وقوله - تبارك، وتعالى - بعده: فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ [سورة آل عمران:61]، أي من حاجك في عيسى من أهل الكتاب من النصارى، هكذا قال كثير من أهل العلم، ومنهم من ذهب إلى تعميمها، ولا إشكال في هذا، على أن أولى من يدخل فيها هم النصارى الذين يقولون: إنه ثالث ثلاثة، أو إنه ابن الله، وذلك أنه لا يدعي أحد غير النصارى مثل هذه الدعاوى في عيسى - عليه الصلاة، والسلام - فالآيات في النصارى، لكن لو قال قائل: فمن حاجك فيه من اليهود، بأنه ابن كذا، وكذا مما يفترون، فيمكن أن يباهل أيضاً، لكن هذه الآية في الأصل متوجهة إلى النصارى، فهي من الآيات التي نزلت فيهم.
قوله: "فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ [سورة آل عمران:61]"، نجد أنه لم يذكر البنات، وإنما ذكر الأبناء، والنساء، والأنفس، فيمكن أن يقال: لأنهن داخلات مع النساء، ومن أهل العلم من يقول: إن الأبناء ذكروا هنا؛ لأنهم هم الذين يحضرون مواطن الخصام دون البنات.
وعلى كل حال النبي ﷺ دعا فاطمة، وأحضر الحسن، والحسين، وعلياً، ويمكن أن يقال: إنه ذكر أشرف الأولاد، وهم الأبناء ليدل بذلك على البنات، فهذا وارد، والعلم عند الله .
وقوله: ثُمَّ نَبْتَهِلْ [سورة آل عمران:61] أي: نلتعن، وأصل المباهلة الاجتهاد في الدعاء باللعن، وغيره، ثم صارت تستعمل في كل اجتهاد بالدعاء، تقول: فلان يبتهل إلى الله أن يرزقه، وأن يعافيه، وأن يدخله الجنة، فهذا الدعاء ليس فيه اجتهاد باللعن، وإنما صار الابتهال يستعمل في معنىً أوسع، والمقصود بها هنا في الآية معنىً خاص، وهو الاجتهاد بالدعاء باللعن، وغيره على المبطل، وهذه الطريقة ليست من المناظرة، وإنما هي لون من المخاصمة لا بالحجاج، وإنما بالدعاء على المبطل من الفريقين أن يهلكه، وأن يلعنه، إلى غير ذلك مما يمكن أن يدعى عليه.
والمباهلة تكون في هذه المسائل مع الكفار، وتكون أيضاً بين المسلمين، ففي بعض مسائل الفرائض حصل من الصحابة كابن عباس أنه كان يدعو إلى المباهلة فيها، فيقول: من شاء باهلته، وهذا إنما يفعله الإنسان في حال، وثوقه التام بما هو عليه من الحق، وقد ذكر بعض أهل العلم كالحافظ ابن حجر - رحمه الله - أنه قد جرت سنة الله في المبطل ممن دخل في شيء من المباهلة أنه لا يمهل أكثر من سنة، يعني لا يدور الحول عليه إلا وقد نزل به ما دعي به في المباهلة.
يعني أن هذا السياق الطويل بهذه التفاصيل يذكرها أصحاب السير، ولكن أصل قدوم وفد نجران ثابت في الصحيحين، لكن من غير هذه التفاصيل.
المقصود بجهله هنا البغي، والتعدي، وليس معناه قلة العلم، فهو كان يعلم، حتى إنه كان مع أخ، أو ابن له - كما جاء في السير -، وعثرت دابته، فقال الذي معه: تعس الأبعد، أو كلمة نحوها، فرد عليه هذا، وأضاف ما يدل على أن النبي ﷺ هو المبعوث حقاً، وأنه هو الذي يجدونه في كتبهم، فلما سأله ذاك عن سبب إعراضه عن الإسلام، قال: أعطونا - أي الروم - ما ترى، فكل ما نحن فيه فهو منهم، فإن تركنا ذلك ذهب كل ما لدينا، وهذا كما يقول المعلمي - رحمه الله - في التنكيل حيث قال: "ومنهم من يكون له في الباطل شهرة، ومعيشة"، فهذا مثال عليه، يعني أنه يقتات من هذا الباطل، ويكون سبباً لدخله، ومعيشته، كأن يكون مغنِّياً، أو ممثلاً، وكبعض الصوفية، وكالرافضة الذين ينتسبون لأهل البيت، أو نحو هذا ليأخذون الخمس.
هذه الجبب، والأردية مخططة تصنع من القطن، أو نحو هذا، وهي تجلب من اليمن، والمعنى أنهم دخلوا، وهم في حال من الزينة، والتهيؤ، والأبَّهة.
هذه الروايات في السيرة لا يثبت بها حكم، فأهل السير يتساهلون حيث لم يكن لهم شروط المحدثين، وكثير من أهل العلم يتساهل في رواية هذه الأخبار بشروط معينة، لكن من أهم الشروط: ألا يثبت بها عقيدة، ولا يثبت بها حكم، ولو طبقت شروط المحدثين على ما في السير لم يبق منها إلا القليل جداً، فمثل هذه لا يثبت فيها حكم، وإلا كان سيقال: إنه يجوز للكفار أن يدخلوا المسجد، وأن يقيموا فيه عباداتهم، ولا ينكر عليهم، وهل يقال ذلك في أهل البدع الذين يصلون صلاةً تختلف عن صلاة أهل السنة لو صححنا هذه الرواية؟
لن يكون ذلك لازماً، ولو صحت الرواية؛ لأن نهج، وطريقة السلف من الإغلاظ على أهل البدع، وزجرهم معروفة، فهم لا يمكنون من إظهار بدعهم، لكن لو دخلوا، وصلوا مع المسلمين كما يصلي الناس، فهذا لا يمنعون منه؛ لأن الصلاة هي خير ما فعله الناس، فلا يمنعون منها، بل هم يؤمرون بالصلاة أصلاً إذا ما صلوا، لكن لا يُترك المبتدع يفرق الجماعة، فيصلي دونهم.
ويحتجون في قولهم بأنه ابن الله، يقولون: لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحد من بني آدم قبله.
ويحتجون في قولهم بأنه ثالثة ثلاثة بقول الله تعالى: فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا، فيقولون: لو كان واحداً ما قال إلا: فعلت، وقضيت، وأمرت، وخلقت، ولكنه هو، وعيسى، ومريم، تعالى الله، وتقدس، وتنزه عما يقول الظالمون، والجاحدون علواً كبيراً، وفي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن".
يعني نزل القرآن يرد عليهم، ومعلوم أن الواحد يتكلم بضمير الجمع فعلنا، وأمرنا، ونحو ذلك، و يقصد بذلك تعظيم نفسه، وهذا لا إشكال فيه.
وروى البخاري عن حذيفة قال: جاء العاقب، والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله ﷺ يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبياً فلاعناه لا نفلح نحن، ولا عقبنا من بعده، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلاً أميناً، ولا تبعث معنا إلا أميناً، فقال: لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين، فاستشرف لها أصحاب رسول الله ﷺ، ورضي عنهم، فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام قال رسول الله ﷺ: هذا أمين هذه الأمة[1]
وروى البخاري عن أنس عن رسول الله ﷺ قال: لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح[2]
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس - ا - قال: قال أبو جهل - قبحه الله -: إن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه، قال: فقال: لو فعل لأخذته الملائكة عياناً، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ورأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله ﷺ لرجعوا لا يجدون مالاً، ولا أهلاً[3]
مثل هذا له حكم الرفع.
- أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب قصة أهل نجران (4119) (ج 4 / ص 1592).
- أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب قصة أهل نجران (4121) (ج 4 / ص 1592).
- أخرجه أحمد (2225) (ج 1 / ص 248) وأبو يعلى (2604) (ج 4 / ص 471) وقال شعيب الأرنؤوط: "صحيح".
- أخرج البخاري الشطر الأول منه في كتاب التفسير – باب تفسير سورة العلق (4675) (ج 4 / ص 1896) ولفظه: "قال أبو جهل: لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ النبي ﷺ، فقال: لو فعله لأخذته الملائكة.