؤلاء أهل الإذعان والتسليم الذين لا يُعارضون وحي الله -تبارك وتعالى- بأذهانهم وعقولهم، فهذا يدل على فضل الرسوخ في العلم والتمكن فيه؛ لأن الراسخ كما ذكرنا من قبل هو الذي قد تمكن في العلم فصار العلم سجية له، والعلماء -رحمهم الله- كالشاطبي يجعلون الناس في ذلك على ثلاث مراتب:

المرتبة الأولى: هو المُبتدئ في العلم.

المرتبة الثانية: فوقه وهو من له اشتغال في العلم؛ لكنه لم يكن من الراسخين، ولم يكن من أولئك الطبقة الذين هم في بداية الطلب.

الطبقة الثالثة: هم من صار العلم سجية لهم؛ لكثرة المزاولة فإذا كان كذلك مع تلقيه من طريق صحيح، وكان ذلك بأخذه عن أهله المتحققين به فإن هذا هو الذي ينفع ويُثمر[15]

ولهذا لما ألف الشاطبي -رحمه الله- كتابه "الموافقات" وهو كتاب جليل القدر، عظيم النفع في أصول الفقه، ذكر في أوله، في مقدمته، أنه لا يُحل لأحد النظر في هذا الكتاب إلا أن يكون ممن تخرج على يد الشيوخ، ورباه الشيوخ، يعني: مثل هذا الذي يُقمش من هنا وهناك، الشاطبي لا يُحل له النظر في كتابه هذا، فهذا يدعو إلى الحرص على العلم وطلب العلم، وأخذ العلم بطريقة صحيحة، والتحقق فيه والبُعد عن التقميش والتضييع والتذوق، كل يوم يبدأ بكتاب ثم ينقطع، يبدأ مع درس ثم ينقطع، وهكذا، فهو قد درس هنا عُشرًا، وهنا رُبعًا، وهنا ثُلثًا، لا يُنجز ولا يقطع الكتب ولا يدرس العلم ولا يتحقق فيه باب من أبوابه، العلم يحتاج إلى أن نوليه الوقت الكثير، والجهد فبذلك يرسخ بإذن الله

والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7]، فدل ذلك كما ذكرنا سابقًا على منزلة أهل الرسوخ والثناء عليهم، فتلك فضيلة ينبغي على العبد أن يسعى ويحرص على التحقق بالعلم إن كان ذلك في إمكانه، يعني ممن هم بصدد العلم الشرعي والاشتغال به، والتفرغ له، والتخصص فيه فينبغي أن لا يرضى الواحد منهم أن يكون سطحيًّا، ولا يكون له تحقق في العلم مع أنه قد تفرغ لذلك، وهذا للأسف هو حال الغالب بالنظر إلى الدارسين في علوم الشريعة، وهو يدرس ثم لا عهد له بالكتاب وشرحه إلا قبل الاختبار، فإذا اختبر فيه كان ذلك آخر العهد، ومثل هذا لا يمكن أن يرسخ، ولا يمكن أن يكون متحققًا بالعلم، وإنما سيكون مآله للنسيان، وهو قد استحضره استحضارًا قصير الأمد من أجل أن يختبر فيه، فإذا خرج ذهب ما هنالك وتلاشى فيتخرج وحاله كحال العامة سواء.

فالعلم إذا لم يكن له دراسة ومراجعة وتكرار وأخذ صحيح فإن الإنسان لن يكون راسخًا فيه بحال من الأحوال، قد يكون هذا الدارس له هو الأول على زملائه، وفي دفعته، وقد يأتي بالمعدلات الكاملة، ولكنه في الواقع ليس بطالب علم، وإذا نظرت إلى حاله بعد ذلك لربما يكون حال العامة لا فرق بينه وبينهم؛ كأنه لم يدرس.

وإذا سمعت أسئلة بعض هؤلاء فإنها تدل على ضحالة، وكأنه لم يدرس شيئًا، فلذلك أقول: إن هذه المنزلة، وهذه المرتبة تحتاج إلى جهد ووقت وتفرغ وانقطاع للعلم، وأما أن يُعطي العلم فضول الأوقات فمثل هذا لا يمكن أن يحصل فيه الرسوخ.

ثم أيضًا يؤخذ من هذه الآية: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، منزلة التسليم للقضايا التي يتوقف دونها العقل، فالرسل -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- جاءوا بمحارات العقول، ولم يأتوا بمحالة العقول[16].

يعني: جاءوا بأشياء قد يتوقف العقل لا يُدركها، لا يصل إليها، ولكنهم لم يأتوا بشيء يُحيله العقل بحال من الأحوال، فالعقل الصحيح يوافق النقل الصحيح، لكن ما كل شيء يصل إليه العقل ويُدركه إدراكًا تامًا، وما كل الحِكم أيضًا يصل إليها عقل الإنسان، فالعقل محدود ولذلك ينبغي أن يفوض الإنسان علم ما لم يعلم إلى عالمه، ما توقف فيه عقله؛ فإنه يفوض ذلك إلى عالمه، وهذا يُقال في المتشابه المُطلق، يعني: المُتشابه المُطلق الذي لا يعلمه إلا الله، وقلنا هذا في حقائق الأمور الغيبية، ونحو ذلك، وليس في المعاني، فهنا يفوض علمه إلى الله، وكذلك في المُتشابه النسبي بالنسبة للمعاني، بالنظر إلى بعض الناس.

يعني: من خفي عليه المعنى وأشكل عليه فهو مُتشابه في حقه، فماذا يفعل؟ يفوض علمه إلى عالمه، ويقول: كلام الله حق لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42]، ولكن أنا لم أُدرك هذا، ولم أفهم هذا فعلمه عند الله، لا يُنكر، ولا يتشكك، ولا يكون ممن يتبع المُتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، هذا هو الواجب على المؤمن، وإذا كانت هذه منزلة الراسخين بالتسليم لما لا تصل إليه عقولهم ومداركهم فدل ذلك على أن هذه فضيلة، وليست بعيب في الإنسان خلافًا لما يتوهمه بعضهم من أنه يجب أن يفهم في عقله كل شيء؛ وإلا رده وكذب به، لا، هناك منزله عالية قد أثنى الله على أهلها وهي التسليم لله -تبارك وتعالى-.

قد يقول قائل: ما الفائدة؟ أو ما الحكمة من وجود المُتشابه؟ ما فائدته بالنظر إلى المُكلفين وهم لا يدركون معناه أو يُشكل عليهم المعنى إن كان ذلك من المُتشابه في المعاني المُتشابه النسبي.

يُقال: بأن ذلك فيه ما فيه من امتحان العقول والقلوب، فيظهر أهل الإذعان والتسليم والثقة بالله -تبارك وتعالى- وبكلامه وبرسوله ﷺ وبذلك أيضًا تعظُم الأجور بالنسبة لأهل الرسوخ فيما تُكد فيه الأذهان لتُستخرج المعاني، ويتوصل إلى مقصود الشارع فيما يمكن فيه ذلك من غير تكلف، لئلا يكون الإنسان قائلاً على الله بلا علم، فهذا يؤجرون عليه، ويتفاوتون فيه، وتتفاوت مراتبهم ومنازلهم في ذلك، فالعلماء في غاية التفاوت كما قال مسروق بن الأجدع من التابعين -رحمه الله-: "لقد جالست أصحاب محمد ﷺ، فوجدتهم كالإخاذ، فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم"[17].

وهذا مُشاهد عبر القرون بالنسبة للعلماء، منهم من يكون إمامًا من أوعية العلم لو نزل به أهل الأرض لوسعهم، علمه مُستبحر، ومنهم من يكون دون ذلك، فهم يتفاوتون على كل حال وبهذا تتفاوت مراتبهم، وقد يكون للأدنى من النفع والقبول والبركة في علمه ما لا يكون للأعلى، وذلك يرجع إلى أمور من المقاصد والنيات والإخلاص والصدق، والبذل والنفع، وسلامة القلوب ونحو ذلك، وقد يكون لكثير العلم من الآفات من العُجب ولربما الكِبر والتعالي على الناس فلا ينتفعون بعلمه، فيموت ويموت علمه معه، علماء كثيرون لم يبذلوا علمهم مثلاً فذهبوا وماتوا وماتت تلك العلوم التي حصلوها، وقد تجد من هو دونهم بمراحل نفع الله به دفع به الناس، وصار له طلاب وتلاميذ ينشرون علمه، وهكذا، حتى الأئمة الكبار يعني بعض أهل العلم فضّل الليث بن سعد -رحمه الله- على مالك إمام دار الهجرة، لكن علل شهرة الإمام مالك بأن له تلاميذ اعتنوا بعلمه وحفظوه ونشروه في الآفاق، والليث لم يكن له مثل هؤلاء فكان له مذهب -رحمه الله- لكنه تلاشى، لم يكن له حملة ولم يدون، وعلى كل حال العالم لا يقصد شيئًا من ذلك، ولكن هذا يُذكر على سبيل المثال.

أيضًا يؤخذ من هذه الآية: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، على أن ذلك في المعاني أي فيما أشكل عليهم منه على قراءة الوصل فهم يعلمون، ولكن من أشكل عليه فإنه يفوض علمه إلى عالمه، ويكون ذلك أيضًا مما يدل على أن الناس يتفاوتون في فهم كلام الله حتى العلماء فإنهم يتفاضلون في ذلك، ولذلك تجد من الأقوال في التفسير الأقوال المدونة من المأثور من كلام السلف فمن بعدهم تجد فيها من التفاوت حتى إن بعضها لربما يكون في غاية البُعد، وقد صدر عن إمام وعالم، فهذه من هداية الله وفضله على عبده أن يوفق إلى الصواب.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، يعني: المُحكم والمُتشابه من عند ربنا، فذكر الرب -تبارك وتعالى- في هذا المقام يدل على أن هذا المُتشابه لم يُذكر في كتاب الله -تبارك وتعالى- من أجل الإضلال وإزاغة القلوب، لكن فيه ما فيه من الامتحان، وإلا فإن كتاب الله هو أصل الهدى ونبعه الصافي الذي لا كدر فيه، لكن لا يمكن أن يكون سببًا للضلال بما تضمنه فإنه تضمن الهدى الكامل، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، فالرب هو المُربي خلقه، يُربيهم بالنِعم التي تغذو الأجساد، ويُربيهم أيضًا بالنِعم التي يحصل بها غذاء الأرواح، ومن هذا الوحي والعلم النافع، فمثل هذا كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، فلا يكون سببًا لضلال الخلق، وإنما يكون فيه ما فيه من الامتحان، وكما ذكرنا أيضًا يكون فيه التفاوت والتفاضل ورفعة الدرجات، وبذل الجهد، والاجتهاد في طلب ما يمكن أن يتوصل إليه من المعاني بالنسبة للمُتشابه النسبي فيؤجر العلماء على اجتهاداتهم، فالله  عليم حكيم.

ثم قال الله -تبارك وتعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7]، هذا التذكر هنا جاء بأقوى صيغ الحصر وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7]، فأقوى صيغ الحصر النفي والاستثناء، ما يذكر إلا أولوا الألباب، فدل ذلك على أنه بقدر ما يكون عند الإنسان من العقل الصحيح يكون عنده من الانتفاع واستخراج المعاني والهدايات والتذكر، فإن العقل كما أنه لا يصح أن يكون هو المعول وحده، وأن يُجعل الوحي تابعًا له كما فعل أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم فضلوا بسبب ذلك، لكن لا يمكن أن يُستغنى عن العقل، فإن العقل به تُفهم نصوص الوحي، ولذلك هنا قال الله : وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7]، أصحاب العقول الراجحة، العقول السليمة، فدل على أنه كلما ازداد العقل ازداد التذكر؛ لأن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فإذا ضعُف عقل الإنسان وضعُفت مداركه ضعُف فهمه وصار يستشكل كثيرًا من الأشياء التي قد لا تُشكل، ولا يحصل له من التذكر والاعتبار، وإنما يقرأ قراءة عابرة، كما قال الله عن اليهود: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78]، يعني: وما هم إلا، فإن هنا نافية، "يظنون" يعني: يتخرصون، ليسوا بأهل رسوخ ولا علم ولا تحقق، وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ [البقرة:78]، والمقصود بالأميين هنا على الأرجح -والله أعلم- من أقوال المفسرين يعني جهلة، ليس المقصود أنه لا يعرف القراءة والكتابة؛ لأنه قال: لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78]، والأماني فُسرت بالقراءة، تمنى كتاب الله أول ليله، ما قيل في عثمان يعني: قرأه، وفي قوله تعالى: إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52]، فُسر بالقراءة إذا قرأ ألقى الشيطان في قراءته، فهنا لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78]، يعني: قراءة مُجردة، لا يعرفون المعاني والهدايات التي تضمنها الكتاب، فهؤلاء ذمهم الله فذلك؛ لأنه لا بصر لهم بكلامه وكتابه وهداه الذي أنزله من أجل أن يُتدبر وأن يُتعلم ما فيه من الهدى والأحكام وشرائع الإيمان وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7].

وكذلك أيضًا هنا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7] هذا فيه أيضًا الثناء والمدح لأهل العقول الراجحة، وهذا يدلنا على أن الإسلام لا يرفض العقل كما أشرت أو أنه ضد العقل، وهذا يدل أيضًا على حث ضمني على التفكر والاعتبار وتحريك العقول والتدبر واستعمال العقل فيما للعقل فيه مجال، أهل الكتاب المحرف لا يحتملون مثل هذا إطلاقًا، يعني: حينما يُعمِل أحد عقله ويريد أن يفهم أو حينما يوجه إليهم سؤالاً في قضية لا يمكن أن تُدرك بالعقول، أو تفهم وهي ضلالة من ضلالاتهم وأصل من أصولهم بالاعتقاد وهي التثليث مثلاً كيف يكون ثلاثة في واحد وواحد في ثلاثة؟!

فهذا مُباشرة يُمكن أن يناله أشد العقوبات، بل كما تعلمون أن هؤلاء حينما كانت الكنيسة هي التي تُسيطر على حياتهم وهي المُهيمنة في واقعهم كان العلماء الذين يخترعون الاختراعات الدنيوية المادية كانوا يُحرقون في النار وهم أحياء، يُحرقون من قِبل هؤلاء الذين يُسمون برجال الدين.

أما في هذه الشريعة فلا يوجد مثل هذا الكلام، فهذه الشريعة تحث العقول على النظر والاعتبار ونحو ذلك، والله يُرشد إلى مثل هذا، والنظر في كتابه، والنظر في الآفاق، يعني الآيات المتلوة والآيات المشهودة وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7].

كذلك أيضًا هذا يدل على أن الراسخين في العلم أنهم أولوا الألباب؛ لأنه قال: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، قال بعده: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7]، فدل على أن الراسخين في العلم أنهم أولوا الألباب، وأن من لم يرسخ لا يكون بهذه المثابة، العقل نوعان: هناك عقل وهبي، وهو النور الذي يقذفه الله في قلب العبد فيُدرك به ويعقل ويفهم ونحو ذلك، هذا يتفاوت الناس فيه، ولكن هناك عقل كسبي، هذا العقل الكسبي الذي يكون مع التجارب والنظر ومعرفة مثلاً أحوال الأمم عبر التاريخ، فإنه كأنه عاش هذه القرون جميعًا عاصر وعايش الناس ويعرف أحوالهم ومر بتجارب متنوعة كثيرة، كذلك أيضًا يفهم في معاني القرآن والأحكام والهدايات التي تضمنها القرآن، ونحو ذلك، هذا كله يرجع إلى العقل الكسبي، يعني: العقل المُكتسب.

فالناس يتفاضلون في العقل الوهبي، وفي العقل الكسبي، من الناس لا عقل له لا من جهة العقل الموهوب، ولا من جهة العقل المُكتسب، وإنما له عقل معيشي مثل عقل البهائم الذي يحصل به الأكل والشرب والتناسل، وما أشبه ذلك فحسب، يعني: عقله يتوقف عند هذه الأمور، هو عقله يدور كله على الأكل والغريزة، والله المستعان. 

  1. أخرجه مسلم، كتاب الآداب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم وبيان ما يستحب من الأسماء، رقم: (2135).
  2. البحر المحيط في أصول الفقه (2/ 190).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب التسبيح والدعاء في السجود، رقم: (817)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، رقم: (484).
  4. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 325).
  5. انظر: تفسير ابن كثير (2/ 11)، تفسير القرطبي (4/ 16).
  6. تفسير ابن كثير (2/ 11).
  7. تفسير الطبري (1/ 94).
  8. أخرجه الترمذي، أبواب القدر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن، رقم: (2140)، وابن ماجه، باب دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رقم: (3834).
  9. أخرجه أبو داود، كتاب الفتن والملاحم، باب في النهي عن السعي في الفتنة، رقم: (4259)، والترمذي، باب ما جاء ستكون فتن كقطع الليل المظلم، رقم: (2195).
  10. أخرجه مسلم، كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعيه، والنهي عن الاختلاف في القرآن، رقم: (2665).
  11. سنن الدارمي، رقم: (146)، الشريعة للآجري (5/ 2556)، رقم: (2064).
  12. انظر: الاعتصام للشاطبي (1/ 281).
  13. أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، والدخول على المغيبة، رقم: (5232)، ومسلم، كتاب السلام، باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها، رقم: (2172). 
  14. جامع بيان العلم وفضله: (2/ 1204)، رقم: (2368). 
  15. انظر: الموافقات (1/ 89).
  16. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (4/ 309).
  17. المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (ص:161)، رقم: (150).