يعني: من الموصول لفظًا، المفصول معنًى، و إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ يقول ابن جرير: "هذا من الكلام الذي استُغني بذكر ما ذكر منه عما تُرك ذكره"[1] يعني: معنى الكلام عند ابن جرير - رحمه الله -: ربنا إنك جامع الناس ليوم القيامة، يوم لا ريب فيه فاغفر لنا يومئذ، واعف عنا، فإنك لا تخلف وعدك، أن من آمن بك، واتبع رسولك، وعمل بالذي أمرته به في كتابك، أنك غافره يومئذ.
فالآية عند ابن جرير - رحمه الله - وإن كانت قد خرجت مخرج الخبر إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ: الصيغة صيغة خبرية، فإن تأويلها من القوم مسألة، ورغبة إلى ربهم، يعني: حينما قالوا: إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:194] يعني: يا رب أوفِ لنا ما وعدتنا، هذا معناها، السؤال، والطلب، لكن ذكروا الخبر، وقد يأتي الطلب، والسؤال بصيغة الإخبار، وهذا له نظائر، يعني: موسى - عليه الصلاة، والسلام - حينما قال: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24] هذا خبر، معناه: الطلب، والسؤال، والدعاء، ما قال: يا رب ارزقني.
وهكذا في قول يونس - عليه الصلاة، والسلام -: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]: يعني نجني، خلصني مما أنا فيه.
وقول أيوب - عليه الصلاة، والسلام - أوضح: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83] هذا خبر، ليس فيه سؤال صريح، لكنه مُضمن معنى الطلب، والسؤال، يعني فاشفني، ولهذا قال: فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ [الأنبياء:84].
تحدثنا عن دعاء الراسخين في العلم الذين أثنى الله -تبارك وتعالى- عليهم بإيمانهم بالمُتشابه وقولهم: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، وذكر من جملة قولهم أنهم يقولون: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].
وكان من جملة دعاءهم أيضًا: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:9]، "ربنا" أي: يا ربنا، حُذف منه ياء النداء لكثرة الاستعمال تخفيفًا "يا ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه" ستجمع الناس في يوم لا شك فيه وهو يوم القيامة، إنك يا ربنا لا تُخلف الميعاد، ما وعدت به عبادك، فهذا أمر متحقق الوقوع لا محالة، فيقولون: نحن نُقر بذلك ونعترف ونُذعن بوقوعه ونُصدقه وهذا فيه من بلاغة الاختصار كما هو ظاهر.
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ، يعني: يوم الحساب، ودخول إنّ هنا للتوكيد "إنّك" والدعاء باسم الرب كما ذكرنا في الليلة الماضية بأن ذلك يتكرر كثيرًا في القرآن وفي دعاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-؛ لأن من معاني الرب العطاء والمنع، تحقيق السؤل وما إلى ذلك، رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ فـ"إنّ" هنا تفيد التوكيد فهم موقنون بذلك لا يتطرق شك إلى نفوسهم فهي بمنزلة إعادة الجملة مرتين، كأنهم يقولون: أنت جامع الناس ليوم لا ريب فيه رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ، فاعتقدوا ذلك وأعلنوا هذا الاعتقاد وفي ضمن ذلك سؤال العفو والمغفرة والرحمة من الله -تبارك وتعالى-.
وقوله: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ الناس هنا يشمل جميع الخلق كما هو معلوم، يجمع الله الأولين والآخرين، الجن والإنس، ولفظ الناس اختلف أهل العلم هل يدخل فيه الجن؟ لكن لا شك أن الجن يُحشرون بأدلة أخرى صريحة، إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ فلو فُرض أن ذلك يصدق على البشر؛ فالجن على سبيل التبع.
وتنكير اليوم هنا: جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ، هذا يدل على التهويل والتعظيم فذلك يوم شديد الأهوال عظيم يفر المرء فيه من أقرب الناس إليه، يفر من أولاده وزوجته، يفر من عشيرته وقومه؛ لشدة الهول، فالكل يطلب النجاة لنفسه.
لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ والريب هو الشك، لكنه شك خاص، هو شك مُقلق، الشك المُقلق يُقال له: ريب، الذي يكون فيه شيء من القلق والريبة، تقول: أنا أشك هل طلع النهار هل طلع الصبح، لكن لا تقول: أنا مرتاب هل طلع الصبح أو لا، في هذه الأمور المحسوسة المعلومة التي يمكن أن تُدرك بالحواس، لكن يمكن أن تقول: أنا مرتاب في أمر فلان، أنا مرتاب في تصرف زيد، أنا مرتاب في مدخله ومخرجه، فعله يبعث على الريبة، فهذا شك مُقلق، شك مع قلق.
إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فهنا لم يقل: إنك لا تُخلف الميعاد، فأظهر الاسم الكريم في مقام يصح فيه الإضمار، والعرب تختصر الكلام بالإضمار، فالضمائر اختصار، فإذا أظهر في موضع يصح فيه الإضمار فذلك لنكتة يعني لفائدة، إِنَّ اللَّهَ، فهذا فيه ما فيه من تربية المهابة والتفخيم والتعظيم إِنَّ اللَّهَ ما قال: إنك لا تُخلف الميعاد، إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ لا يُخلف، وعده لا يتخلف، لابد أن يتحقق: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87]، هذا استفهام مُضمن معنى النفي، يعني: لا أحد أصدق من الله حديثًا، ولا أحد أصدق من الله قيلاً، إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:9].
وهنا رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ على سبيل المخاطبة، ثم قال: إِنَّ اللَّهَ على سبيل الغيبة، هذا الذي يسمونه الالتفات، هذا فيه تنشيط للسامع، وهو من بلاغة الكلام بتغيير ضروبه وتصريفه بهذا التصريف، وفيه أيضًا: إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ فيه لا شك من جزالة اللفظ ومراعاة ما هو أوقع في السمع، فهذا أبلغ مما لو قيل إنك بكاف الخطاب إنك لا تُخلف الميعاد إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ فهذا أبلغ.
كذلك أيضًا لاحظ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، لا رَيْبَ فِيهِ، "وإِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، هذا يدل على كمال اليقين عند هؤلاء الراسخين في العلم.
كذلك أيضًا في قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، "إنّ" هذه تدل على التوكيد وهي أيضًا تُشعر بمعنى التعليل جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ، إما أن ذلك يكون من قبيل التعليل: إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ يعني: بجمعهم، أو يكون ذلك: إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ يرجع إلى الريب المُنتفي، جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ انتفى الريب؛ لأن الله لا يُخلف الميعاد، لأن وعده متحقق إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:9].
وكذلك أيضًا الميعاد جاء بهذه الزنة على وزن مِفعال وذلك يُشعر بالتكرر والدوام، ميعاد أبلغ من الوعد والموعد.