السبت 12 / ذو القعدة / 1446 - 10 / مايو 2025
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"ثم قال تعالى عنهم مخبراً أنهم دعوا ربهم قائلين: رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [سورة آل عمران:8] أي لا تملها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه، ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ، الذين يتبعون ما تشابه من القرآن، ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم، ودينك القويم. 
وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً أي من عندك رَحْمَةً تثبت بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتزيدنا بها إيماناً، وإيقاناً، إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [سورة آل عمران:8].
وروى ابن أبي حاتم، وابن جرير عن أم سلمة - ا - أن النبي - صلى الله عليه، وسلم - كان يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك[1]، ثم قرأ: رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [سورة آل عمران:8]".
  1. أخرجه الترمذي في كتاب القدر – باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن (2140) (ج 4/ ص 448)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (102).

مرات الإستماع: 0

"مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ [آل عمران:7]: المحكم من القرآن هو البينُ المعنى الثابتُ الحكم، والمتشابه هو الذي يحتاج إلى التأويل، وفي النسخة الخطية: هو الذي يحتاج إلى تأويل."

هو الذي يحتاج إلى التأويل" لا إشكال إلى تأويلٍ، أو إلى التأويل.

"أو يكون مستغلق المعنى كحروف الهجاء، قال ابن عباس: المحكماتُ الناسخاتُ، والحلالُ، والحرام، والمتشابهات المنسوخاتُ، والمقدم، والمؤخر[1] وهذا تمثيلُ لما قلنا."

يقول: "مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ المحكم من القرآن هو البينُ المعنى الثابتُ الحكم". الإحكام أصله الإتقان، وسُميت محكمات من الإحكام، وكأنه أحكمها، فمنع الخلق من التصرف فيها؛ لظهورها، ووضوح معناها، أصل هذه المادة - لفظة حَكَمَ - مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ تأتي بمعنى المنع لإصلاح، يقول: حكمها التي تُوضع الحديدة في فم الدابة، تمنعها من الانفلات، والحكم، والحاكم هو الذي يمنع أحد الخصمين من التعدي على الآخر، وأخذ حقه، والحُكم كذلك.

والحكمة؛ هي تلك الخلة، والصفة التي تمنعُ صاحبها من الخطل في الرأي، وكذلك أيضًا يكونُ بمعنى الحكمة أعني: الإصابة في القولِ، والعمل هذه الحكمة، يكون صاحبها مسددًا في قوله، وفعله، حَكَمَ، وهكذا في كل استعمالاتها، وكثيرٌ من أهل العلم يرجعونها إلى هذا المعنى، وشيخُ الإسلام يزيد معنًى آخر عليه، ولعله قد مضى في "الغريب" شيءٌ من ذلك، فهذا في أصل المعنى اللغوي، لكن هنا يتحدث عن المعنى الشرعي في المحكم.

يقول: "المحكم من القرآن: هو البينُ المعنى الثابتُ الحكم".

يعني: ما لا يحتاج إلى غيره لبيانِ معناه، ما استقل بنفسه هذا معناه، وهذا من أحسن ما قيل في تفسيره على كثرة كلام أهل العلم فيه، أحسن ما قيل فيه - والله أعلم - ما ذكره الإمام أحمد - رحمه الله - وحاصله: أن المحكم ما استقل بنفسه فلم يحتج إلى غيره لبيان معناه، مثل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] واضحة هذه؟ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ هذا كله من المحكم الْحَيُّ الْقَيُّومُ.

لكن المتشابه بالمعنى الخاص، التشابه الخاص كما في آية آل عمران هذه يقول: "هو الذي يحتاج إلى التأويل" المتشابه هو الذي يحتاج إلى التأويل، يحتاج إلى التأويل يعني أنه ليس على ظاهره، وهذا الكلام غير صحيح، فالأصل: حمل نصوص القرآن، والسنة على ظواهرها إلا لدليل.

وأهلُ الكلام يقولون: بأن ظواهر نصوص الكتاب، والسنة تدل على معانٍ غير مرادة فيما يتصل بالصفات مثلًا صفات الله فيحرفونها، ويسمون ذلك تأويلًا، ولهذا يقولون: بأن آيات الصفات من المتشابه، هذا كثير، تجده في كتب المتكلمين الذين كتبوا في العقائد، أو في التفسير، أو في أصول التفسير، وعلومه علوم القرآن، ونحو هذا، لما تقرأون في كلامهم، مثلًا السيوطي - على سبيل المثال - في كتابه "الإتقان"؛ الذي هو خزانة هذا العلم، أوسع الكتب المصنفة فيه، وتقرأون في مثل كتاب الزُرقاني "مناهل العرفان" فهذه كتب مشهورة ذائعة سارت مسير الشمس، لما يتحدثون عن موضوع المتشابه يذكرون فيه مثل هذه الأمور الباطلة، مباشرةً يمثلون بنصوص الصفات، وهذا الكلام غير صحيح إطلاقًا، نصوص الصفات من المحكم، وليست من المتشابه.

 فعبارته: "هو الذي يحتاج إلى التأويل": ذكره أولًا، كأنه يميل إليه، وهذا بناءً على ما يعتقده أهل الكلام، وإلا فالمتشابه ليس هو الذي يحتاج إلى التأويل.

 يقول: "أو يكون مستغلق المعنى كحروف الهجاء" هذا بناءً على أن حروف التهجي لها معنى استأثر الله بعلمه، ولهذا لما يتحدثون عن قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] - كما سيأتي على الوقف هنا على لفظ الجلالة - بعضهم يفسره بالمعنى، يعني: المتشابه المطلق - كما سأوضح إن شاء الله - من جهة المعنى، طيب هل يوجد في القرآن شيء متشابه تشابهًا مطلقًا، بمعنى أنه لا يعرفُ معناه لا الرسول ﷺ ولا الصحابة، ولا أحد من الأمة من جهة المعنى؟ بعضهم يقول: نعم، ما هو؟ يقولون: الحروف المقطعة، هذا بأي اعتبار؟ باعتبار أن لها معنى في نفسها استأثر الله بعلمه، لماذا خاطبنا بما لا نعلم؟ يقولون: امتحانًا للعقول من أجل التسليم، والانقياد.

وهذا الكلام غير صحيح، فالله خاطبنا بلسانٍ عربيٍّ مبين، أما الصفات فهي أهم المهمات؛ إذ هي التي تُعرِّف بالمعبود، فكيف تكون ملتبسة، أو غير معروفة المعنى كما يقوله بعض غلاة المفوضة؟ - المفوضة طوائف - فغلاتهم يقولون: بأن معاني الصفات غير معلومة، لا يعلمها الرسول ﷺ ولا غير الرسول ﷺ هؤلاء كما يُقال: أهل التجهيل؛ يقولون: الأمة كلها جاهلة بمعانيها، لا يعلمها إلا الله، ولذلك لا يتعرضون لتأويلها، ولكن هذا الكلام من أبطل الباطل، قولهم هذا من أعظم الضلال، كيف تكون نصوص الصفات التي تُعرِّف بالله والقرآن من أوله إلى آخره هو في قضية التوحيد، فهو شارحٌ له، وأعظم ذلك: ما يتصل بالله - تبارك، وتعالى - ووحدانيته، وأسمائه، وصفاته، فيقال: هذه غير معلومة المعنى، أو أنها على غير ظواهرها، فهذا من أبطل الباطل.

فهنا حينما ذكر حروف التهجي، يعني باعتبار أنها من المتشابه المطلق، وقبل أن نأتي لقول ابن عباس - ا - أنا أوضح لكم القضية بصورة ملخصة، هذه الآية هنا في سورة آل عمران هي الآية الوحيدة في المحكم بالمعنى الخاص، والمتشابه بالمعنى الخاص.

هناك إحكام عام بمعنى الإتقان كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود:1]: كل القرآن محكم، محكم في ألفاظه، ليس فيه لحن، ولا ضعف في أساليبه، وكذلك محكمٌ في معانيه، فهو لا يتطرق إليه الباطل، ولا يتناقض، ولا يتعارض، وهو متشابهٌ أيضًا بالمعنى العام اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا . . . [الزمر:23] بمعنى: يشبه بعضه بعضًا في الحسن، والبلاغة، والفصاحة، يصدقُ بعضه بعضًا، متشابه، هذا في التشابه العام، والإحكام العام، في هذه الآية منه، ومنه مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ فمن هذه: للتبعيض هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فالمحكمات هنا بالمعنى الخاص، الإحكام بالمعنى الخاص، وليس العام بمعنى الإتقان، لا.

فهنا المحكمات ما هي؟ المحكمات هنا هي: ما اتضح معناه، واستقل بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره ليستبين المراد منه، ما نحتاج نرجعه إلى آيات أخرى، أو إلى أحاديث تشرحها مثلًا، أو نحو هذا.

أما المتشابهات تشابه الخاص فالمراد بها: كما قال الإمام أحمد - رحمه الله - يعني ما احتاج إلى غيره في بيان المراد منه.

مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ . . . [آل عمران:7] إذا وقفت هنا فما المعنى؟ إِلَّا اللَّهُ الذين يقولون: يوجد في القرآن متشابه مطلق من جهة المعنى، يقولون: مثل الحروف المقطعة باعتبار لها معنى لا يعلمه إلا الله، وهذا الكلام غير صحيح، والراجح: أنه لا يوجد شيءٌ في القرآن لا يُعرف معناه؛ لأن الله خاطبنا بلسانٍ عربي مبين، إذًا من جهة المعنى لا يوجد متشابه مطلق، وإنما التشابه من جهة المعنى نسبي، فإذا حملنا الآية على المعنى، وصلنا ما نقف، إذا حملناها على المعنى، وهو محملٌ صحيح، وثابت عن ابن عباس - ا - حيث قال: "أنا من الذين يعلمون تأويله"[2] هذا صح عن ابن عباس - ا.

مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا . . . [آل عمران:7].

يعني: والراسخون في العلم يعلمون تأويله، الله يعلم تأويله، والراسخون يعلمون، إذًا من الذين لا يعلمون؟ هم غير الراسخين، فصار من جهة المعنى على الوصل، التشابه نسبي، ما معنى نسبي؟ يعني بالنسبة لبعض الناس، هذا يخفى عليه، فيستشكل المعنى، وهذا يتضح له، هذا يدخل فيه أنواع من الآيات، مثل الآيات التي ظاهرها التعارض، يعني حينما يقول الله مثلًا: لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ ثم يقول في موضعٍ آخر: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] فكلمهم، فهذه كيف نجمع بينها؟

العلماء يعرفون الجمع بينها، لا يكلمهم كلام تكريم، أو يوم القيامة يوم طويل لا يكلمهم في بعض المقامات، وفي بعضها يكلمهم.

وكذلك: لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن:39] وفي موضعٍ آخر: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24] فإما أن يُقال: هذا لا يُسأل سؤال استعتاب من أجل أن يُعذر ليُبين عن عذره، أو أنه لا يُسأل في بعض المقامات في يوم القيامة، ويُسأل في مقامات، وأحوال أخرى فهو يومٌ مقداره خمسين ألف سنة - يوم طويل، هذا وجه الجمع، لكن من خفي عليه، وأشكل عليه هذا يكون بالنسبة إليه من قبيل المتشابه، ومن اتضح له فهو بالنسبة إليه محكم، هذا معنى نسبي.

وقد يكون في الآية الواحدة يعني من غير تعارض وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ . . . [الأنعام:3] بعض الناس قد يستشكل هذا، هل الله - تبارك، وتعالي - في السماوات، وفي الأرض؟ الراسخون يعلمون المعنى، فالله على العرش استوى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50] إذًا ما معنى وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ . . .؟

إما أن يكون وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ يعني، وهو المألوه المعبود في السموات عند أهل السماوات، وعند أهل الأرض وَفِي الأَرْضِ أو يكون وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ يعني المألوه في السموات وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ فيكون متعلقًا بالعلم، ولا يُقال: إن الله في السموات، وفي الأرض، فالله فوق العالم على عرشه، بائنٌ من خلقه.

هذا قد يكون متشابهًا مشكلًا بالنسبة لبعض الناس، فما أشكل من جهة المعنى فهو متشابه بالنسبة لهذا الذي أشكل عليه، فالواجب عليه أن يرد ذلك إلى المحكم، ما هو المحكم؟ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ؟ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ونحو ذلك، فيتبين المعنى.

هذا على الوصل، على قراءة الوصل وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وعلى الوقف على لفظ الجلالة: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فهذا المتشابه المطلق، لكن ليس في المعنى، وإنما في الكنه، والكيفية، وحقائق الأمور الغيبية وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ هنا ما تطرق للكلام على التأويل، أو العلة.

على كل حال هو يتحدث عن هذه القضايا فيما بعد، لكن أنا أوضح لكم، أجمع الكلام فيها من أجل أن يتضح وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فنقف هنا، فيكون المعنى في المتشابه المطلق ليس من جهة المعاني، وإنما الحقائق، الأمور الغيبية وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ كيف يد الله؟ وهكذا ما أخبر عن الغيوب، متى تقع الساعة؟ متى يقع ما أخبر الله به؟ فهذا غيب، فالتأويل يأتي بمعنيين في لغة الكتاب، والسنة:

 الأول: التفسير وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ أي: تفسيره، هنا على معنى التفسير تأتى ذلك على قراءة الوصل وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يعني: يعلمون تأويله أي: تفسيره، فيكون من قبيل المتشابه النسبي من جهة المعنى، والتفسير.

وأما على الوقف فليس ذلك بالتفسير للمعنى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ فالتأويل هنا بمعنى الأوْل، وهو يأتي بمعنى: الأوْل الرجوع، وهو ما يكون في ثاني حال، فلاحظ فيما ذكر في سورة يوسف - عليه الصلاة، والسلام: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [يوسف:36] يعني: بتفسيره، فتأويل الرؤيا: تفسيرها، وأيضًا حينما سجد أبواه مع إخوته قال: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ [يوسف:100] هنا ليس معناها التفسير، وإنما الوقوع، فهو يأتي - التأويل - بمعنى التفسير هذا المعنى الأول، تأويل الآية بمعنى: التفسير، تأويل الكلام بمعنى: التفسير.

ويأتي بمعنى: الوقوع بالنسبة لما أخبر به هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الأعراف:53] يعني: وقوع ما أخبر به.

ويأتي بالنسبة للأمر بفعل المأمور: الامتثال، قول عائشة - ا -: كان النبي ﷺ يكثر أن يقول في ركوعه، وسجوده: سبحانك اللهم ربنا، وبحمدك، اللهم اغفر لي يتأوّل القرآن[3].

ومعنى يتأوّل القرآن، يعني: يطبق، ويمتثل فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3] لما قال: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] يتأول القرآن: يمتثل، ويطبق، فهذا معنًى للتأويل، فتأويل الخبر وقوع المخبر به، وتأويل الأمر فعل المأمور، هذا المعنى الثاني للتأويل.

 أما المعنى الثالث - الذي يذكره المتكلمون كثيرًا: وهو صرف الكلام من المعنى الراجح المتبادر إلى معنًى مرجوح، فهذا لا يوجد في كلام الله ولا في كلام رسوله ﷺ ولا في كلام السلف الصالح، وإنما هذا جاء بعد ذلك على يد المتكلمين من المعتزلة، وأضرابهم، ولذلك لا يصح أن نفسر ألفاظ القرآن باصطلاحٍ حادث، يعني: إذا أتينا نتحدث هنا وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ كثير من المفسرين من أهل الكلام يقول: والتأويل صرف الكلام من المعنى. . . . ؛ لأن هذا اختمر في أذهانهم، فظنوا أن هذا معنى التأويل في القرآن، بينما هذا المعنى لم يكن مستعملًا، ولا معهودًا، ولا معروفًا في كلام الله، ولا في كلام رسوله ﷺ ولا في كلام السلف الصالح .

 هذه خلاصة في هذه الآية التي هي الآية الوحيدة التي تذكر الإحكام، والتشابه بالمعنى الخاص، وهذا هو التفصيل فيها على الوقف، وعلى الوصل، ما يأتي من كلامه - رحمه الله - يكون قد تبين - إن شاء الله تعالى -.

قال: "قال ابن عباس: المحكماتُ الناسخاتُ، والحلالُ، والحرام، والمتشابهات المنسوخاتُ، والمقدم، والمؤخر" هذا بإسنادٍ حسن عن ابن عباس - ا - وهو أحد المعاني المذكورة فيه، وذكرت لكم قول الإمام أحمد - رحمه الله - قال: "وهذا تمثيلٌ لما قلنا".

"هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ أي: عمدةُ ما فيه، ومعظمه."

يعني: أصل الكتاب، قال: لأصل كل شيء، ومرجعه: أم، ولذلك الراية التي يحملها الجيش معهم يُقال لها: "أم" هذا جاء في كلام العرب "أم" لأن الجند يجتمعون حولها، ولهذا قيل للفاتحة: أم الكتاب - كما سبق في الكلام على أسمائها - باعتبار أنها أصل ترجع إليه جميع معاني القرآن أُمُّ الْكِتَابِ "أم القرآن" فهي جامعةُ معانيه، وحاوية لها - والله أعلم -.

"فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ نزلت في نصارى نجران، فإنهم قالوا للنبي ﷺ أليس في كتابك أن عيسى كلمةُ الله، وروحٌ منه؟ قال: نعم، قالوا: فحسبنا إذا[4] فهذا من المتشابه الذي اتبعوه."

على كل حال - كما ذكرت لكم - هذا لا يصح، وهنا بأنها نزلت: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ نزلت في نصارى نجران هذا جاء عن الربيع بن أنس - رحمه الله - ولكن روايته مرسلة، وفي سنده أيضًا من لا يُعرف، لا يصح هذا حتى عن الربيع بن أنس، مع أنه مرسل، فالرواية في هذا لا تصح.

لكن لا شك أن النصارى اتبعوا المتشابه، يعني في مثل هذا، وفي غيره، قالوا: رُوحٌ مِنْهُ روح يعني قالوا: هو جزء من الله بينما الله - تبارك، وتعالى - أخبر  بأن الله  أعطى الخلق، ورزقهم، ونحو ذلك من السموات، والأرض، قال: جَمِيعًا مِنْهُ فهل هذه المخلوقات هي جزءٌ من الله ؟ لا أحد يقول بهذا، فهم يتبعون - على كل حال - المتشابه.

ويقولون: بأن عيسى - عليه الصلاة، السلام - خُلق من غير أب، ولا يُعقل أن لا يكون له أب، فهو ابن الله - تعالى الله عما يقولون - فيُرد عليهم بأن آدم - عليه الصلاة، والسلام - من باب أولى إذًا، لا أب له، ولا أم، ومع ذلك هو عبدٌ لله - تبارك، وتعالى -.

وكذلك النصارى يحتجون، أو يتبعون المتشابه في أشياء مثل: ضمائر الجمع نحن، حينما يأتي ذلك في كلام الله  فيقولون: هذا يدل على الجمع فهو ثالث ثلاثة - تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا - وإنما يقول ذلك المعظم نفسه كما هو معلوم، والقرآن نزل بلغة العرب، وبكلامهم.

فهذا من اتباع المتشابه، يدخل في هذا النصارى، وغير النصارى، كل من يتبع المتشابه، هذا دليلٌ، وبرهان على أن في قلبه زيغ، ولهذا قال النبي ﷺ فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم[5] الذي سواءً كان يتبع المتشابه من القرآن، أو من السنة، يعني: يأتي بأحاديث، أو يأتي بآيات يُلبس بها على الناس، ليستحل الحرام، أو يشكك الناس في الثوابت، فمثل هذا الذي يبحث عن هذه المواضع هذا في قلبه زيغ، يتتبع هذه المناقيش، ويستخرجها، ويلبس بها على الناس، ويضللهم بذلك، هذا في قلبه زيغ.

"وقيل: نزلت في أبي ياسر بن أخطب اليهودي، وأخيه حُيي[6] ثم يدخل في ذلك كل كافر."

لكن هذا أيضًا لا يصح، فهي رواية مرسلة عن مقاتل - رحمه الله - "مقاتل" توفي سنة مائة، وخمسين للهجرة، فهي رواية مرسلة، لا يصح أنها نزلت في أبي ياسر، وأخيه حيي.

"ثم يدخل في ذلك كل كافر، أو مبتدعٍ، أو جاهلٍ يتبع المتشابه من القرآن."

ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران:7] أي: ليفتنوا به الناس."

"ليفتنوا به الناس" يعني طلبًا للفتنة، والفتنة يدخل فيها الشرك، والكفر، والشر عمومًا، وأصلها - كما هو معلوم، وذكرنا في الغريب: الاختبار، والابتلاء، والامتحان من الفَتْن، ولذلك يُقال: بأنه من إدخال الذهب في النار ليتميز خالصه من شائبه، وتظهر جودته، فهنا ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ يعني: طلبًا للشبهات، واللبس على أهل الإيمان، وتضليلهم، الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ أي: لإضلال أتباعهم[7] يضلون أتباعهم إيهامًا لهم بأنهم يحتجون على ضلالهم، وبدعتهم بالقرآن.

ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ والمعنى يشمل هذا، ويشملُ غيره، هؤلاء الذين يتتبعون المتشابهات، يبحثون عنها؛ من أجل التلبيس، والتشكيك، والطعن، وتضليل الناس، هذا سواءً كان في العقائد، أو كان ذلك في الأحكام، يعني مثل الذي يريد أن يقول: بأن الحجاب لا أصل له مثلًا، فيبحث عن مواضع يزعم أنها تدل على مراده، وبعض هؤلاء قد لا يصل إليها أصلًا، ولا يعرفها، ولا يعرف يقرأ صفحة من كتب السنة، ولا يعرف كتب السنة، ولا يعرف أسماءها، لكن يوجد بعض المنتكسين مـمن قرأ، ودرس، وعرف فيأتونهم بهذه الأشياء، ويجمعونها لهم في دفاتر، وفي بحوث بالمناقيش، ويجمع له هذه المتشابهات، ويعطيه إياها، فيبدأ هذا يلبس، ويشكك، ويدندن حولها؛ ليضل الناس، فيروج هذا على بعض من قلَّ بصره. 

أو يريد مثلًا أن يقرر قضايا بشهوات في نفسه، ونحو ذلك، ويأتي ببعض المواضع، ويقول: انظروا هذه امرأة أجنبية، وجالسة مع الرجال، وتخدمهم، ونحو ذلك، وهكذا، هؤلاء يتبعون المتشابه، ويتركون المحكمات الواضحات، والأصل الكبير أنك إذا أشكل عليك موضع أن يكون متشابه بالنسبة إليك، ارجع إلى المحكمات، ارجع إلى الأصل الكبير، إذا التبس عليك شيء فيما يتعلق بالقرآن، أو تحريف القرآن، أو نحو هذا، أو الأحرف السبعة، والقراءات، أشكل عليك موضع فارجع إلى الأصل الكبير لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ [فصلت:42] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] تسلم.

إذا كان يتعلق بقضية الصحابة، وهل في بعضهم قدح، وفي عدالتهم شيء، ولبس عليك مُلبّس، وما عرفت الجواب المفصل، ارجع إلى الأصل المحكم: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ . . .  [الفتح:29] إلى آخره لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ . . . [الفتح:18] ونحو ذلك وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ  [التوبة:100].

وكذلك قال: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ [الحشر:8] ثم قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ [الحشر:9] وهم الأنصار فأثنى على المهاجرين، والأنصار، هذه محكمات ترجع إليها، تعرف عدالة الصحابة .

فدائمًا إذا أشكل عليك موضع خاص، ما عرفت الجواب عنه، ارجع إلى الأصل الكبير، فيكون كالجبل، وبذلك تأمن من الضلالة، ولا يستهويك أحد من هؤلاء الذين في قلوبهم زيغ، فتقع في شَركه، وشبهته، وإذا كنت تعرف الجواب المفصل فهذا أكمل، وهذا المعنى ذكره الشيخ محمد عبد الوهاب - رحمه الله - في أول كتابه "كشف الشبهات" - والله أعلم -. 

"قوله تعالى: وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ أي: يبتغون أن يتأولوه على ما تقتضي مذاهبهم، أو يبتغون أن يصلوا من معرفة تأويله إلى ما لا يصل إليه مخلوق."

تعرفون خبر صبيغ بن عسل الذي كان يسأل عن متشابه القرآن، فقال عمر : (اللهم أظفرني به) فكان يجول بين الجند، ويسأل عن متشابه القرآن، فدخل على عمر  يومًا كان الناس عنده يتغدون، قال: يا أمير المؤمنين وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ۝ فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا [الذاريات:1 - 2] فقال عمر : أنت هو؟ وفي رواية: أنه قال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، قال: وأنا عبد الله عمر، كان قد خبأ له عراجين، فضربه على رأسه حتى سقطت عمامته، ثم في اليوم الثاني، والثالث، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، إن كنت تريد قتلي فأنت وذاك، وإن كنت تريد ما بي فوالله قد ذهب، يعني: اتباع المتشابه أذهبته العراجين، فتبخر هذا الذي في رأسه، قال عمر : (والله لو وجدتك محلوقًا لأخذت الذي بين عينيك).

يعني: قتلتك، محلوقًا إشارة إلى الخوارج، فإن سيماهم التحليق كما ذكر النبي ﷺ في ذلك الوقت، وإلا بعضهم كان له شعر، كما ذكرنا في العبر من التاريخ بأن عبد الرحمن بن ملجم كان له شعر إلى منكبيه.

ثم نفاه عمر إلى البصرة، وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يُجالَس، ولا يُكلَّم، فكان إذا جلس إلى حلقة في المسجد لا يعرفونه، وعرفه بعضهم قال: عَزمةُ أمير المؤمنين، فقاموا، وبقي وحده، كان عزيزًا في قومه فذل حتى استقام أمره، فكتب أبو موسى الأشعري إلى عمر بأن الرجل قد استقامت حاله، فأمر عمر بمجالسته، فلما خرج الخوارج بعد ذلك قيل له: هذا أوانك، فقال: لا، قد نفعتني موعظةُ الرجل الصالح عمر [8].

فهذا إتباع المتشابه، والبحث، والتنقير الذي يتتبع الغوامض، أو ما يحصل به التلبيس على الناس، أو يُنقر في المسائل، أو يبحث عن الغرائب، أو نحو ذلك، هذا يدل على زيغ في قلبه، وأنه غير سوي، ولا نظيف إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم[9].

فمن الناس من يكون ذلك طبيعة فيه غالبة، يعني: أن عقله هكذا يميل دائمًا إلى هذه المواضع، ويستخرجها مع أنه ليس من المشتغلين بالعلم، لكنه يميل إلى هذه الأشياء، ويبحث عنها، وإذا جاءك يسأل عرفت مباشرة ماذا سيسأل عنه، أنه سيسأل عن أشياء من هذا القبيل، يستخرجها بالمناقيش، ويأتي ليسأل، يقرأ القرآن، ويأتيك يقول: عندي سؤال، ثم يسأل سؤالًا من هذا القبيل، يبحث عن هذه الأشياء، ويقف، ويذهب إلى هذا، وهذا، وهذا، يسأل عنها، فهذا طريق الزيغ.

والجادة: أن يسلك الإنسان سبيل العلم، ويتعلم العلم بأصوله الصحيحة، ويتدرج فيه التدرج الصحيح، ولا يأخذ المسائل بالمقلوب، يعني: يأخذ مسائل الكبار، ويهجم عليها، ويسأل عنها، ويترك ما هو بصدده من المسائل التي ينبغي أن يتعلمها من الأسس، والأصول، فإذا رأيت من يتقحم من الأعلى فاعلم أنه على طريق ضلالة، وإذا رأيت من يتتبع هذه، وينقر عنها - هذه القضايا - فاعلم أنه على طريق ضلالة، ليست هذه هي الجادة، ومثل هؤلاء أنا أرى أنهم لا يُشتغل بهم، ولا بالجواب عن مسائلهم، لكن من بسط الله يده مثل عمر من له ولاية، فيمكن أن يؤدب مثل هؤلاء بهذه العراجين، ومن ليس كذلك فكما قال شيخ الإسلام: من المسائل ما جوابه السكوت، ما كل من سأل يُجاب، فإذا سأل الإنسان عن شيءٍ ليس بصدده، أو لا يعنيه، أو غيره من المسائل التي لربما متكلفة، أو من قبيل التعمق في البحث، والتنقير، ونحو ذلك، فمثل هذا يُصرف عنه، ويُوجه إلى غيره، فإذا عُرف أن هذا من عادته الغالبة تُرك - والله المستعان -.

"وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ إخبارٌ عن إنفراد الله بعلم تأويل المتشابه من القرآن، وذمٌّ لمن طلب علم ذلك من الناس.

طبعًا هذا بناءً على الوقف وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ: فيكون العلم علم الكنه، والكيفية بالنسبة لحقائق الأمور الغيبية، وكذلك أيضًا الغيبيات، ووقوع الساعة، ونحو ذلك، متى تقع؟ متى يقع كذا؟ هذا في علم الله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فبعض الناس يُجرون حسابات بناءً على الحروف المقطعة، وغير ذلك يقول لك: الساعة ستقوم عام كذا، ستخرج الشمس من مغربها في وقت كذا، في عام كذا، فإذا قيل له: إن هذه الأمور لا يعلمها إلا الله، قال: نعم ممكن يحصل أمور في الكون فيختل هذا السير، وهذا النظام، ويتغير الوقت - للأسف - يوجد من يقول مثل هذا الكلام، ويوجد من يكتب، وينشر أشياء من هذا القبيل.

"وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مبتدأٌ مقطوعٌ مما قبله."

هذا بناءً على الوقف الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: مبتدأ، فتكون الواو استئنافية وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: يعني ليست عاطفة، وهذا صحيح ثابت عن ابن عباس - ا - يعني: الوقف، فيكون محمله على ما ذكرت، يعني ليس على التفسير، والمعنى؛ لأنه لا يوجد في القرآن شيء لا يُعرف معناه، ويكون على هذا: الرَّاسِخُونَ: مبتدأ، والخبر: جملة يَقُولُونَ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ فهذا على قراءة الوقف.

والراسخون ما المراد به في قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ؟

يعني: الذين رسخت قدمهم فيه، يعني: الثابتون فيه، الذين أتقنوا العلم، وضبطوه بحيث لا يُداخلهم في ذلك شك، ولا لبس، فالرسوخ يعني: الثبوت، وهذا أصلُ هذه المادة: "رَسَخَ" راسخ، يدل على الثبات، فالناس في العلم مراتب: فمنهم من يكون في مبدأه، وهذا يحصل عنده من الشك، يقبل التشكيك في معلومهِ، ومنهم من يكون متوسطًا بين بين، ومنهم يكون راسخًا، فهذا الراسخ هو الذي يكون العلم سجيةً له، يعني: من غير تكلف، ولا تصنع، فيكون العلم من الصفات الثابتة فيه، ولا يقبل التشكيك، وليس عنده فيه تردد.

والشاطبي - رحمه الله - في "الموافقات" ذكر مراتب الناس في العلم من وجه آخر، من جهة ما يحمل عليه، فذكر المراتب الثلاث، ولما ذكر أهل الرسوخ في العلم، ذكر أنهم بالنسبة إليهم هؤلاء المعصية لا يحتاجون إلى مجاهدات، ولا يحتاجون إلى صوت القوارع، والوعيد، والحدود التي تردعهم، كما هو الشأن بالنسبة لأصحاب المرتبة الأولى: تردعهم الحدود، والمرتبة الثانية: تردعهم الوعد، والوعيد، وأصحاب المرتبة الثالثة: هم الذين صار العلم كالأنفاس بالنسبة إليهم، والعبادة بلا تكلف[10].

يعني: تجد مثل هذا يقوم الليل الساعتين، والثلاث، ونحو ذلك بلا منبه، حتى لو نام متأخرًّا ينام ساعة، أو نحو ذلك، ويقوم بلا منبه، ولا يحتاج تكلف، ويتوضأ باليوم الشاتي، ولا يجد كبير كلفة في هذا، ولا يحتاج إلى كبير مجاهدات.

بينما تجد الفئة رقم واحد لربما لا يستيقظ الفجر إلا بكلفة شديدة، ومجاهدات، ولربما تفوته تكبيرة الإحرام، أو الركعة الأولى، أو تفوته الصلاة في أيام من الأسبوع.

والمرتبة الثانية: لربما يستيقظ لصلاة الفجر، ويجاهد نفسه، لكنه قد لا يكون بذاك بالنسبةِ للعبادة، فنفسه ليست منقادة الانقياد الكامل لها، وكذلك بالنسبة للمعصية يقع، ويقوم، ويقع، ويقوم، ويحتاج إلى نصوص الوعد، والوعيد، ونحو ذلك؛ ليحصل له الانكفاف، والانزجار، والعمل بطاعة الله وترك معصيته، ومخالفته، هذا لا شك أنه واقعٌ موجود، ولو تقرأون في سير العلماء الراسخين، وتنظرون إلى حالهم من الاستقامة، والعبادة، والطاعة، والتلاوة، وقيام الليل، وصيام النهار، تجدون أن هذا مثل السجية بالنسبة إليهم، هذا هو السبب لما تسمعون تراجم معاصرين، وقدماء أنه لربما لا ينام إلا ساعة، أو يقسم الليل ثلاثة أقسام، أو نحو هذا، والبعض من طلاب العلم لربما يبقى الليل، وهو في حالٍ من السهر، والنشاط، ونحو ذلك، ويكسل عن ركعة يوتر فيها، هذا ليس من أخلاق، ولا من صفات الراسخين في العلم أصلًا، ولذلك قد تجده يحفظ أشياء، وتجده يحسن الإلقاء - ونسأل الله أن يلطف بنا، ويرحمنا برحمته - يشتغل بالعلم، ونحو ذلك، ولكنه إذا نظرت إليه في حاله، في عبادته، في صيامه، في قيامه، في طاعاته، في ذكره، في ورده، تجد التقصير الكبير، وتجد حالًا لا تفترق كثيرًا عن حال العوام، بل حال بعض العوام أفضل، بعض العامة يقومون الليل، ويبادرون إلى الصلاة، ويصلون خلف الإمام، ولا تفوتهم تكبيرة الإحرام، ما يؤذن المؤذن إلا وهو في المسجد، وبعض طلبة العلم آخر من يأتي، هذا ليس من صفات الراسخين في العلم، فهي مراتب، وراجعوا كلام الشاطبي في هذا كلام جيد مفيد.

"والمعنى: أن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه، وإنما يقولون آمنا به على وجه التسليم، والانقياد، والاعتراف بالعجز عن معرفته، وقيل: إنه معطوفٌ على ما قبله، وأن المعنى: أنهم يعلمون تأويله، وكلا القولين مرويٌّ عن ابن عباس[11]."

يعني: كل ذلك ثابت - كما ذكرت، وعلى هذا المعنى الثاني فقوله: الرَّاسِخُونَ مرفوع وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يكون مرفوع عطفًا على لفظ الجلالة وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يعني يعلمون تأويله، هذا على قراءة الوصل، ويكون قوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ هذا يكون الجملة تكون حالية، حال، يعني حال كونهم قائلين: آمَنَّا بِهِ أو خبر لمبتدأ محذوف غير الأول، أي هم يقولون: آمَنَّا بِهِ وكأن الذي قبله أحسن أنه حال، وأن الأصل عدم التقدير - والله تعالى أعلم - وأن المعنى: أنهم يعلمون تأويله.

"والقول الأول: قول أبي بكرٍ الصديق[12] وعائشة[13] وعروة بن الزبير[14]."

هنا في الهامش لم أقف على قول أبي بكر الصديق في هذه المسألة، وهو مرويٌّ عن عمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنس كما في "المحرر الوجيز لابن عطية "[15] بدون ذكر سند.

طبعًا المؤلف هنا ينقل باختصار، واقتضاب في الأحكام التي يذكرها من التخريج، أحاديث الكتاب في رسالة ماجستير في جامعة أم القرى، ينقل هذه الأحكام التي ترونها في هامش الكتاب، ينقلها باختصار، واقتضاب، فهناك تجد في التخريج لم أقف على قول أبي بكر الصديق.

وهذا ثابت عن عائشة - ا - كان من رسوخهم في العلم: أن آمنوا بمحكمه، ومتشابهه، ولم يعلموا تأويله.

القول الأول: يعني: هذا باعتبار الكنه، والكيفية، يعني على الوقف، وليس المعنى، والتفسير.

القول الثاني: أنه معطوف على ما قبله يكون بالتفسير، ويكون التشابه فيه نسبي، يعني: بالنسبة لبعض الناس، من خفي عليه فهو متشابه في حقه، فهو متشابه بالنسبة إلى فلان، وفلان، وفلان، وليس بمتشابه بالنسبة إلى فلان، هذا معنى نسبي ليس بمطلق.

وعروة بن الزبير، هنا يقول: أخرجه الطبري في "جامع البيان" بسندٍ ضعيف. 

على كل حال: هو مروي أيضًا عن ابنه هشام بن عروة، وعن أبي نهيك الأسدي، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، وأبي الشعثاء[16] وهذا القول أيضًا اختيار بن جرير[17] والواحدي[18] وابن قدامة[19] والشنقيطي[20] ونسبه أبو عمرو الداني - رحمه الله - إلى أكثر العلماء من المفسرين، والقراء، والنحاة[21].

وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: (وعليه أصحاب ابن عباس)[22] وفي قراءة ابن مسعود: (إِنْ تَأْوِيلَهُ إِلَّا عِنْدَ اللَّهُ) يعني: إنْ هنا هذه نافية، بمعنى: ما تأويله إلا عند الله، يكون الله استأثر بعلمه (إِنْ تَأْوِيلَهُ إِلَّا عِنْدَ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ).

هذا على كل حال كما ذكرت بأن الوقف، والوصل كلاهما ثابت عن ابن عباس - ا - ولكلٍ محمله، ولا إشكال في ذلك - والله أعلم -.

إذًا القول الأول: على الوقف هو قول الأكثر وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فيكون محمله على ما ذُكر، حقائق الأمور الغيبية، ونحو ذلك، ولكن على الوصل أيضًا المعنى واضح، ولا إشكال فيه، فيمكن أن تصل، ويمكن أن تقف، كل ذلك سائغ - والله أعلم -. يقول ابن جزي هنا: "وهو أرجح" يعني القول الأول على الوقف.

"القول الأول: قول أبي بكرٍ الصديق، وعائشة، وعروة بن الزبير، وهو أرجح.

وقال ابن عطية: المتشابه نوعان: نوعٌ انفرد الله بعلمه، ونوعٌ يمكن وصول الخلق إليه، فيكون الراسخون ابتداءً بالنظر إلى الأول، وعطفًا بالنظر إلى الثاني."

"المتشابه نوعان: نوعٌ انفرد الله بعلمه": فيكون هنا الوقف على لفظ الجلالة، والراسخون ابتداء "ونوعٌ يمكن، وصول الخلق إليه" فيكون على الوصل، فيكون معطوف وَالرَّاسِخُونَ معطوف على لفظ الجلالة وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يعني: يعلمون تأويله، وعطفًا بالنظر إلى الثاني.

وعلى كل حال: عرفتم أن الوقف قول الأكثر، لكن الوصل - كما قلت - أيضًا ثابت عن ابن عباس - ا - وهو مروي أيضًا عن مجاهد، والربيع بن أنس، ومحمد بن جعفر بن الزبير، والضحاك بن مزاحم[23] وشيخ الإسلام - رحمه الله - ذكر القولين، وأنه لا منافاة بينهما.

وجوَّز الأمرين: الراغب الأصفهاني أيضًا[24] وهذا مما يدخلُ في قاعدة: أن القرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فمن الفروع الداخلة تحتها ما يتعلق بالوقف، والوصل، والابتداء، يعني يتغير المعنى، ويكون كل ذلك صحيح.

قد ذكرت في بعض المناسبات قوله - تبارك، وتعالى -: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ على هذه القراءة المتواترة، تقف هنا، القتل وقع على من؟ على النبي، أنبياء كُثر "كأي" تدل على التكثير أنبياء قٌتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ يعني جماعات كثيرة أتباع مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ يعني من قتلِ نبيهم، ومُقدَمهم، وقائدهم - عليه الصلاة، والسلام - مَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وعلى الوصل: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ يعني: قُتل كثير من الأتباع، فما فت ذلك في أعضاد من بقي على قيد الحياة.

على القراءة الأخرى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران:146] وتقف وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ كثير من الأنبياء قاتلوا الكفار مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:146] فيتغير المعنى بحسب الوقف، وكل ذلك صحيح - إن شاء الله - وله أمثلة على كل حال، لكن من أوضحها: آية آل عمران هذه في المتشابه.

"كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا أي: المحكمُ، والمتشابه من عند الله."

رَبِّنَا: هذا من قولِ الراسخين، وجاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء ثم قال رسول الله ﷺ اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك[25].

وعن شهر بن حوشب، قال: قلت لأم سلمة: يا أم المؤمنين ما كان أكثر دعاء رسول الله ﷺ إذا كان عندك؟ قالت: "كان أكثر دعائه: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" قالت: فقلت: يا رسول الله ما لأكثر دعائك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ قال: يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ. فتلا معاذ  رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8][26].

هنا يقول: حكاية عن الراسخين، يعني أن هذا من كلامهم أنهم يقولون هذا، ويحتمل أن يكون منقطعًا على وجه التعليم، يعني: يكون هذا من قبيل الموصول لفظًا، المفصول معنًى.

يعني: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا هذا كلام الراسخين وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا يكون من كلام الله يعلم عباده كيف يدعون. 

وعلى الأول: يكون من جملة كلام الراسخين أنهم يقولون: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ويدعون، ويقولون: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا وهذا فيه معنًى لطيف في غاية الأهمية، وهو أنه مع رسوخهم في العلم يسألون الله الثبات رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا فيخافون على أنفسهم، فهذا لا شك أنه يدل على معنًى كبير، إذا كان هؤلاء مع رسوخهم بهذه الحال يسألون الله ألا يُزيغ قلوبهم، فكيف بمن دونهم ممن لا علم له، أو لديه من العلم ما يقبل التشكيك، والتردد، ونحو ذلك، يضطرب، لا يثبت على حال!

فهذا من باب أولى أن يلهج كثيرًا بهذا الدعاء، فهؤلاء ما أورثهم الرسوخ في العلم الغرور، والإعجاب بالنفس، فيشعر أنه لا سبيل إلى الضلال، أو الزيغ، ولا طريق للانحراف إلى قلبه، فهم يخافون، فالمؤمن حري به أن يخاف دائمًا، وأن يُكثر من هذا الدعاء، ويبتعد - إذا كان هؤلاء يسألون مع رسوخهم - يبتعد عن كل الأسباب التي تؤدي إلى زيغ القلب من النظر للشبهات، وتعريض القلب للفتنة: فتنة الشهوات، وفتنة الشبهات، لئلا تعلق في قلبه فيضل، أما الذي يفرِّط، ويتعرض لكل آسرٍ، وكاسر، فيقرأ هنا، وهناك، ويتابع مدونات، ويتابع حسابات، ويبحث عن الكتب، وكأنه قد ظفر بشيءٍ عظيم حينما يجد كتابًا لبعض أهل الضلال في سفر، أو نحو ذلك.

هذا قبل وجود هذه الشبكة، ونحو هذا كان بعضهم يفرح إذا وجد بعض كتب الضلالة، بل رأيت بعض من فرح فرحًا كبيرًا أنه وجد كتابًا مشهورًا في السحر في بعض البلاد - ولا حاجة لذكر اسم ذلك الكتاب - فرأيت ذلك الرجل مغتبطًا أنه وجده في أحد المكتبات، يُبشر أنه وجده، هو ليس من السحر في شيء لكن الرغبة بالممنوع، والرغبة بالشيء النادر، ونحو هذا، فهذا موجود، وبعض الناس يبحث عن كتب للفرق المنحرفة، والضالة، ويحاول أن يقتني هذه الكتب، وليس من أهل الاختصاص، وإنما البحث دائمًا عنه، والآن أصبح كل شيء متاح عبر هذه الشبكة، فتجد يقرأ لهذا، ويتابع هذا، ويبقى القلب في حالٍ من التقلب، والتعرض لفتن قد لا تقف أمامها الجبال، وهو بحجة أنه يثق كما يقول بعضهم: أنا واثق من نفسي، ونظري في هذه الضلالات، والانحرافات التي تقولون عنها انحرافات، وضلالات يزيدني ثقةً بما عندي؛ لأني لا بد أن أعرف كل ما عند الآخر؛ لأكون على بينة، هذا من أعظم أبواب الزيغ.

فكان هذا دعاء الراسخين: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا والنبي ﷺ لما رأى مع عمر نسخة من التوراة غضب[27] فكيف بكتب مليئة بالفتن، والشبهات بأنواعها؟ أو الذي يقضي ليلًا طويلًا أمام مواقع إباحية، ويرى ما لا قِبل له به فتتراءى له الفاحشة، وهو ساجد، ولا يرى فيمن يشاهد من محارمه إلا صورة المرأة العارية، هذا كيف يكون ممن يطلب السلامة، والخلاص، والثبات على الحق، وقلبه بمثل هذه الحال مستطير مع هذه الشرور الكبار، فقد ينحرف في أي لحظة، وقد ينحرف، ويضل، ويُختم له بالخاتمة السيئة عند الموت. 

وقد رأيت بعض من كان دون ذلك يقرأ على بعض المتكلمين في علوم اللغة، والبلاغة، ونحو هذا، ونُهي عن هذا، ونُصح، فكان يذهب إليهم سرًّا سنوات، ثم بعد ذلك قال كلمة سمعتها، قال: أجد في نفسي حُسيكة من أثر تلك القراءات على هؤلاء، لكن بعد متى؟ بعد سنوات، ولم ينتصح، ويذهب إليهم سرًّا، بعض المبتدعة من كان يذهب إليهم في أوقات الظهيرة، وإذا خفت الرِجْل، والناس في هدأة، ونحو هذا، ويذهب إليهم في الساعة الثانية ظهرًا في الصيف، فيقرأ عليهم، ويوجد غير هؤلاء ممن يمكن أن يأخذ العلم عنه، فأثر هذا فيه - كما يقول هو - وفي البداية كان يقول: هذه علوم لا علاقة لها، والواقع أن الأخذ، والتلقي عن مثل هؤلاء يؤثر في القلب - الله المستعان -.

"رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا [آل عمران:8]: حكايةٌ عن الراسخين، ويحتمل أن يكون منقطعًا على وجه التعليم، والأول أرجحُ لاتصال الكلام."

يعني: هذا الأصل أنه الكلام يكون متصلًا، فيكون هذا من دعائهم.

"وأما قوله: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ: فهو من كلام الله تعالى لا حكايةُ قول الراسخين."
  1.  الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/145).
  2.  تفسير ابن كثير (2/11).
  3.  أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب التسبيح، والدعاء في السجود، رقم: (817) ومسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع، والسجود، رقم: (484).
  4.  تفسير الطبري (6/186).
  5.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب منه آيات محكمات [آل عمران:7] رقم: (4547) ومسلم، كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعيه، والنهي عن الاختلاف في القرآن، رقم: (2665).
  6.  تفسير ابن أبي حاتم (2/595).
  7.  تفسير ابن كثير (2/8).
  8.  انظر قصته في تاريخ دمشق لابن عساكر (23/410).
  9.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب منه آيات محكمات [آل عمران:7] رقم: (4547) ومسلم، كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعيه، والنهي عن الاختلاف في القرآن، رقم: (2665).
  10.  الموافقات (1/89).
  11.  تفسير ابن كثير (2/11).
  12.  لم أقف عليه.
  13.  تفسير الطبري (6/202).
  14.  المصدر السابق.
  15.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/403).
  16. تفسير ابن كثير (2/10).
  17.  تفسير الطبري (6/204).
  18.  التفسير الوسيط للواحدي (1/414).
  19.  ذم التأويل (ص:37).
  20. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/189).
  21.  المكتفى في الوقف، والابتدا لأبي عمرو الداني (ص:37).
  22.  مجموع فتاوى ابن تيمية (1/29).
  23.  تفسير ابن كثير (2/11).
  24.  المفردات في غريب القرآن (ص:443).
  25.  أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء (2654).
  26.  أخرجه الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ رقم: (3522).
  27.  مسند أحمد (23/349) رقم: (15156).

مرات الإستماع: 0

رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].

هذه الآية جاءت عقِب قوله -تبارك وتعالى- في ذكر قول الراسخين في العلم:  وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران:7]، يعني: المُتشابه، وكذلك يؤمنون بالمُحكم من باب أولى: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، يعني: المُحكم والمُتشابه، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ، فهذا يحتمل ختم الآية وهو قوله: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ أنه من جملة قول الراسخين في العلم، من تمام كلامهم، من بقية قولهم أنهم قالوا: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7]، وأن من جملة قولهم: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]، يعني: أن هذا من جملة كلام الراسخين.

ويحتمل أن يكون قول الراسخين في العلم انقضى عند قوله: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، ثم قال الله : وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7]، على سبيل المدح للراسخين في العلم، ثم قال مُعلمًا لعباده كيف يسألونه ويدعونه: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8]، يُعلمهم قولوا: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا، وجاءت هذه الآية سواء على الاحتمال الأول أو الاحتمال الثاني في غاية المناسبة، فإن كان من جملة قول الراسخين في العلم رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا لا تصرف قلوبنا عن الإيمان بك بعد أن مننت علينا بالهداية للحق، وأعطنا وامنحنا من فضلك رحمة واسعة: إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8] كثير العطاء والفضل والجود والبر والإحسان، تُعطي من تشاء، وترزق من تشاء بغير حساب، فيكون ذلك على الاحتمال الأول من جملة قول الراسخين، ومناسبته ظاهره أنهم لم يكتفوا بالنأي بأنفسهم عن أسباب الضلال، وكذلك أيضًا سلوك طريق الهدى بل سألوا الله أن يحفظ هذه القلوب لا تُزِغْ قُلُوبَنَا لئلا تنحرف وتنصرف عن الحق.

وكذلك أيضًا سألوه أن يهبهم رحمة من عنده فيكون ذلك تعليمًا لأهل الإيمان لمن أراد أن يُحصل الهدى ويبتعد وينأى بنفسه عن أسباب الضلالة عليه أولاً أن يبتعد عن الشبهات، وأسباب الغي، والطرق الموصلة إلى الكفر والانحراف والشر والمعصية.

ويفعل الأسباب التي بها يحصل الهدى من طاعة الله وطاعة رسوله، وصُحبة الأخيار وما إلى ذلك من الأمور العملية الوجودية التي هي من الإيمان، فــالإيمان بضع وسبعون شُعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، [1] فالصلاة إيمان، والحج إيمان، والزكاة إيمان، والصدقة إيمان، والذكر إيمان، والاستغفار وقراءة القرآن كل ذلك من الإيمان، وإماطة الأذى عن الطريق من الإيمان.

وبهذا نعلم قضية مهمة وهي إذا كان هذا حال الراسخين الذين أثنى الله عليهم يبتعدون عن تتبع المُتشابه الذي يكون سببًا للضلالة لدى أقوام، وكذلك يُسلمون لله  فيما أشكل عليهم، ولا يُعارضونه بعقولهم، ولا يُنكرونه، ولا يُكذبون، ثم هم بعد ذلك يسألون ربهم أن لا يُزيغ هذه القلوب بعد إذ هداها، وأن يهب لهم منه رحمة، فكيف بالذي يجعل قلبه عُرضة لكل آسر وكاسر ثم يقول أنا أثق بنفسي، يقرأ في الشبهات والضلالات والأهواء والمِلل والنِحل، ويسمع لكل أفاك ومفتري على الله، وصاحب هوى وضلالة، ويقول: أنا أثق بنفسي، ويقول: من حق الجميع أن يتكلم، ومن حق الجميع أن يطرح ما عنده، من حق الجميع أن يُبدي رأيه ومذهبه واعتقاده أيًّا كان، فهذه حرية في زعمه مكفولة للجميع.

وهذا الكلام غير صحيح، ومن نظر في نصوص الشريعة وفي عمل الصحابة وعمل التابعين ومن بعدهم إزاء هؤلاء المنحرفين، وأصحاب هذه الضلالات فإن من إقرار الحق ودفع الباطل الأخذ على أيديهم، الأخذ على أيدي هؤلاء المفسدين، وأعظم إفساد هو إفساد الإيمان والتوحيد والاعتقاد، وما معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم، وأطر الظالم على الحق، وأي ظلم أعظم من التلبيس على الناس في دينهم وإيمانهم وعقائدهم.

فمن الخطأ ما يُذاع ويُشاع من أن الناس أحرار فيما يقولون، وكل أحد يتحدث عن ما شاء، فإن ذلك لا يحل، فهذا يكون فيه التلبيس والإضلال، ويكون ذلك سببًا لفتنة وشر عظيم كما هو مُشاهد في أرجاء المعمورة، حينما يتحدث عن أصحاب الباطل، لكن قديمًا كان صاحب الباطل لا سيما إذا كان مُزجى البضاعة ليس عنده علم يمكن أن يُضلل به الناس ويُلبس عليهم ماذا عسى أن يصل إليه من الناس ممن حوله، وليست هناك وسائل للتواصل، وليس هناك إعلام، وليس هناك مطابع، وإنما يكتب كتابًا في ورق لربما لا يجاوزه ذلك الكتاب ولا يُنسخ منه نسخة، لكن اليوم أصبح الكل يتحدث، سواء كان عنده شيء من العلم أو لم يكن عنده شيء من العلم، يُبدي رأيه في أصول الدين وفروعه، وفي كل قضية تقع، وأصحاب الأهواء صار لهم مواقع، وصار لهم مدونات، وصار لهم حسابات، فهم يكتبون ما شاءوا، ولا تكاد تسمع إلا غرابًا ينعق، وضلالات تروج عن طريق هذه الوسائل، وسُخرية من العلماء، ومن الراسخين ومن طريقتهم حيث يسلمون ويُذعنون من غير معارضة بعقولهم.

فأقول: هذا الذي يقرأ لهؤلاء ويُعرض قلبه لمثل هذه الشُبهات كيف يسلم.

ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء[2]

وكذلك هذا الإنسان الذي يذهب إلى مواطن الشهوات ثم بعد ذلك يُسرح طرفه، ولربما يسرح هو في أمكان مليئة بالفتن، ثم بعد ذلك يقول: أنا واثق من نفسي، ولربما ترك الإنسان بنته تذهب حيث شاءت، ولربما سافرت إلى بلاد لا يعرفون الحياء والحشمة ولا يوجد عندهم محرمات، وإنما إباحية كاملة، ويتركها بين أظهرهم، ويقول: أنا واثق بهذه البنت، أنا واثق فيها، وكذلك يفعل بنفسه يُعرضها لأنواع الفتن ويقول: أنا واثق من نفسي.

انظروا يوسف الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم السلام-، من خيار الأنبياء ولما تعرض لفتنة النساء قال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ [يوسف:33]، سأل ربه أن يصرف عنه كيد النساء، ما قال: أنا واثق من نفسي، وأنا تلقيت تربية أصيلة إن كنتم لم تتلقوا هذه التربية فابحثوا عن تربية تثبتون معها أمام الشهوات، ما قال هذا وإنما خاف على نفسه، وسأل ربه -تبارك وتعالى- أن يصرف عنه كيدهن.

فهذا الذي يذهب هنا وهناك في مواطن الشبهات ويثق بنفسه، والسلف كان الواحد منهم يضع أصبعيه في أذنيه لا يسمح لأحد أن يتكلم عنده بشبهه، وهم أئمة وأهل رسوخ، ثم يأتي إنسان بضاعته في العلم قليلة مع ضعف في المدارك والفهم، وحداثة في السن ثم يذهب ويقتات على هذه المدونات والكتابات والمواقع والحسابات، والنتيجة يتخرج صاحب شبهات أو صاحب إلحاد، يكون ملحدًا.

وكذلك الآخر الذي يذهب هنا وهناك يُعرض نفسه لفتنة الشهوات قد لا يسلم، سلم في المرة الأولى قد لا يسلم في الثانية، سلم في الثانية قد لا يسلم في الثالثة، وهذا أمر مُدرك ومُشاهد ومعلوم، ولو صدق الإنسان مع نفسه لعلم ذلك وأقر به وأن القلب تعصف به هذه الفتن فلا يكاد يتمالك، فيحتاج العبد أن يبتعد وأن يفعل ما بوسعه من أسباب لزوم الحق واتباعه، ثم يسأل ربه أن يُسلمه وأن يُخلصه.

فهنا: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]، {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} وهذا يدل على أن القلوب لها أحوال من الزيغ والهدى بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ثم حاجة العبد إلى تثبيت الله له أن يحفظ عليه قلبه وإيمانه، ولهذا كان النبي ﷺ كثيرًا ما يقول في سجوده: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك،[3] وهو أعلم الخلق بالله، وأتقى الأمة لله، وأعظم الأمة إيمانًا يُكثر أن يقول مثل هذا، فهل نحن كذلك نُكثر الدعاء في سجودنا وفي غير السجود نتحرى أوقات الإجابة يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ثبت قلبي على طاعتك، حينما يكون الإنسان خائفًا على قلبه؛ لأنه يعلم أن الإيمان في القلب وكذلك أيضًا في الجوارح، ويكون أيضًا باللسان لكن التصديق الانقيادي والإقرار والإذعان كل ذلك يكون في القلب.

فالقلب هو الأصل والأساس: ألا إن في الجسد مُضغة إذا صلُحت صلُح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب،[4] فهل نحن نخاف على هذا الإيمان من أن يذهب ويضمحل ويتلاشى بسبب علوق شبهة، أو عروض شهوة ثم لا يرجع القلب إلى ما كان عليه، أحد السلف جاء من قريته من ناحيته وهو يحمل معه سقاء على ظهره ثم دخل المسجد في البلدة التي تدخل عليها فتسامع الناس فكثروا عليه، فلما رأى هذه الحال خاف على نفسه ورجع إلى قريته يقول: فما عاد لي قلبي إلا بعد سنتين، لماذا؟ جاء بلباس بسيط لباس في غاية البذاذة ومعه سقاء على ظهره، يعني: في غاية التواضع أبعد ما يكون عن المظاهر والشكليات كما يُقال، دخل المسجد تجمع الناس سمعوا به تسامعوا وبدأوا يجتمعون، فلما رآهم خاف ورجع إلى بلدته مُباشرة، ويقول: لم يرجع لي قلبي إلا بعد سنتين، هذا في عبادة وزهد، فماذا نقول: نحن مع قلة العبادة وقلة اليقين وقلة العلم وقلة الصبر، ونحن نُعرض أنفسنا لهذا، لاسيما مع كثرة المتابعين والمُعجبين والمادحين، ماذا عسى أن يبقى في قلب الإنسان.

رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8] فينظر الإنسان ما الذي يمكن أن يؤثر على قلبه فيبتعد وينصرف، الشهرة والإعلام والظهور الإعلامي هذا أمر لابد منه، ولكن الإنسان لا يطلبه ويتوقاه قدر المُستطاع؛ لأن قلبه قد لا يتمالك، وبعض السلف كان يقول: "ما لقيت أحدًا يعني من أهل العلم إلا أوصاني إياك والشهرة"[5].

كان بعضهم يقول: "إن استطعت أن لا تُعرف فافعل"[6] وأيوب السختياني -رحمه الله-[7] من التابعين من العلماء كان يذهب من طُرق يتعجبون كيف يهتدي إليها أزقة يعني وطُرق ضيقة لئلا يراه أحد، وكان لا يترك أحدًا من الناس يتبعه.

ابن مسعود لما تبعه أصحابه وقف وقال: على ما تتبعوني، وذكر أنها ذلة للتابع وفتنة للمتبوع، وقال: "لو تعلمون ما أُغلق عليه بابي ما تبعني منك رجلان"[8] وكانوا يُحذرون من مثل هذا كثيرًا، ونحن نبحث عن خلف هذه الشهرة ونسمع أن هناك من يشترون متابعين، لا أدري كيف يشتري متابعين يكثر العدد، إنسان مغمور وتُفاجأ أنه يتابعه أعداد كبيرة من الناس، على ماذا؟ وسباق على كل وسيلة جديدة، من يُحسن ومن لا يُحسن، وتجد متابعة لتافهين يُسجلون ويصورون أنفسهم في مزاولات تدل على تلاشي العقول وذهابها واضمحلالها بالكلية، إنسان يحمل عقل بهيمي ويتابعه أعداد هائلة من الناس يضحكون، هؤلاء يبحثون عن السعادة ويظنون أنهم يحصلونها في هذا الهزل والتفاهات وما علموا أن ذلك يكون غذاء لأرواحهم ونفوسهم يظهر أثره بعد حين، هم لا يشعرون بهذا الآن، لكن هذا مثل الغذاء الذي يأكله الإنسان، إذا كان طيبًا ظهر أثر ذلك، وإن كان هذا الغذاء سيئًا فإنه يظهر أثره، من غُذي بالنجاسات ظهر أثر ذلك، من غُذي بالطيبات ظهر أثر ذلك، فهؤلاء الجموع الذين يقتاتون على هؤلاء التافهين ويتابعون ما يصدر عنهم من "السناب شات" وما إلى ذلك، هؤلاء يستخرجون بأي شيء؟ قلوب غافلة لاهية، تهتم بالتوافه، لا ترفع رأسًا لمعالي الأمور.

هؤلاء الذين يقتاتون على الشبهات وعلى الساخرين من أهل العلم والمُزهدين فيهم ستخرج في النهاية معولاً يهدم ويُفسد، ولذلك انظروا حينما تصدر فتوى لأكبر هيئة من العلماء الراسخين في بلد، انظر إلى الشماتة ممن لا يصلح أن يكون في الخدمة لهم، شماتة وعبارات وكلام لربما أن الكثيرين من هؤلاء لم يقرؤوا هذه الفتوى أصلاً، وإن كانوا قرأوها لم يفهموها، فهم لا يحسنون القراءة فكيف ينتقدون، ثم كيف هذه الجرأة؟! ومن أين جاءت هذه الجرأة؟! هذه الأعداد الهائلة التي تجترأ على أولي الأمر منهم، الذين أمر الله بالرجوع إليهم وبطاعتهم: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وقد فسرها كثير من السلف بالأمراء والعلماء.

فإذا كان يُسخر من هؤلاء الأكابر الذين يرجع الناس إليهم، فمن الذي يقود الناس؟! ومن الذي يوقفهم؟! ومن الذي يقفون عند قوله؟! ومن الذي يوجههم؟! ومن الذي يدلهم على الطريق؟!

التافه، فهم يبحثون عن التافهين، والله المستعان. 

رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]، الدعاء بهذا الاسم الكريم "ربنا" يعني: يا ربنا حُذف منه ياء النداء، ربنا لا تُزغ قلوبنا، وقد ذكرنا في بعض المناسبات أن عامة أدعية الأنبياء في القرآن هي بهذا الاسم الكريم ربنا، وذلك أن من معاني الربوبية التي تضمنها هذا الاسم الكريم العطاء والمنع، فالسائل حينما يسأل فهو يطلب ربه -تبارك وتعالى- أن يُعطيه وأن يُجيب سؤله وذلك من معاني الربوبية، فناسب أن يُدعى بهذا الاسم الكريم "ربنا" يا خالقنا والمُتصرف فينا، ومن معاني الرب أنه المُربي خلقه بالنِعم الظاهرة والباطنة، فهم يسألونه فضله وألطافه بهذا الاسم الكريم، وقد نبه على هذا المعنى جمع من أهل العلم ذكره الشاطبي -رحمه الله- في الموافقات، وذكره غيره ممن كتب في علوم القرآن.

رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، هذا يدل أيضًا على حال الافتقار، فالعبد بحاجة إلى تثبيت الله له، فهو لا يركن إلى نفسه طرفة عين، لا يركن إلى علمه وأنه لا يضل ولا إلى تربيته ولا إلى بيئته، وإنما يلجأ إلى الله ويخرج من حوله وطوله وقوته وقدراته وإمكاناته مع الابتعاد عن أسباب الفتنة سواء كانت فتنة الشهوات أو فتنة الشبهات، يبتعد ويسلُك طُرق الهداية، ويسأل ربه ويُظهر الافتقار إليه، فالعبد لا يستغني عن ربه بحال من الأحوال، والنبي ﷺ يقول:  إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء [9]

رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا، ودل على أن الهدى والضلال من الله -تبارك وتعالى، ولذلك قال الله لنبيه ﷺ: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]، فالهداية هداية التوفيق بيده وحده، كما أن الإضلال بيده، كل ذلك عن علم وحكمة.

ثم أيضًا: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا، أضاف ذلك إلى القلوب؛ لأن الزيغ إنما هو شأن القلوب، فالزيغ يكون في القلب، رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وهذا حينما يقولونه لا يقولونه على سبيل الافتخار، أو الإدلال أو نحو ذلك: بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وإنما يقولونه من باب التوسل إلى الله بسابق فضله، وهذا من الأدب في الدعاء، أن يتوسل الإنسان إلى ربه -تبارك وتعالى- بسوابق المِنن والإنعام والإفضال فيقول: يا رب أعطيتني وهديتني وأوليتني فلا تُزغ قلبي، لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، يقولون: مننت علينا بالهداية فلا تُزغ قلوبنا بعد هذه الهداية.

وهكذا المؤمن يخاف على إيمانه، ويحترز لذلك، ويسأل ربه أن يحفظ ذلك الإيمان، وأن يحفظ هذا القلب، فلا يحصل به زيغ فيضل الإنسان عن صراط الله المستقيم، وهؤلاء الذين ذاقوا طعم الهداية، وعرفوا حقائق الإيمان، وذاقوا حلاوته؛ ينبغي أن يكونوا أشد الناس خوفًا وإشفاقًا على هذا الإيمان من أن يُفقد، رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وهذه الأدعية في القرآن ليست بحفظ المال، أو العافية في البدن ونحو ذلك، وإنما هي في سؤال الله -تبارك وتعالى- المطالب العالية.

وقد ذكرنا في الكلام على الأسماء الحسنى، والكلام في الأعمال القلبية ما ذكره الحافظ ابن القيم -رحمه الله-[10] من علو الهمة في الدعاء، وعلو الهمة في التوكل على الله -تبارك وتعالى-، في الكلام على التوكل من الأعمال القلبية، وأن من الناس من يكون توكله فيما يتعلق بعيش يأكله ونحو ذلك، ومن الناس من تكون همته أعلى من هذا فيما يتعلق بمصالح الأمة، ونصر الدين، وإعزاز الحق، وما إلى ذلك من المطالب العالية كما هو حال الرسل -عليهم الصلاة والسلام-.

وهكذا أيضًا: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192]، ونحو ذلك، هذا كله يدل على الارتباط بهذا الرب -تبارك وتعالى- وشدة الاتصال به، فهو يلجأ إليه أعظم مما يلجأ الصغير إلى أمه في حاجاته ومُلماته، فيكون العبد كثير الضراعة إلى الله والارتباط به، تكون صلته بالله قوية، ينبغي للعبد أن يكون في حال رخائه وعافيته دائم الصلة بالله ، فإذا وقعت الشدة والبلاء كان على عهد بمن يملك أزمة الأمور، وعلى صلة وثيقة قوية به، فعندها يُسدد ويثبت ويُنصر ويُعان وتكون العاقبة له.

لكن أولئك الذين لا يعرفون الله -تبارك وتعالى- إلا في حال شدة، هؤلاء قد يضطربون وينتابهم ما ينتابهم من الشكوك المُقلقة، والأحوال المزعجة مما قد يحصل معه ذهاب وزوال الثقة بالله  وحُسن الظن به، فتسوء ظنونهم بالله -تبارك وتعالى-؛ لأنهم لا عهد لهم به، ولا ثبات لقلوبهم.

كذلك أيضًا: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً [آل عمران:8]، لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا هذا من باب التخلية، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً هذا من باب التحلية، فالتخلية قبل التحلية، يعني: السلامة أولاً ثم طلب الرحمة، فإذا لم يحصل لهم هذا الزيغ فعند ذلك بقي عليهم الرحمة: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، وهذا يدل على أن الرحمة التي منها الهدى أنها توفيق من الله ، وفضل منه، ومواهب يهبها لمن يشاء من عباده، وهي مراتب: فالهداية إلى الإسلام نعمة وموهبة عظيمة، فكم من الخلق قديمًا وحديثًا ممن فقدوا هذه النعمة ولم يوفقوا إليها، فيحمد الإنسان ربه أن هداه إلى الإيمان وإلى الإسلام التي هي أعظم النِعم وأجل النِعم، هؤلاء الذين يتخبطون بأنواع الكفر على اختلاف مللهم وأهوائهم ونِحلهم.

لو شاء ربك كنت أيضًا مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمن[11].

فيُحافظ الإنسان على هذا الإيمان ولا يجعل إيمانه عُرضة لكل آسر وكاسر، لا يُفرط ويُضيع أو يتخلى، أو يُدير ظهره ثم بعد ذلك يكون متبعًا للمغضوب عليهم، أو لسُنن الضالين بعد إذ هداه الله ، وقد يكون للعباد من الهداية ما هو أخص من ذلك فيُهدى بعد هدايته إلى الإسلام إلى مراتب من الإحسان والتقوى، أو قد يُهدى إلى سلوك طريق العلم الصحيح، فهذه نعمة تحتاج إلى ثبات وشكر فيعمل بمقتضى هذا العلم ويُحافظ على هذا الإحسان أو التقوى التي وفقه الله  لها، ولا يغفل ولا يُفرط ولا يُضيع ولا يصحب من يختطف عليه هذه النِعم بأسباب من الغفلة والإغراء بالمنكر والباطل ونحو ذلك، وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، ومقتضى المحافظة على هذا الإيمان والتقوى وهذه المراتب من الإحسان أن تُحاط بسياج من كل ما يؤثر عليها سلبًا.

كذلك أيضًا: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً هذا يدل على أن تطهير القلوب لابد منه من أجل أن يزكوا فيها نبات الإيمان ويستتم، وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[12] على هذه المسألة فيما يتعلق بتزكية النفوس، وأن التزكية تشتمل على التخلية فهي من باب التطهير، وكذلك من الزكاء الذي هو النماء، فتشتمل على الأمرين، وأنه لا يمكن للزرع أن ينمو ويستتم إلا إذا وجد المحل الصالح بتنقية الموضع للنبات بإزالة الشوائب، ونحو ذلك، تكون الأرض صالحة للبذر، هكذا القلب يحتاج إلى تفريغ من كل الصوارف التي تصرفه عن الحق، والآفات التي تفتك به، وهو يحتاج -أيضًا- إلى عمارة بالإيمان، فيكون إزالة تلك العوالق من باب تخلية المحل وتنقيته وتطهيره؛ ليتحقق المقصود الأساس وهو عمارة القلب بالإيمان، فهذا هو المقصود لذاته، وأما الأول فهو مقصود لغيره.

وهكذا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً هذه الرحمة أضافها إلى الله مِنْ لَدُنْكَ من عندك، وهذه فيه من التعظيم لهذه الرحمة لاسيما مع قوله بعده: "رحمة" مُنكرة فالتنكير هنا يدل على العظيم، رحمة عظيمة، وإذا كانت من لدن الله فلا تسأل عن عطاياه وهباته، فهو العظيم فعطاياه عظيمة جليلة القدر.

وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وهذا يدل أيضًا على أن هذه الرحمة المطلوبة أنها لا تكون من غير الله ، ولا يستطيع أحد أن يهب أحدًا رحمة، إنما الذي يهب هو الله -تبارك وتعالى-، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، فكل خير يصل إلى الإنسان فهو من الله وحده، وقد يكون العباد سببًا من الأسباب، ولكن الذي منه العطاء والمنع حقيقة هو الله، فيرتبط القلب به، ولا يرتبط بالعباد، وفيه كمال الالتجاء إلى الله دون الالتفات إلى المخلوقين، إذا أردت الرحمة فتوجه إلى الله فهو الذي يملكها، أما الخلق ليس عندهم شيء، هم لا يملكون ذلك لأنفسهم حتى يُعطوا غيرهم.

كذلك أيضًا: هَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً يدل على الاستغناء عن المخلوقين بحيث لا يكون لهم مِنة على الإنسان، النبي ﷺ قد بايع بعض أصحابه أن لا يسألوا أحدًا من الناس شيئًا، فكان السوط يسقط من أحدهم فلا يقول لصاحبه ناولنيه، استغناء كامل، هذه المرتبة لا تُطلب من جميع الناس لكنها من المراتب العالية، إن استطعت أن لا تفتقر إلى مخلوق فافعل، ولهذا ذكر شيخ الإسلام تلك العبارة الجميلة التي ذكرتها في بعض المناسبات وهي قوله: "استغنِ عن من شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكون أميره، واحتج إلى من شئت تكون أسيره"[13].

استغنِ عن من شئت تكن نظيره مثله لا فضل له عليك، وأحسن إلى من شئت تكن أميره اليد العليا خير من اليد السفلى، والإحسان يأسر فكن آسرًا ولا تكن مأسورًا، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، من الناس من يُعلق جميع الحاجات بالمخلوقين، فهو يعتقد أنه لا يمكن أن يتحقق له مصلحة إلا عن طريق هؤلاء الناس بالافتقار إليهم، فهو إذا أراد أن يدرس في الجامعة كلم فلانًا وفلانًا وفلانًا، إذا أراد أن يتوظف كلم فلانًا، هم يعتقدون هكذا بنظر قاصر أن المصالح عند هؤلاء الخلق، وأنه لا يمكن أن يتم للإنسان مطلب إلا إذا كان عن طريق المعرفة والشفاعات، وهذا كلام غير صحيح.

إذا أراد الله للإنسان شيئًا فلا بد أن يقع، فلا داعي لاستجداء الناس، وإذلال النفس لهم، وإنما الاستغناء عنهم قدر الإمكان، هكذا إذا أراد أن يواصل الدراسة أو نحو ذلك ذهب يُكلم هذا وهذا والثاني والثالث والعاشر والمائة والألف، لماذا؟! هو يبذل السبب ويُقدم وإذا كان الله يُريد له ذلك لا بد أن يقع، وانظروا إلى أحوال الخلق ترون فيها من العِبر، من الناس من لا يخطر لربما في باله بعض الأمور، ثم بعد ذلك تجده يوضع فيها، وآخر يبذل دينه ويبذل ماء وجهه سنين طويلة وهو يجري خلف هذا الشيء الذي يظن أن فيه ما فيه من الرفعة والمكانة والمنزلة والجاه ويبقى العمر وهو يبذل دينه قبل أن يبذل ماء وجهه ولا يحصل له، هذا مُشاهد.

فالاستغناء عن الخلق قدر المستطاع وإن كان لا يمكن للناس أن تقوم معايشهم ومصالحهم إلا بالتواصل فيما بينهم وتبادل المنافع لكن من غير الافتقار، ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[14] يرى أن الأفضل أن لا يطلب الإنسان من الآخرين الدعاء أيضًا باعتبار أنه نوع افتقار، وفيه تزكية لهذا الذي يُطلب منه، وفيه ترك هذه العبادة التي أُمر بها، عبادة جليلة وهي الدعاء فيطلب ذلك من غيره مع أنه ليس بممنوع أن يطلب الإنسان الدعاء من غيره هذا لا يُمنع شرعًا، لكن شيخ الإسلام يتكلم عن الأفضل والأكمل أن لا يطلب من أحد شيئًا حتى الدعاء لا يقول: يا فلان ادع لي.

فرحمة الله -تبارك وتعالى، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً المقصود هنا: الرحمة الخاصة لأوليائه وأصفياءه وأهل الإيمان، فالله -تبارك وتعالى- كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: "له رحمة عامة عمت جميع الخلق البر والفاجر، السعيد والشقي، وله رحمة خص بها المؤمنين، هذه رحمة خاصة هي رحمة الإيمان، وله رحمة خص بها المتقين، وهي رحمة الطاعة لله -تبارك وتعالى، وله رحمة خص بها الأولياء نالوا بها الولاية، وله رحمة خص بها الأنبياء نالوا بها النبوة"[15] ومن هنا قال الراسخون في العلم باعتبار أن هذا من تمام قولهم: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وظاهر كلام شيخ الإسلام أن ذلك من تمام كلامهم.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية أن العبد حينما يدعوا ربه بذلك: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8] أنه لا ينظر إلى عمله باعتبار أن ذلك يكون مقابلة ومكافأة لهذا العمل، وإنما هي هِبة من الله ، هي عطية منه ، فيُظهر التواضع والفقر، ما يقول: يا رب أنا صاحب مجاهدات، وصاحب أعمال، ومزاولات فهب لي رحمة من عندك تُكافأ هذا الجهد الذي أبذله في إصلاح النفس وتزكيتها، ونحو ذلك.

ثم أيضًا في قوله تعالى: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ قدم ما يتعلق بالرب -تبارك وتعالى- وذلك فيه ما فيه من التعظيم له، وبيان أيضًا عِظم هذا المطلب: مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً.

وإِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8] فهذا اسم من أسمائه -تبارك وتعالى- يتضمن صفة الهِبة، فهي صفة ثابتة لله -تبارك وتعالى-، ومن الصفات الفعلية.

إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ، و"إنَّ" هذه تُشعر بالتعليل وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]، كما ذكرنا في الكلام على الأسماء الحسنى، أن الدعاء يكون في كل مطلوب بحسبه، فهنا يسأل الهبة هِبة الرحمة فيقول: إنك أنت الوهاب، كأنه يقول لأنك أنت الوهاب، فـ"إنّ" تُشعر بالتعليل، فلكونك الوهاب هب لنا من لدنك رحمة.

ويمكن أن تكون تعليلاً للسؤال يقول: سألناك لأنك أنت الوهاب، توجهنا إليك لأنك أنت الوهاب، وكذلك أيضًا الوهاب صيغة مُبالغة تدل على كثرة العطاء والهِبات منه -تبارك وتعالى-، فهذه الهِبات دنيوية وأُخروية. 

  1. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، برقم (35).
  2. البيت للحلاج، انظر: وفيات الأعيان (2/ 143).
  3. أخرجه الترمذي، أبواب القدر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن، برقم (2140)، وأحمد في المسند، برقم (12107)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7987).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، برقم (52)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، برقم (1599).
  5. انظر: سير أعلام النبلاء (7/ 260).
  6. التواضع والخمول لابن أبي الدنيا (ص: 43).
  7. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (6/ 22).
  8. التواضع والخمول لابن أبي الدنيا (ص: 78).
  9. أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب تصريف الله -تعالى- القلوب كيف شاء، برقم (2654).
  10. الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي = (الداء والدواء) (ص:21).
  11. نونية ابن القيم (الكافية الشافية) (ص:20).
  12. انظر: مجموع الفتاوى (16/ 560).
  13. مجموع الفتاوى (1/ 39).
  14. انظر: مجموع الفتاوى (1/ 328).
  15. المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 204)، ومختصر الفتاوى المصرية (ص:103).