لما ذكر الله -تبارك وتعالى- أن الكافرين لن تُغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا، قال: وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ [آل عمران:10]، ذكر بعد ذلك سنته والعادة المستمرة والشأن بهؤلاء الكفار من أخذ الله -تبارك وتعالى- لهم عبر القرون المتطاولة والأمم المتنوعة فذكر أعتى هؤلاء العتاة وهو فرعون: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [آل عمران:11].
والمعنى أن شأن الكافرين في هذا التكذيب دأب العادة والشأن، وكذلك أيضًا ما يقع وما ينزل بهم من المثُلات والعقوبات والعذاب كما حل ذلك بفرعون ومن قبله من الأمم المكذبة الذين كذبوا بآيات الله -تبارك وتعالى- وجحدوهان وهذه الآيات تشمل الآيات التي هي بمعنى البراهين والدلائل التي يسمونها بالمعجزات، وكذلك تشمل سائر آياته -تبارك وتعالى- التي كذّب بها هؤلاء الكفار.
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ [آل عمران:11]، عاجلهم الله بالعقوبة بذنوبهم، أي: بسبب ذنوبهم، فتكون الباء هنا للتعليل بسبب ذنوبهم، وهذا هو الظاهر المتبادر -والله تعالى أعلم-، وإن كان المقام يحتمل معنى آخر وهو أن المعنى فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، أي: حال كونهم مُتلبسين بذنوبهم، فيكون ذلك للمُلابسة بمعنى المُلابسة حال كونهم مُتلبسين، يعني: كما يُقال أخذه بجرمه، يعني: مُتلبسًا بجُرمه، ويحتمل أن يكون بسبب جُرمه وجنايته، لكن أن تكون للتعليل أقرب -والله تعالى أعلم- وهذا الذي عليه عامة المفسرين.
ثم ذكر هذا التذييل والتعقيب: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ مُبين لما قبله من أخذ هؤلاء العتاة بالعقوبات المستأصلة وذلك أنه -تبارك وتعالى- شديد العقاب لمن كذب وعاند، يأخذه أخذًا شديدًا.
يؤخذ من هذه الآية من الهدايات: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [آل عمران:11]، الذين من قبل فرعون الأمم المكذبة التي قص الله بعض خبرها: قوم نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وقوم لوط، وغير هؤلاء ممن عاقبهم الله بالعقوبة المستأصلة، وقد ذكر بعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنه لم ينزل عذاب مستأصل لأمة بأكملها بعد نزول التوراة، يعني: قد تنزل عقوبة بقرية مثلاً، يُخسف بهم أو نحو ذلك؛ لكن عقوبة مستأصلة لأمة كقوم نوح بالغرق، وغيرهم ممن أخذهم الله بالصيحة أو بالريح العاتية، ونحو ذلك، هذا لم يحصل بعد نزول التوراة.
فهنا ذكر هذا العاتي على الله -تبارك وتعالى- كبير العتاة وهو فرعون مع أنه متأخر بالنسبة لأولئك فهذا يمكن أن يكون؛ لأنه الأشد في العتو فقد ادعى ما لم يدّعوا، قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24]، ادعى الربوبية، وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، فمثل هذه الدعاوى ما ادعها أولئك من قوم نوح ولا من قوم صالح ولا هود ولا شعيب ولا لوط -على رسل الله أفضل الصلاة والتسليم- لكن هذا ادعى هذه الدعاوى الكبيرة فيمكن أن يكون ذلك سبب الابتداء به: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ [آل عمران:11]، وآل فرعون كما ذكرنا في بعض المناسبات آل الرجل تارة يُطلق على عينه، يُطلق: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ [غافر:46] من المقصود الأتباع، لا شك أن فرعون يدخل في ذلك دخولاً أوليًّا، فآل الرجل تارة يقال ذلك للرجل نفسه، كقوله: وَبَقِيَّةٌ، يعني التابوت مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ [البقرة:248]، بعض المفسرين يقولون: أي مما ترك موسى وهارون، بعضهم يقول: فيه أشياء من التوراة الألواح، وهذا لا يثبت، وبعضهم يقول: فيه نعل موسى ، لا يثبت في هذا شيء، لكن المقصود أن هذا جميعًا يجري على أن المقصود بآل موسى وآل هارون: أنهما موسى وهارون -عليهما السلام-.
فهنا: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ [آل عمران:11]، هل المقصود به فرعون نفسه؟ أو فرعون ومن معه من الأتباع؟؛ لأنهم كذبوا، وقد قال الله -تبارك وتعالى- عنه: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [الزخرف:54]، فهذا يدخل فيه فرعون ومن كان معه من الأتباع والجُند، كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [آل عمران:11]، يدل على أن أتباعه معه هنا، أن الضمير جاء مجموعًا؛ ما قال والذين من قبله، وإنما قال: مِنْ قَبْلِهِمْ يدل على أن المراد القوم كَدَأْبِ: كشأن كعادة هؤلاء، فابتدئ به لأنه الأعتى، يحتمل.
ويحتمل أن ذلك باعتبار الشهرة والمعرفة، فهذه الآيات -كما قلنا- في بضع وثمانين آية من صدر هذه السورة الخطاب متوجه فيها إلى أهل الكتاب؛ النصارى على سبيل الخصوص، فخبر فرعون له شأن عندهم يعرفونه تمام المعرفة؛ لأنه كان يسوم بني إسرائيل سوء العذاب، ومعلوم أن اليهود كانوا يصومون عاشوراء احتفاء بذلك اليوم الذي نجى الله فيه موسى وأغرق فرعون وجنده، فذكر لهم هذا الطاغية الذي سامهم الخسف والذل.
ومعلوم أن النصارى هم من جملة بني إسرائيل لكن كثيرًا من اليهود لم يؤمنوا بعيسى فوقع الافتراق، وإلا فهؤلاء جميعًا يدخلون في هذا اللقب أعني بني إسرائيل، فالله -تبارك وتعالى- هنا يقول: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ هذا العاتي الكبير الذي تعرفونه تمام المعرفة، وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إذًا عادة هؤلاء الكفار، وحال هؤلاء الكفار بالنسبة للتكذيب، وبالنسبة لما يجري عليهم من سنة الله في الأخذ والعذاب واحدة، فسُنن الله لا تُحابي أحدًا كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ.
وكذلك أيضًا أن الكفر ملة واحدة، فهؤلاء جروا على سنن من قبلهم من الكفار من الأمم المُكذبة فهي سنة جارية وعادة مُستمرة بتكذيب الرسل -عليهم السلام-، وتكذيب البراهين والآيات الدالة على صدقهم: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [الأعراف:132]، {مَهْمَا تَأْتِنَا والصيغة القوية مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ [الأعراف:132]، نكرة في سياق الشرط، وسُبقت بمن التي تنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [الأعراف:132]، لِتَسْحَرَنَا هم قدموا الحكم ابتداء، لِتَسْحَرَنَا فكل آية جئت بها فهي بهذا السياق سحر، يعني: لا تنفع معهم الآيات، فهؤلاء الذين كانوا في زمن النبي ﷺ من المشركين العرب فإن بعض المفسرين يقولون هذا الوعيد متوجه لهؤلاء المشركين.
الواقع أنه لا يختص بهم، وإنما لكل المكذبين من أهل الكتاب، ومن مُشركي العرب، فالله -تبارك وتعالى- ليس بينه وبين أحد من الخلق نسب، وإنما يصطفي أهل الإيمان، ومن كفر أخذه وعذبه ولا كرامة له ولا شأن مهما كان نسبه ومهما كان جاهه، تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]، عمّ النبي ﷺ: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد:2]، يعني: لا القُرب ولا النسب ولا المال ولا الجاه، وَمَا كَسَبَ فالكسب يدخل فيه كل ما اكتسبه من جاه ومآثر وما إلى ذلك، وإنما الإيمان والتقوى فهذا هو الطريق الموصل إلى الله -تبارك وتعالى-.
ويؤخذ من ذلك أيضًا أن ضلال من ضل في كل زمان ومكان أن ذلك ليس بالشأن المُستغرب، فهذا أمر واقع في كل حين، والله يقول: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، كذّبت الأمم السابقة وقص الله خبرها، وهكذا يقع التكذيب من أمم لاحقة والله -تبارك وتعالى- يتوعدهم ويذكر أن هذه سنته الجارية في خلقه من الجهتين: وقوع التكذيب، والأخذ للمكذبين.
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ كعادتهم أو كشأنهم في جدهم واجتهادهم وتكذيبهم وعتوهم على ربهم -تبارك وتعالى- وتمردهم عليه، وعنادهم للأنبياء والرسل -عليهم السلام-، فجاءهم الهلاك المُستأصل، فهذا فيه تهديد ووعيد، وفيه أيضًا تسلية للنبي ﷺ ولأتباعه أن هذه سُنن جارية فلا غرابة، لستَ أول من يُكذب، ليس هؤلاء أول من يُكذِب فقد كُذِبت رسل من قبلك، فأنت مأمور بالصبر والاحتمال، ولا تذهب النفس عليهم حسرات، وهذا في غاية الأهمية، وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ، والتعقيب في سورة يونس: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [يونس:65]، وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ، لا تُبالي به، هذا قيل لك، وقيل لمن قبلك، وسيُقال لأتباعك: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [يونس:65]، هؤلاء لا يملكون شيئًا، أقوالهم مجرد أقوال لا تجاوز الأفواه، ولهذا كثيرًا ما يربطها بذلك يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [آل عمران:167]، التسجيل عليهم من جهة، ومن جهة أن هذه الأقوال لا تُجاوز الأفواه فلا حقيقة لها ولا أثر في الواقع، فِراء وأكاذيب: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [يونس:65]، فإذا عرف أن العزة لله جميعا لم يُبالِ بهم ولا بتكذيبهم، ولا يحزن، ولا تذهب نفسه حسرات، وهكذا لأتباعه من بعده، فالخطاب له ولأمته، لا يحزن المؤمن وتذهب نفسه حسرات على ما يصدر عن المُفترين والأفَّاكين وأعداء أتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام- الذين لا يألون جهدًا من النيل من ثوابت الإسلام وأصوله الكبار، والنيل من أئمة الهدى ومصابيح الدُجى، الأئمة الأعلام من علماء الأمة قديمًا وحديثًا.
فهذه سنة الله الجارية، وأتباع الأنبياء، وأتباع النبي ﷺ لهم نصيب من الأذى، ولهم نصيب أيضًا من مدافعة الله وحفظه، ولهذا قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في مثل قوله -تبارك وتعالى-: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:1-6]، يقول: "هذا له ولأتباعه بقدر اتباعهم له، رفع الذكر، وشرح الصدر، وحط الأوزار، وهي قضايا مُتلازمة، واليُسر بعد العُسر"، كل هذا يكون لأتباعه بحسب اتباعهم، هذه وعود من الله -تبارك وتعالى- يحصل بها الثبات والصمود من قِبل أهل الإيمان.
وكذلك أيضًا: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ [آل عمران:11]، الفاء تدل على التعقيب المُباشر، سرعة الأخذ، لكن تعقيبها في كل شيء بحسبه، هذه قضية ينبغي أن نُدركها ونفهمها، أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا [الرعد:17]، متى تسيل الأودية؟ بعد مدة من نزول المطر، فيتجمع ثم تسيل، فالتعقيب ذلك في كل شيء بحسبه.
فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الحج:63]، بعضهم قال المقصود أرض مكة، جبال مكة؛ لأنها إذا نزل عليها المطر تبدوا خضراء لما فيها من عنصر النُحاس، وهذا بعيد، وإنما هم استشكلوا الفاء: فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الحج:63]، بعد إنزال المطر، لكن لا يُحتاج إلى مثل هذا، وإنما التعقيب فيها بكل شيء بحسبه: فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الحج:63]، يعني: بعد مدة، كما ذكر الله في أطوار خلق الجنين والتعقيب بالفاء النطفة، ثم بعد ذلك العلقة، فخلقنا، فجاء بالفاء، مع أن بين هذا وهذا أربعين فالتعقيب فيها بكل شيء بحسبه.
فهنا الأخذ لا يعني أنه بمجرد التكذيب بلحظة يؤخذون ويُعاقبون، ولكن الدنيا قصيرة، ولهذا انظر في قوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم:55]، وقال في الموضع الآخر: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً، ساعة من ماذا؟
مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ [يونس:45]، ساعة من النهار، حتى قال بعض المفسرين ساعة من النهار يعني ساعات من النهار يُدركها الجميع بالليل الناس ينامون ويغفلون عنها، لكن ساعات النهار محسوبة ومعلومة يرقبها كل أحد، فجلوسهم في هذه الحياة الدنيا، بقاؤهم في هذه الحياة الدنيا كأنه ساعة من النهار، إذا جاء المحشر، فهنا هذا الوعيد: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ هذا يدل على أن كل مكذب فهو متوعد لا أمان لأحد من هؤلاء الكفار، لا أمان هذا وعيد، ولهذا قال الله حينما ذكر عقوبة قوم لوط وما حصل بهم من قلب ديارهم ورميهم بالحجارة قال: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83]، فكل مكذب متوعد بعقوبة الله وأخذه، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]، لكن مثل هذا لا يُقاس بقياسات البشر قصيرة الأمد فقوم نوح كما بقي فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، وهي عند الله ليست بشيء، فقد يبقى هؤلاء مدة من الزمن ولكن بعد ذلك يأخذهم -تبارك وتعالى-.
وهكذا أيضًا في قوله -تبارك وتعالى- كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، هذا من دأبهم وعادتهم الجارية المستمرة التكذيب بالآيات، كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، فيوضح ذلك الدأب، وكذلك في قوله -تبارك وتعالى- كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا بصيغة المتكلم، ثم قال: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ بصيغة الغائب، فهذا التفات يُنشط السامع وهو أوقع في السمع وأفخم وأعظم في المهابة، وَاللَّهُ لما ذكر العقاب ذكر التكذيب قال: كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، ثم قال: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [آل عمران:11].
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ كشأنهم وعادتهم وسنتهم المستمرة، وكذلك كسنة الله بالمكذبين من الأخذ والعقوبة والنكال، وهذا يدل على أن سنته -تبارك وتعالى- قد مضت في أهل التكذيب والكفر والعتو على الله -تبارك وتعالى- بالأخذ والعقاب والنكال والعذاب الأليم في الدنيا قبل الآخرة، وهذا فيه ما فيه -كما ذكرنا في الليلة الماضية- من الوعيد لكل المكذبين والكافرين والمعرضين عن دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام-.
ثم إن قوله -تبارك وتعالى-: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ الفاء هذه تدل على التعقيب المُباشر، وقلنا: إن تعقيب كل شيء بحسبه، يعني ليس معنى ذلك أنه بمجرد التكذيب وقع العذاب، وإنما كان ذلك بحيث إنه قد حصل إقامة الحجة عليهم والإعذار منهم، وذكرنا لذلك أمثلة في أن تعقيب كل شيء بحسبه.
كذلك أيضًا هذه الفاء تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، ما سبب الأخذ؟ هو الكفر والتكذيب بآيات الله -تبارك وتعالى-، كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ، فكان سبب الأخذ هو التكذيب، فهي تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها وأن ذلك -أعني الذي قبلها- عِلة للذي بعدها، علة الأخذ هو التكذيب، فدل على أن التكذيب سبب لعقوبة الله وعذابه، وهذا كله يوجب الحذر من الذنوب والمعاصي والكفر وما إلى ذلك مما يوجب سخط الله .
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ والآيات هنا تشمل الآيات المُنزلة وتشمل أيضًا الآيات التي هي بمعنى البراهين والدلائل التي تدل على صدق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، فهؤلاء الفراعنة فرعون ومن معه كذبوا بما جاء به موسى ، كذبوا بالمعجزات التي أراهم إياها وكان أعظم ذلك العصى التي انقلبت إلى حية وصارت تلتهم وتبتلع ما يأفكون، وكذلك أيضًا سائر الآيات.
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ الأخذ هنا يدل على سرعة العقاب، والاستئصال الذي حل بهم، يدل على شدته وعظيم ذلك العقاب، فكأن هذا المأخوذ يصير في حال لا يستطيع معها الدفع ولا الرفع فهو عاجز من كل وجه، يأخذه العذاب أخذًا، كالمربوط الذي لا يدفع عنه نفسه، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وهذه الباء الظاهر أنها تدل على السببية يعني بسبب ذنوبهم، ويحتمل أن يكون بمعنى المُلابسة أخذهم الله حال كونهم مُلابسين ومقارفين للذنوب، يعني: أخذهم بجرمهم المشهود حال مواقعة الجُرم، لكن الأول أقرب، والله تعالى أعلم.
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ والإظهار هنا، ولم يقل: كذبوا بآياتنا فأخذناهم بذنوبهم، لا، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، فأظهر الاسم الكريم في مقام يصح فيه الإضمار، كما عرفنا أن العرب تُعبر بالضمائر اختصارًا لكنها تُظهر في مقام يصح فيه الإضمار إذا كان ذلك لنُكتة ومعنى، وذلك أنه أوقع هنا في القلب، وأعظم في المهابة، وتربيتها في النفوس، وكذلك أفخم، ويدل على شدة الأخذ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ من الذي أخذهم؟
الله، فأخذه أليم شديد، فأضاف ذلك إليه .
ثم أيضًا: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ هذه أفعالهم وجنياتهم وأعمالهم القبيحة، فدل ذلك على أن الله -تبارك وتعالى- لا يظلم الناس شيئًا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، أخذهم بسبب جناياتهم ولم يظلمهم بهذا الأخذ، ثم أيضًا أضاف هذه الذنوب إليهم فدل على أنهم فاعلون لها خلافًا لمن يقول: بأن الإنسان لا فعل له حقيقة، وأنه مُجبر على الأفعال، كريشة في مهب الريح، هذه عقيدة باطلة.
وكذلك أيضًا يؤخذ من قوله: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، "شديد العقاب" هذا أيضًا يدل على التهويل والتعظيم والتفخيم، يعني: أظهر الاسم الظاهر، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، هنا ما قال: وهو شديد العقاب، وإنما قال: "والله"، فأظهر ذلك، والقاعدة: أن مثل هذا إذا كان في جُملتين مستقلتين فإنه لا يكون من قبيل التكرار الذي يثقل على السمع، يعني: هنا لا يُحتاج إلى الضمير، يمكن أن يُذكر الاسم الظاهر ويكون ذلك أوقع في السمع والقلب وأعظم وأفخم فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، هذه جملة مستقلة، وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ فأظهر هنا في مقام الإضمار أيضًا وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، ولو تقارب ذلك، فلما كانت جملة مستقلة كان ذلك غير مستثقل في السمع وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، وهذه الجملة أيضًا تدل على معنى التخويف وتدل على شدة بأس الله -تبارك وتعالى-، وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
ومثل هذا ينبغي أن يكون حاضرًا في نفس المؤمن من الخطأ أن يستحضر الإنسان دائمًا أن الله غفور رحيم وينسى مثل هذه المواضع المُصرحة بأن الله -تبارك وتعالى- شديد العقاب، فهو غفور رحيم، وفي الوقت نفسه هو شديد العقاب، فذلك يحصل به تحقيق الخوف والرجاء وهما كالجناحين للطائر لا يطير إلا بهما فيحتاج العبد إلى أن يجمع بين الخوف والرجاء، يرجو رحمة الله ويُحسن العمل، وكذلك أيضًا يخاف من سطوته وعذابه وعقوبته ونكاله بسبب تقصير العبد.