يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، أي بينات، واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس، أو بعضهم، فمن ردَّ ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكَّم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى، ومن عكس انعكس؛ ولهذا قال تعالى: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه".
هذا المعنى الذي ذكره - رحمه الله - في معنى المحكم، والمتشابه هو من أجود ما قيل فيه، على كثرة الأقوال، ومن هذه الأقوال ما يرجع إلى بعض، وعلى كل حال هذا القول هو من أجودها، وهو منقول أيضاً عن الإمام أحمد - رحمه الله -.
وعن طائفة من السلف أن معنى المحكمات هي التي تقوم بنفسها، ولا تحتاج إلى غيرها لفهم معناها، والمتشابهات هي التي تحتاج إلى ردها إلى غيرها من أجل فهم معناها، ولهذا قال عن المحكمات: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، وأم الشيء أي أصله الذي يرجع إليه، كما يقال في الراية التي يحملها الجند، وينضوون تحتها، وينضمون إليها، ويجتمعون عندها، يقال لها: أمّ، ومن ذلك أمّ الرأس.
فالحاصل أن قوله: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ بمعنى الأصل الذي يرجع إليه، فالمتشابهات ترجع إلى المحكمات من أجل بيان معناها، وهذا إذا قلنا بأنه لا يوجد متشابه مطلق من جهة المعاني - وسيأتي الكلام على هذا عند الوقف في الآية - فيكون ذلك من الأمور النسبية من جهة المعنى، فالتشابه في المعنى يكون من الأمور النسبية، بمعنى أنه يكون متشابهاً بالنسبة لبعض الناس، وغير متشابه بالنسبة لآخرين، ففي قوله - تبارك، وتعالى - مثلاً: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ [سورة الحديد:4] قد يلتبس هذا على بعض الناس فيحتاج إلى رده إلى بعض المحكمات، فمن المحكمات التي يرد إليها: الآيات الدالة على العلو، والعلو الخاص الذي هو الاستواء، فذلك يدل على أنه مباين لخلقه - سبحانه، وتعالى - فتكون المعية لا تقتضي المخالطة، ومن الناس من يفهم معنى قوله - تعالى - هذا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ [سورة الحديد:4]، ولا يخطر في باله أن ذلك يقتضي المخالطة حيث إن ذلك ليس بلازم في كلام العرب، فتكون هذه الآية لهذا الشخص من المحكمات، وبالنسبة للآخر من المتشابهات، وقل مثل ذلك في كل ما اشتبه على الإنسان، والتبس عليه.
ومن أمثلة ذلك قوله - تبارك، وتعالى - مثلاً: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [سورة المعارج:4] مع قوله - تبارك، وتعالى - في سورة السجدة: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ [سورة السجدة:5]، تجد أن من الناس من يفهم المراد بالألف سنة المذكورة في سورة السجدة مع الخمسين ألف سنة التي في المعارج - الآية الأخرى - فيقول: المراد باليوم الذي في سورة السجدة هو اليوم الذي يكون عند الله ، واليوم المذكور في آية المعارج هو في يوم القيامة، فإذا كان الإنسان يعتقد هذا المعنى فلا إشكال عنده في الآيتين، فهي بالنسبة إليه من المحكمات، وتجد شخصاً آخر يستشكل هذا المعنى، ويتردد فيه، فتكون هذه الآيات بالنسبة إليه من المتشابهات، وقل مثل هذا في أمثلة كثيرة جداً، ولذلك يقال، - والله أعلم -: إن التشابه من جهة المعاني هو أمر نسبي، لا يوجد من جهة المعنى تشابه مطلق بحيث يلتبس على جميع الأمة.
وعلى كل حال فإن قوله: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ يشعر برجحان تفسير المحكمات بأنها ما قام بنفسه، ولم يحتج إلى غيره في فهم معناه، والمتشابهات هي التي تحتاج إلى ردها إلى غيرها من أجل فهم معناها.
"ولهذا قال تعالى: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [سورة آل عمران:7] أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئاً آخر من حيث اللفظ، والتركيب لا من حيث المراد، فالمحكمات: ناسخه، وحلاله، وحرامه، وأحكامه، وحدوده، وفرائضه، وما يؤمر به، ويعمل به، والمتشابهات: المنسوخة، والمقدم منه، والمؤخر، والأمثال فيه، والأقسام، وما يؤمن به، ولا يعمل به".
لم يقل هنا قال ابن كثير: فالمحكمات ناسخه، وحلاله، وحرامه، وأحكامه إلى آخره، فمثل هذا الإيراد بهذه الطريقة لا يبرر أن ينسب لابن كثير، وعلى كل حال فإن من أهل العلم من حاول أن يرجع الأقوال إلى المعنى الأول الذي ذكره ابن كثير؛ باعتبار أنهم رأوا أن هذا أوسع هذه المعاني، وأشملها، فحاولوا أن يرجعوا إليه سائر المعاني، فالحاصل أن هذه الطريقة في الاختصار فيها إشكال؛ لأن الأصل أن يورد ما اختاره ابن كثير، ولا يدمج معه شيئاً آخر يرتضيه، أو لأن الرواية صحت فيه عن ابن عباس مثلاً، فإن هذا لا يبرر أن يورده بهذه الطريقة، وإنما كان ينبغي أن يقول: قال ابن عباس، - والله أعلم -.
والإحكام يطلق بإزاء معنيين:
يطلق - أعني الإحكام الخاص -، ويراد به ما يقابل المتشابه، وهذا هو المراد هنا، ويطلق الإحكام فيما يقابل المنسوخ، تقول: هذه الآية محكمة، وهذه الآية منسوخة، وأما الإحكام العام فالمراد به الإتقان كما وصف الله القرآن كله بأنه محكم فقال: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [سورة هود:1]، فوصف القرآن بكامله بأنه محكم، كما وصفه في موضع آخر بأنه متشابه، كما في قوله - تبارك، وتعالى -: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا [سورة الزمر:23]، فالمقصود بهذا التشابه العام، بمعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن، والبلاغة، والفصاحة.
والإحكام العام المقصود به: أنه متقن لا تجد فيه ما يوجب الريب كما قال تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2]، ولا تجد فيه تناقضاً كما قال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [سورة النساء:82] فهذا هو الإحكام العام، والتشابه العام.
قول ابن عباس: "ناسخه" الناسخ يقابله المنسوخ الذي لا يعمل به.
وقوله: ناسخه، وحلاله، وحرامه، وأحكامه، وحدوده، وفرائضه" يعني الأمور التي بينها الله ، وطالب الناس بالقيام بها، والعمل بها.
قوله: "والمتشابهات: المنسوخة" أي التي لا يعمل بها.
قوله: "والمقدم منه، والمؤخر" بمعنى أنه محل للاشتباه مثل قول الله : إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواَْ [سورة آل عمران:55] فكيف قال الله : مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ، وعيسى ﷺ لم يمت؟ هذا يمكن أن يقال: هو من قبيل المقدم الذي محله التأخير.
قال: "والأمثال، والأقسام" الله قال: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [سورة العنكبوت:43]، وأولئك قالوا: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً [سورة البقرة:26]، أضف إلى ذلك أن الأمثال ليست من الآيات التي يتعلق بها التكليف من حيث إنها تتضمن أحكاماً بالعمل، وإنما يبين بها المعنى، ويوضح، وربما يبين ذلك المعنى بصورة المحسوس، كقوله تعالى: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا [سورة الرعد:17] فهو صوَّر الوحي، والهدى بالمطر الذي ينزل.
"قال محمد بن إسحاق بن يسار - رحمه الله -: مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ [سورة آل عمران:7] فيهن حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم، والباطل، ليس لهن تصريف، ولا تحريف عما وضعن عليه.
قال: والمتشابهات في الصدق لهن تصريف، وتحريف، وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال، والحرام ألا يصرفن إلى الباطل، ولا يحرفن عن الحق".
هذا الكلام يرجع تماماً إلى قول ابن كثير فهو موافق تماماً لكلامه - رحمه الله -، وهذا الكلام يمكن أن يختصر فيحذف؛ باعتبار أن هذا الكتاب مختصر، ويمكن أن يقتصر عليه في تفسير المحكمات، من غير قول ابن عباس.
وعلى كل حال ما كان محتملاً فإنه يكون من المتشابه، وإن كان محتملاً عند زيد، وليس بمحتمل عند عمرو فيكون بالنسبة لهذا متشابهاً، وبالنسبة لهذا محكماً.
"ولهذا قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [سورة آل عمران:7] أي ضلال، وخروج عن الحق إلى الباطل، فيتبعون ما تشابه منه، أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها؛ لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دامغ لهم، وحجة عليهم، ولهذا قال الله تعالى: ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ [سورة آل عمران:7] أي الإضلال لأتباعهم، وإيهاماً لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهذا حجة عليهم لا لهم، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى هو روح الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وتركوا الاحتجاج بقوله: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ [سورة الزخرف:59]، وبقوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [سورة آل عمران:59]، وغير ذلك من الآيات المحكمات المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله، وعبد، ورسول من رسل الله".
يعني النصارى يحتجون بمثل هذه الآية على أن عيسى ﷺ جزء من الله ، وأنه ابن الله، وربما احتجوا على التثليث بما ورد من ضمير الجمع، كقوله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ [سورة يوسف:3]، قالوا: نحن تستعمل للجمع، وغير ذلك مما يلبسون به، فهذا من قبيل اتباع المتشابه.
فهؤلاء الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يعني ميلاً عن الحق، وانحرافاً عنه.
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ أي: يتبعون مثل هذه الآيات المحتملة المتشابهة.
ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ أي: ابتغاء الإضلال، أو التشكيك، والتلبيس على الناس بمثل هذه الآيات، ويدخل في هذا كل من تتبع الآيات المحتملة ليلبس بذلك على الناس، إما للتشكيك، أو الطعن في القرآن، أو من أجل الاحتجاج على باطله بنصوص القرآن كما فعل كثير من أهل الضلال، فهؤلاء كلهم قد رفعوا لواء الفتنة.
"وقوله تعالى: وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ [سورة آل عمران:7] أي تحريفه على ما يريدون.
وقد روى الإمام أحمد عن عائشة - ا - قالت: قرأ رسول الله ﷺ: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ إلى قوله: أُوْلُواْ الألْبَابِ [سورة آل عمران:7] فقال: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهُم الذين عنى الله فاحذروهم[1].
وقد روى هذا الحديث البخاري عند تفسير هذه الآية، ومسلم في كتاب القدر من صحيحه، وأبو داود في السنة من سننه، ثلاثتهم عن عائشة - ا - قالت: تلا رسول الله ﷺ هذه الآية: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ إلى قوله: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [سورة آل عمران:7] قالت: قال رسول الله ﷺ: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم[2] [لفظ البخاري].
قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ [سورة آل عمران:7]: "اختلف القراء في الوقف هاهنا فقيل على الجلالة، كما تقدم عن ابن عباس - ا - أنه قال: "التفسير على أربعة أنحاء، فتفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله"، ويروى هذا القول عن عائشة، وعروة، وأبي الشعثاء، وأبي نهيك، وغيرهم".
فقول ابن عباس : "التفسير على أربعة أنحاء" يعني على أربعة أنواع، وذكر الأول منها، وهو قوله: "تفسير لا يعذر أحد في فهمه"، وهذا القول جاء عن ابن عباس بألفاظ متقاربة، فهو بهذا اللفظ مع ما ينضم إلى ذلك من ذكر الأصناف الثلاثة، أو الأنواع الثلاثة - ما تعرفه العرب، وما يعلمه الراسخون، وما لا يعلمه إلا الله - كأنه أراد بذلك - والله تعالى أعلم - لا يعذر أحد في فهمه أي أنه ظاهر المعنى، لا يحتاج إلى كثير معرفة بلغة العرب، وكلامها، ولا يحتاج إلى علم، ورسوخ، وإنما يفهمه كل من سمعه، هذا الذي يظهر، - والله أعلم -.
وقد يفهم من بعض ألفاظه أن المراد بذلك هو ما يتعلق بالفرضية، يعني مما افترض الله على الإنسان، وخاطبه به من العمل، والأحكام التي يجب عليه أن يعلمها، وعلى كل حال فهذا القول، وهو أن الوقف على لفظ الجلالة هذا عليه السواد الأعظم من أهل العلم، أي أن عامة السلف من الصحابة، ومن بعدهم يقولون: إن الوقف على لفظ الجلالة.
ويحتجون على ذلك بأمور، منها: أنه جاء في قراءة أبيّ، وابن عباس - أجمعين -: (ويقول الراسخون في العلم آمنا به كل من عند ربنا)، يعني أن المعنى يكون هكذا: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، ويقول الراسخون في العلم آمنا به كل من عند ربنا)؛ لأنه على هذه القراءة: (ويقول الراسخون) تكون الواو استئنافية، وتكون هذه جملة فعلية جديدة لا مرية، ولا إشكال فيها، وفي القراءة الأخرى، وهي رواية غير متواترة كذلك - قراءة ابن مسعود -: (إنْ تأويله إلا عند الله)، فـ"إن" هنا هي إن النافية، وليست المخففة (إن تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا)، فـ"إن تأويله" معناه ما تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا.
وعرفنا قبل بأن القراءة الآحادية، أو غير المتواترة تفسر القراءة المتواترة، فاحتجوا بهذا، واحتجوا أيضاً بأمور أخرى كذلك منها أنهم قالوا: إن ما نفاه الله عن الخلق، وأثبته لنفسه لا يمكن لأحد أن يعلمه، وهذا في باب المعلومات، وإن كان في غيرها فكذلك ما نفاه الله عن الخلق، وأثبته لنفسه فلا يمكن أن يضاف إليهم، فالله قال: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ [سورة آل عمران:7]، حيث جاء بصيغة هي أقوى صيغ الحصر، وهي النفي، والإثبات، التي جاءت بها كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، كما قال في المراقي: أعلاه لا يرشد إلا العلماء، فهذه أعلى صيغة من صيغ الحصر، ومن أراد أن يراجع الكلام عليها فلينظر في كتب الأصول، والمفهوم منها، ومن أهل العلم من اعتبره منطوقاً، فالحاصل أنهم قالوا: إن الله إذا نفى شيئاً عن الخلق، وأضافه لنفسه فلا يمكن أن يضاف إليهم.
واحتجوا على ذلك أيضاًَ بأن الله ذمَّ الذين يتطلبون تأويله فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ [سورة آل عمران:7] فأخبر أنهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، فهؤلاء ذمهم الله على تتبع المتشابه، ونفَى علمه عنهم، أو عن الخلق فقال: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ فكيف لهؤلاء الراسخين في العلم أن يتشاغلوا بهذا المتشابه طلباً لمعناه!
هذه أبرز وجوه احتجاج هؤلاء، وهم سواد أعظم، بل عامة أهل العلم يقولون بهذا، وهو اختيار ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وغيره خلق كثير لا يحصيهم إلا الله ، وعلى قول هؤلاء تكون الواو استئنافية، وما بعدها جملة جديدة، فهو قال: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ، ثم مدح الراسخين في العلم بأنهم يفوضون علمه إلى عالمه، ويؤمنون به.
والذين خالفوهم، وقالوا: إن الواو للعطف احتجوا على هذا أيضاً بأمور، حيث قالوا: إذا كان الراسخون في العلم لا يعلمون تأويله فما مزيتهم على غيرهم ممن لا يوصف بالرسوخ، فكل المؤمنين العوام، وأوساط المتعلمين سوى أهل الزيغ الذين يتتبعون هذا المتشابه يقولون: آمنا به، ويفوضون علم ما لم يعلموا إلى الله، فما مزية الراسخين إذاً؟
هذا مما احتجوا به، ويمكن أن يرتفع كثير من الخلاف -، ولا أقول كل الخلاف - في حال التفصيل، وذلك ببيان المراد بالتأويل.
فالتأويل أصل مادته من الأوْل، وهو الرجوع، وهذه اللفظة، وردت في القرآن، وفي كلام السلف في الدلالة على معنيين اثنين:
الأول: التأويل هو التفسير، فتأويل الكلام يمكن أن يراد به معنى التفسير، وتأويل الرؤيا يرد بمعنى تفسيرها، قال تعالى: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [سورة يوسف:36] معناه نبئنا بتفسير هذه الرؤيا، ويقال: هل يوجد أحد يؤول الرؤى؟ أي يفسرها، وفي الرواية المشهورة دعا النبي ﷺ لابن عباس فقال: وعلِّمْه التأويل[3] بمعنى، وعلمه التفسير.
المعنى الثاني الذي يرد له لفظ التأويل: هو ما يئول إليه الشيء ثانياً، فالمراد بتأويل الرؤيا بهذا الاعتبار هو تحققها، ووقوعها، كما قال يوسف ﷺ لما رأى أباه، وأمه، وأخوته قد سجدوا له: وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [سورة يوسف:100]، والرؤيا التي رآها هي قوله: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا، وَالشَّمْسَ، وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [سورة يوسف:4] فتأويل هذه الرؤيا هو وقوع ذلك منهم، وتأويل الخبر هو وقوع المخبر به، كما قال الله : هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ [سورة الأعراف:53] يعني، وقوع ما أخبر به يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [سورة الأعراف:53]، يعني أنهم سيندمون عندما يتحقق وقوع ما أخبر به الله من البعث، والنشور، والقيامة.
فالمقصود أن ن أن تأويل الخبر وقوع المخبر به.
وكذلك تأويل الأمر فعل المأمور، والامتثال كما في حديث عائشة - ا - المشهور، لما نزلت: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [سورة النصر:1]، وفيها: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [سورة النصر:3] قالت: "كان النبي ﷺ يكثر أن يقول في ركوعه، وسجوده: سبحانك اللهم ربنا، وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن"[4]، بمعنى يمتثل، ويحقق، ويفعل ما أمره الله بفعله.
المعنى الثالث للتأويل - عند المتأخرين -: هو صرف الكلام من المعنى الراجح، أو من الاحتمال الراجح إلى المرجوح لقرينة تدل على ذلك، وهذا المعنى لا يعرف عند السلف، ولا وجود له في لغة القرآن.
وبعد أن عرفنا هذا التفصيل في معنى التأويل نرجع إلى الآية: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ [سورة آل عمران:7]، فإنْ حملنا ذلك على المعنى الأول - أي التفسير -، وقلنا: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ يعني تفسيره، إذا قلنا هذا، ووقفنا عند لفظ الجلالة، فهذا يعني أنه توجد في القرآن معانٍ لا يعلمها إلا الله ، بمعنى أنه لا أحد يعرف تفسير هذه الآية، أو هذه الكلمة، أو الجملة إلا الله فيكون ذلك مما استأثر الله بعلمه، وإذا قلنا بهذا أيضاً فيمكن أن نحمل عليه أثر ابن عباس الوارد قبل قليل الذي ذكر فيه أن التفسير على أربعة أنحاء، وذكر أن منها ما لا يعلمه إلا الله، أي ما استأثر الله بعلمه، فإذا قررنا الوقف على قوله: إِلاَّ اللّهُ، وجعلنا التأويل بمعنى التفسير فمعنى ذلك أنه يوجد في القرآن أشياء خاطبنا الله بها لا أحد يعرف معناها، لا الرسول ﷺ، ولا غيره.
والذين يقولون بهذا القول لديهم أمثلة على ذلك، ومن أقربها الحروف المقطعة، فإن فيها نحو خمسة، وثلاثين قولاً، قالوا: إن هذه الأقوال كلها لا دليل عليها، وإنما هي احتمالات لا يجب الوقوف عندها، ولا أدل على ذلك من أنها اختلفت إلى هذه الأقوال الكثيرة جداً، فليس فيها شيء عن الله، ولا عن رسوله ﷺ، وهذا إذا قلنا: إن لها معنى في نفسها.
وإذا قلنا: إن التأويل في الآية بمعنى التفسير على أن الواو عاطفة في قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [سورة آل عمران:7] يعني أنهم يعلمون، وفي الحال يقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا، فيكون هنا التأويل بهذا الاعتبار بمعنى التفسير لكن هذا التأويل يعلمه الله ، ويعلمه الراسخون في العلم، وعلى هذا القول - القول بالوصل - لا يوجد في القرآن متشابه مطلق من جهة المعاني، وقولنا: متشابه مطلق يعني لا يعلمه إلا الله، وأما ما يعلمه بعض الناس، ويخفى على البعض، أو يلتبس عليهم يسمى متشابهاً نسبياً.
وإذا قلنا: إن التأويل في قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ بالمعنى الآخر الذي هو حقائق الأشياء الغيبية التي أخبر الله عنها مثل كنه صفات الله أي حقائقها، وكيفياتها، فهذا لا يعلمه إلا الله ، وهو واضح، فإذا فسرنا التأويل بهذا الاعتبار فهنا يجب أن نقف على لفظ الجلالة ما نصل فنقول: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ، بمعنى حقائق الغيبيات.
وبالنسبة للترجيح في هذه المسألة إما أن نأخذ بقول الأكثر، وانتهينا، لكن قد يقول قائل: هل الترجيح بمجرد قول أكثر أهل العلم طريقة صحيحة في الترجيح؟
الطريقة الثانية: أننا نرجح بين القولين باعتبار آخر، وذلك بالنظر إلى أكثر هذه المعاني استعمالاً في القرآن، أعني في دلالة لفظ التأويل، فلو جئنا نستقرئ كلمة "تأويل" في القرآن نجد أنها استعملت في معنى التأويل أكثر من التفسير، من ذلك تأويل الرؤيا بمعنى الوقوع، وتأويل الخبر بمعنى وقوع المخبر به، وأما بمعنى التفسير فربما لم يرد إلا في موضع، واحد هو قوله: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [سورة يوسف:36] يعني تفسيره، فالمعنى الثاني هو الأكثر، وروداً في القرآن، وبالتالي يمكن أن نرجح بهذه الطريقة فنقول: اللفظة قد احتملت معنيين، ووجدناها تستعمل في القرآن غالباً بالمعنى الآخر، فنحملها عليه في هذا الموضع، فهذه طريقة في الترجيح سار عليها بعض أهل العلم مثل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -، وبالتالي فإننا إذا حملناه على المعنى الآخر، بمعنى أن المراد بالتأويل حقائق الأمور الغيبية، وما تئول إليه، فهذا معناه أنه لا يوجد لفظ، أو كلمة، أو جملة، أو آية في القرآن يعرفها أحد، لا النبي ﷺ، ولا غير النبي ﷺ، وإنما يقال: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ [سورة آل عمران:7]، وعلى هذا يكون الوقف عند لفظ الجلالة.
الطريقة الثالثة الجيدة في الترجيح هي أن نجمع بين هذه الأقوال، والمعاني، فابن عباس - ا - ثبت عنه أنه قال بالوقف على لفظ الجلالة، وثبت عنه أيضاً الوصل، وقال: "أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله"، وكل هذا صح عن ابن عباس، ولا تعارض بينهما، فيقال: الوقف صحيح، ويكون الوقف عند الجلالة على معنى حقائق هذه الغيبيات، وكنهها، وما تئول إليه، وما أشبه ذلك من الأمور الغيبية، ويكون الوصل باعتبار التفسير؛ لأنه لا يوجد في القرآن شيء لا يُعرف له معنى؛ لأن الله خاطبنا بلسان عربي مبين، ولم يخاطبنا بالألغاز، والأمور التي لا تصل إليها عقولنا، ولا نفهمها، فالله يقول: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [سورة القمر:17]، ولا أدل على ذلك من أن الصحابة حاولوا أن يفسروا كل شيء، ومن ذلك الحروف المقطعة، فهذه الحروف المقطعة، من الأقوال الجيدة فيها أنها حروف مبانٍ، وليست بحروف معانٍ، وحروف المعاني كحروف الجر، في، وإلى، وعن. . إلى آخره، وهي التي يقول عنها النحاة: إنها تدل على معنىً في غيرها، ولا تدل على معنىً في نفسها، أي أنها للربط، مع أن شيخ الإسلام يخالفهم في هذا فيقول: "في" تدل على الظرفية، و"إلى" تدل على الغاية..الخ، وهم يقولون: نحن نقصد شيئاً آخر.
المهم أن هذه حروف مبانٍ أي تبنى منها الكلمة، وأما ألف، باء، جيم، دال، حاء، فهذه من المؤكد أنها ليس لها معنىً في نفسها، وإنما تركب منها الأسماء، والأفعال، وتركب منها كذلك حروف المعاني، أما هي في نفسها فليس لها معنى، وبناء على هذا لا يرد هذا السؤال القائل: هل يوجد في القرآن شيء ليس له معنى؟
وإن سئلنا فإننا سنقول: لا يوجد في القرآن شيء ليس له معنى، بل كل ما في القرآن له معنى.
فإن قيل: وكذلك الحروف المقطعة؟ قلنا: هي بهذا الاعتبار ليست من الأفعال، ولا الأسماء، ولا حروف المعاني، والكلام في لغة العرب: اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى، أما ألف، باء، جيم، دال، فهذه ليست لها معنى، وهذه الحروف المقطعة هي إنما تشير إلى الإعجاز، وأن هذا القرآن مكون من هذه الأحرف، فهو يتحداهم أن يأتوا بمثله، وهذا القول قال به بعض أهل العلم، وهو قول جيد، ولذلك تجد عامة المواضع التي ذكرت فيها هذه الحروف يذكر بعدها القرآن، أو الوحي.
والخلاصة أن الوقف على لفظ الجلالة يكون المقصود العلم بكنه الأشياء، وحقائقها، وما تئول إليها، وعلى الوصل وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [سورة آل عمران:7] يكون المقصود التفسير، وبهذا نكون جمعنا بين القولين - الوصل، والوقف -، ونزلنا كل حالة على معنىً يناسبها، - والله تعالى أعلم -.
هذه هي الخلاصة لكلام طويل في هذا الباب بُحث في كتب أصول الفقه، وفي علوم القرآن، فشيخ الإسلام ألف فيه رسالة "ذات الإكليل"، وكل هذا من المتشابه أعني المتشابه الخاص، وأما المتشابه العام فهو الوارد في قوله تعالى: كِتَابًا مُّتَشَابِهًا [سورة الزمر:23]، - والله أعلم -.
"ومنهم من يقف على قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [سورة آل عمران:7]، وتبعهم كثير من المفسرين، وأهل الأصول، وقالوا: الخطاب بما لا يفهم بعيد.
وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس - ا - أنه قال: "أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله"، وفي الحديث أن رسول الله ﷺ دعا لابن عباس - ا - فقال: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل[5].
والتأويل يطلق، ويراد به في القرآن معنيان: أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشيء، وما يئول أمره إليه، ومنه قوله تعالى: وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ [سورة يوسف:100]، وقوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [سورة الأعراف:53] أي حقيقة ما أُخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا، فالوقف على الجلالة؛ لأن حقائق الأمور، وكنهها لا يعلمها على الجلية إلا الله ، ويكون قوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [سورة آل عمران:7] مبتدأً، وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [سورة آل عمران:7]: خبره، وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر، وهو التفسير، والبيان، والتعبير عن الشيء كقوله: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [سورة يوسف:36] أي بتفسيره، فإن أريد به هذا المعنى، فالوقف على وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ؛ لأنهم يعلمون، ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون قوله تعالى: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [سورة آل عمران:7] حالاً منهم، وساغ هذا، وهو أن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه كقوله تعالى: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [سورة الحشر:8] إلى قوله: يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا، وَلِإِخْوَانِنَا الآية [سورة الحشر:10]، وقوله تعالى: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [سورة الفجر:22] أي، وجاءت الملائكة صفوفاً صفوفاً.
وقوله إخباراً عنهم: إنهم يقولون آمنا به: أي بالمتشابه، كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [سورة آل عمران:7]: أي الجميع من المحكم، والمتشابه حق، وصدق".
ابن كثير - رحمه الله - ذكر الاحتمالين، وحمل قوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [سورة آل عمران:7] على ما ذكر، وهذا كلام جيد مداره على ما ذكرت، لكن قد يرد هنا سؤال من القائلين بالوقف على الجلالة في الوقت الذي يحملون معنى التأويل فيه على التفسير، يقولون: إذاً إذا قلتم بأن الراسخين في العلم يعلمون تأويله، فما فائدة ما ذكر الله من صفتهم من قولهم: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [سورة آل عمران:7] ؟
فالجواب أن يقال: هذا واضح، فهم مع علمهم بمعناه ليسوا كالزائغين الذين يشككون، ويلبسون به على الناس، وينقرون عن هذه الأشياء، ويتتبعونها، فهم مع علمهم بذلك يؤمنون به، أي الجميع من المحكم، والمتشابه حق، وصدق، وكل واحد منهما يصدق الآخر، ويشهد له، وأن الجميع آمنا به، وهو كلام الله حق، وصدق، فهم بخلاف أولئك الزائغين.
"كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا أي الجميع من المحكم، والمتشابه حق، وصدق، وكل واحد منهما يصدق الآخر، ويشهد له؛ لأن الجميع من عند الله، وليس شيء من عند الله بمختلف، ولا متضاد؛ لقوله تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [سورة النساء:82]، ولهذا قال تعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [سورة آل عمران:7] أي إنما يفهم، ويعقل، ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة، والفهوم المستقيمة.
وروى ابن المنذر في تفسيره عن نافع بن يزيد قال: يقال الراسخون في العلم، المتواضعون لله، المتذللون لله في مرضاته لا يتعاطون من فوقهم، ولا يحقرون من دونهم".
العبارة كما في الكتاب الأصل: "لا يتعاظمون على من فوقهم" لذلك ينبغي أن يعدل قوله: "لا يتعاطون" إلى "لا يتعاظمون"، فهي الأصح، وهذا مما يدخل في الكتب من التصحيف.
"قال: يقال الراسخون في العلم المتواضعون لله، المتذللون لله في مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم، ولا يحقرون من دونهم".
- أخرجه أحمد (24256) (ج 6 / ص 48)، وقال الأرنؤوط: حديث صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين.
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة آل عمران (4273) (ج 4 / ص 1655)، ومسلم في كتاب العلم - باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعيه، والنهي عن الاختلاف في القرآن (2665) (ج 4 / ص 2053).
- أخرجه أحمد (2397) (ج 1 / ص 266)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده قوي على شرط مسلم.
- أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب التسبيح، والدعاء في السجود (784) (ج 1 / ص 281)، ومسلم في كتاب الصلاة - باب ما يقال في الركوع، والسجود (484) (ج 1 / ص 350).
- سبق تخريجه.