السبت 12 / ذو القعدة / 1446 - 10 / مايو 2025
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَٰلُهُمْ وَلَآ أَوْلَٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْـًٔا ۖ وَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ

المصباح المنير مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ۝ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة آل عمران:10-11] يخبر تعالى عن الكفار بأنهم، وقود النار، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة، ولهم سوء الدار، وليس ما أوتوه في الدنيا من الأموال، والأولاد بنافع لهم عند الله، ولا بمنجيهم من عذابه، وأليم عقابه كما قال تعالى: فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [سورة التوبة:55]، وقال تعالى: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ ۝ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [سورة آل عمران:196-197]، كما قال هاهنا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أي بآيات الله، وكذبوا رسله، وخالفوا كتابه، ولم ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ [سورة آل عمران:10] أي حطبها الذي تسجر به، وتوقد به، كقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [سورة الأنبياء:98]".
هذا الأسلوب من مزية تفسير ابن كثير، فهو يفسر القرآن بالقرآن، وهذه نماذج، وأمثلة عليه.

مرات الإستماع: 0

ثم قال الله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ [آل عمران:10].

لما ذكر الذين يتبعون المُتشابه وموقف الراسخين في العلم من المُتشابه بعد ذلك؛ ذكر وعيد الكافرين الذين لم يُحققوا الإيمان فقال: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:10]، لن تنفعهم الأموال، لن تُغني عنهم، لن تدفع عنهم عذاب الله -تبارك وتعالى- وبأسه وأخذه، وذكر الأموال والأولاد؛ لأنها أكثر ما يتعزز الناس به، أكثر ما يتعززون وأقرب ما يليه المال والولد فهو طوع البنان، ويعتقد أنه يستطيع أن يدفع عن نفسه ويتقوى بالولد، فقال هنا:  لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ [آل عمران:10]، لن تُغني عنهم لا في الدنيا ولا في الآخرة وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ توقد بهم، هم حُطام النار، وحطب النار، فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24]، فهي توقد بهم النار، في الدنيا توقد بالوقود من الأمور والأشياء المعروفة التي توقد بها النار.

وكذلك توقد بالحطب، وما إلى ذلك، نار جهنم توقد بالناس وبالحجارة قيل: حجارة الكبريت؛ لأنها أشد إحراقًا، وقيل: الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله -تبارك وتعالى-، فنار جهنم وقودها هذا، يعني ليس لها وقود من زيوت، أو غاز أو نحو ذلك إنما الناس هم الوقود، نسأل الله العافية.

فتأمل قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:10]، لما كان التعزز والترفع والتعاظم والتعالي يكون بتحصيل أسباب القوة والمنعة وأعظم ذلك ما يكون بالمال والولد نفى ذلك عنهم، لن تُغني عنهم، هذه التي يتعززون بها ويتفاخرون: لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا [مريم:77]، قال: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ، لن تدفع عنهم، ولاحظ هنا أنه عبّر بأقوى صيغة من صيغ النفي: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ، ولذلك حمله أهل العلم على أن ذلك في الدنيا والآخرة، لن تُغني عنهم هذه الأموال فتدفع عنهم بأس الله -تبارك وتعالى- ونقمته إذا أراد أن يوقعها بهم في الدنيا، مهما كان عندهم من الأموال والثروات والإمكانات.

ويدخل في هذه الأموال ما عندهم من العتاد والسلاح فهو من جُملة الأموال، وإذا كان الأولاد وهم أقرب الناس إليهم لا يغنون عنهم شيئًا فغيرهم من الأجناد والخدم والأتباع لا يُغنون عنهم شيئًا من باب أولى، أقرب ما للإنسان أولاده، وكانوا يتعززون بالأولاد، ويتفاخرون بهم، فأخبر أنها لن تُغني عنهم، وبهذا يطمئن المؤمن إلى وعد الله -تبارك وتعالى- ويثق بالحق الذي يسير عليه والصراط المستقيم الذي يسلكه، فهؤلاء الكفار مهما تعاظمت ثرواتهم واقتصادهم وأسلحتهم وقواتهم وجيوشهم فهي لن تُغني عنهم من الله شيئا، "لن" في القرآن آيات ينبغي أن تكون حاضرة في ذهن كل مؤمن كقوله تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]، فهذا وعد من الله -تبارك وتعالى- لا يمكن أن يتخلف.

وكذلك في سائر الآيات التي يذكر الله -تبارك وتعالى- فيها ما يكون عاقبة نفقات الكفار في الصدّ عن سبيل الله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ هذا في الدنيا، وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36]، فهذا وعد من الله -تبارك وتعالى، فالمؤمن حينما يرى الكفار يتعاظمون، ويرى هذه الكثرة الكاثرة من وقود النار، ويرى ما لديهم من الإمكانات المادية؛ فإن ذلك لا يهوله ولا يكسره ولا يجعله يشك في الحق الذي هو عليه، فهذا كله يضمحل ويزول ويتلاشى، فهنا الله -تبارك وتعالى- يقول: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ، وقدم الأموال على الأولاد يمكن أن يكون ذلك باعتبار أن التعزز إنما يحصل بالمال، فالأولاد مع الفقر والشظف والحاجة قد لا يُغنون عنه شيئًا، لكن إذا وجد المال والولد كان ذلك هو مصدر القوة والفخر والغرور والتعاظم، لكن إذا كان الأولاد من غير أموال كانوا عبئًا عليه يُثقل كاهله ويُرهقه، وهنا قال: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وأيضًا أن المال يُدفع ابتداء في الفداء، فهنا قدمه -والله تعالى أعلم- وهذا عام في الدنيا والآخرة.

وكذلك أيضًا: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، شَيْئًا هنا نكرة في سياق النفي أقوى صيغة من صيغ النفي شَيْئًا فهذه النكرة في سياق النفي تُفيد العموم، يعني: لا قليلاً ولا كثيرًا، لن تُغني عنهم 10%، ولن تُغني عنهم 1%، بخلاف ما قد يتوهمون، كما قال الله -تبارك وتعالى- عن اليهود الذين ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله؛ لشدة الوثوق بأنفسهم وبالحصون، قدم الضمير المتعلق بهم: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ، ما قال: ظنوا أن حصونهم تمنعهم، لا، قال: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ، النتيجة بالتعقيب المُباشر بالفاء: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر:2]، من حيث لما يتوقعوا ولم يخطر لهم على بال، وتحولت هذه الحصون إلى عبأ ثقيل يُخربونها بأيديهم: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ [الحشر:2]، هذه الحصون التي كانوا يعتزون بها ويفتخرون ويعتقدون أنها تمنعهم من الله فضلاً عن الخلق صاروا يُخربونها بأيديهم، هل هناك عِبرة أكبر من هذا؟! ولهذا قال: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2].

إذا جاء بأس الله وجاء أمره فتكون هذه القُدر والإمكانات تكون عبئًا على أصحابها، يقومون هم بتخريبها بأيديهم، لكن هذا يحتاج إلى أمة واثقة بربها، معتصمة به، متوكلة عليه، تعمل بطاعته وتركن إلى جنابه، وليست أمة مُضيعة لحدود الله مُفرطة، مختلفة فيما بينها، مُتناحرة متنازعة، مثل: هؤلاء لا يُنصرون لا يستحقون النصر، لكن إذا وجد الإيمان والتقوى فهنا: لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا، وشَيْئًا أيضًا نكرة في سياق النفي، لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]، لا يضر لا قليلاً ولا كثيرًا، هذه ضمانات من الله -تبارك وتعالى.

فهذه الآية تدل على هذا المعنى دلالة ظاهرة: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:10]، وهذا لا شك أنه حسرة كما قال الله في الآية الأخرى: ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36]، يعني: في الدنيا تكون عليهم حسرة، فإذا رأى هذه الأموال والأولاد لا شيء فإنه يُسقط بيده عند ذلك؛ لأن الإنسان يفزع إلى المال والولد إذا حانت الشدة فإذا رأى ذلك قد ولى وتلاشى كان ذلك أعظم حسرة في قلبه، ويكون ذلك أعظم في عذابه، هذا في الدنيا، وفي الآخرة كذلك مع النار وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ [آل عمران:10]، وهذا مُنتهى وغاية العذاب، وَأُوْلَئِكَ هُمْ أشار إليهم بالبعيد وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ، فهؤلاء الذين ألهتهم الأموال والأولاد عن الله -تبارك وتعالى- وطاعته وعبادته، وظنوا أن ذلك يُغنيهم عن ربهم -تبارك وتعالى- ذهب ذلك وزال جميعًا وصاروا إلى عذاب الله .

وهنا التوكيد بهذه الصيغة: وَأُوْلَئِكَ هُمْ، فجاء بضمير الفصل بين طرفي الكلام هُمْ وَقُودُ النَّارِ لتقوية النسبة هُمْ وَقُودُ النَّارِ، كأنه لا وقود لها إلا هم، ويكفي هذا -والعياذ بالله- في بيان شدة وفظاعة ما يلقونه من العذاب والمصير البائس، وكذلك لو نظرنا في المؤكدات في الآية: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ [آل عمران:10] ما قال: لن تغني عنهم أموالهم وأولادهم من الله شيئًا، فحينما أعاد النفي قال: أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فدل أن كل واحد منهم منفي على سبيل الاستقلال، كما أنهما منتفيان على سبيل الاجتماع، لن يُغني عنهم شيء من ذلك مجتمعًا ولا منفردًا، الأولاد لا يغنون، والأموال كذلك لا تُغني.

وكذلك أيضًا: مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:10]، أي: من عذابه -تبارك وتعالى-.