الإثنين 07 / ذو القعدة / 1446 - 05 / مايو 2025
فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا۟ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَٰذِبِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

ثم قال تعالى آمراً رسوله ﷺ أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان: فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ [سورة آل عمران:61] أي: نحضرهم في حال المباهلة، ثم نبتهل، أي نلتعن، فنجعل لعنة الله على الكاذبين، أي منا، أو منكم".

وقوله - تبارك، وتعالى - بعده: فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ [سورة آل عمران:61]، أي من حاجك في عيسى من أهل الكتاب من النصارى، هكذا قال كثير من أهل العلم، ومنهم من ذهب إلى تعميمها، ولا إشكال في هذا، على أن أولى من يدخل فيها هم النصارى الذين يقولون: إنه ثالث ثلاثة، أو إنه ابن الله، وذلك أنه لا يدعي أحد غير النصارى مثل هذه الدعاوى في عيسى - عليه الصلاة، والسلام - فالآيات في النصارى، لكن لو قال قائل: فمن حاجك فيه من اليهود، بأنه ابن كذا، وكذا مما يفترون، فيمكن أن يباهل أيضاً، لكن هذه الآية في الأصل متوجهة إلى النصارى، فهي من الآيات التي نزلت فيهم.
قوله: "فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ [سورة آل عمران:61]"، نجد أنه لم يذكر البنات، وإنما ذكر الأبناء، والنساء، والأنفس، فيمكن أن يقال: لأنهن داخلات مع النساء، ومن أهل العلم من يقول: إن الأبناء ذكروا هنا؛ لأنهم هم الذين يحضرون مواطن الخصام دون البنات.
وعلى كل حال النبي ﷺ دعا فاطمة، وأحضر الحسن، والحسين، وعلياً، ويمكن أن يقال: إنه ذكر أشرف الأولاد، وهم الأبناء ليدل بذلك على البنات، فهذا وارد، والعلم عند الله .
وقوله: ثُمَّ نَبْتَهِلْ [سورة آل عمران:61] أي: نلتعن، وأصل المباهلة الاجتهاد في الدعاء باللعن، وغيره، ثم صارت تستعمل في كل اجتهاد بالدعاء، تقول: فلان يبتهل إلى الله   أن يرزقه، وأن يعافيه، وأن يدخله الجنة، فهذا الدعاء ليس فيه اجتهاد باللعن، وإنما صار الابتهال يستعمل في معنىً أوسع، والمقصود بها هنا في الآية معنىً خاص، وهو الاجتهاد بالدعاء باللعن، وغيره على المبطل، وهذه الطريقة ليست من المناظرة، وإنما هي لون من المخاصمة لا بالحجاج، وإنما بالدعاء على المبطل من الفريقين أن يهلكه، وأن يلعنه، إلى غير ذلك مما يمكن أن يدعى عليه.
والمباهلة تكون في هذه المسائل مع الكفار، وتكون أيضاً بين المسلمين، ففي بعض مسائل الفرائض حصل من الصحابة كابن عباس  أنه كان يدعو إلى المباهلة فيها، فيقول: من شاء باهلته، وهذا إنما يفعله الإنسان في حال، وثوقه التام بما هو عليه من الحق، وقد ذكر بعض أهل العلم كالحافظ ابن حجر - رحمه الله - أنه قد جرت سنة الله في المبطل ممن دخل في شيء من المباهلة أنه لا يمهل أكثر من سنة، يعني لا يدور الحول عليه إلا وقد نزل به ما دعي به في المباهلة.
"وكان سبب نزول هذه المباهلة، وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران: أن النصارى حين قدموا، فجعلوا يحاجون في عيسى، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة، والإلهية، فأنزل الله صدر هذه السورة؛ رداً عليهم، كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يسار، وغيره".

يعني أن هذا السياق الطويل بهذه التفاصيل يذكرها أصحاب السير، ولكن أصل قدوم وفد نجران ثابت في الصحيحين، لكن من غير هذه التفاصيل.
"قال ابن إسحاق في سيرته المشهورة، وغيره: وقدم على رسول الله ﷺ وفد نصارى نجران ستون راكباً، فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، يئول إليهم أمرهم، وهم العاقب، واسمه عبد المسيح، والسيد، وهو الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، وأويس بن الحارث، وزيد، وقيس، ويزيد، ونبيه، وخويلد، وعمرو، وخالد، وعبد الله، ويحنس، وأمر هؤلاء يئول إلى ثلاثة منهم، وهم العاقب، وكان أمير القوم، وذا رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، والسيد، وكان عالمهم، وصاحب رحلهم، ومجتمعهم، وأبو حارثة بن علقمة، وكان أسقفهم، وحبرهم، وإمامهم، وصاحب مدراسِهم، وكان رجلاً من العرب من بني بكر بن وائل، ولكنه تنصر فعظمته الروم، وملوكها، وشرفوه، وبنوا له الكنائس، ومولوه، وأخدموه لما يعلمونه من صلابته في دينهم، وقد كان يعرف أمر رسول الله ﷺ ، وصفته، وشأنه بما علمه من الكتب المتقدمة، ولكن حمله جهله على الاستمرار في النصرانية لما يرى من تعظيمه فيها، وجاهه عند أهلها".

المقصود بجهله هنا البغي، والتعدي، وليس معناه قلة العلم، فهو كان يعلم، حتى إنه كان مع أخ، أو ابن له - كما جاء في السير -، وعثرت دابته، فقال الذي معه: تعس الأبعد، أو كلمة نحوها، فرد عليه هذا، وأضاف ما يدل على أن النبي ﷺ هو المبعوث حقاً، وأنه هو الذي يجدونه في كتبهم، فلما سأله ذاك عن سبب إعراضه عن الإسلام، قال: أعطونا - أي الروم - ما ترى، فكل ما نحن فيه فهو منهم، فإن تركنا ذلك ذهب كل ما لدينا، وهذا كما يقول المعلمي - رحمه الله - في التنكيل حيث قال: "ومنهم من يكون له في الباطل شهرة، ومعيشة"، فهذا مثال عليه، يعني أنه يقتات من هذا الباطل، ويكون سبباً لدخله، ومعيشته، كأن يكون مغنِّياً، أو ممثلاً، وكبعض الصوفية، وكالرافضة الذين ينتسبون لأهل البيت، أو نحو هذا ليأخذون الخمس. 
"قال ابن إسحاق:، وحدثني محمد بن حعفر بن الزبير قال: قدموا على رسول الله ﷺ المدينة، فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات، جبب، وأردية، في جمال رجال بني الحارث بن كعب". 
     
هذه الجبب، والأردية مخططة تصنع من القطن، أو نحو هذا، وهي تجلب من اليمن، والمعنى أنهم دخلوا، وهم في حال من الزينة، والتهيؤ، والأبَّهة.
"قال: يقول من رآهم من أصحاب النبي ﷺ: ما رأينا بعدهم وفداً مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فقاموا في مسجد رسول الله ﷺ يصلون، فقال رسول الله ﷺ: دعوهم، فصلوا إلى المشرق".

هذه الروايات في السيرة لا يثبت بها حكم، فأهل السير يتساهلون حيث لم يكن لهم شروط المحدثين، وكثير من أهل العلم يتساهل في رواية هذه الأخبار بشروط معينة، لكن من أهم الشروط: ألا يثبت بها عقيدة، ولا يثبت بها حكم، ولو طبقت شروط المحدثين على ما في السير لم يبق منها إلا القليل جداً، فمثل هذه لا يثبت فيها حكم، وإلا كان سيقال: إنه يجوز للكفار أن يدخلوا المسجد، وأن يقيموا فيه عباداتهم، ولا ينكر عليهم، وهل يقال ذلك في أهل البدع الذين يصلون صلاةً تختلف عن صلاة أهل السنة لو صححنا هذه الرواية؟
لن يكون ذلك لازماً، ولو صحت الرواية؛ لأن نهج، وطريقة السلف من الإغلاظ على أهل البدع، وزجرهم معروفة، فهم لا يمكنون من إظهار بدعهم، لكن لو دخلوا، وصلوا مع المسلمين كما يصلي الناس، فهذا لا يمنعون منه؛ لأن الصلاة هي خير ما فعله الناس، فلا يمنعون منها، بل هم يؤمرون بالصلاة أصلاً إذا ما صلوا، لكن لا يُترك المبتدع يفرق الجماعة، فيصلي دونهم.
"قال: فكلم رسولَ الله ﷺ منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب عبد المسيح، أو السيد الأيهم، وهم من النصرانية على دين الملك، مع اختلاف أمرهم يقولون: هو الله، ويقولون: هو ولد الله، ويقولون: هو ثالث ثلاثة، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، وكذلك قول النصرانية، فهم يحتجون في قولهم هو الله، بأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه، والأبرص، والأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيراً، وذلك كله بأمر الله، وليجعله آية للناس.
ويحتجون في قولهم بأنه ابن الله، يقولون: لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحد من بني آدم قبله.
ويحتجون في قولهم بأنه ثالثة ثلاثة بقول الله تعالى: فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا، فيقولون: لو كان واحداً ما قال إلا: فعلت، وقضيت، وأمرت، وخلقت، ولكنه هو، وعيسى، ومريم، تعالى الله، وتقدس، وتنزه عما يقول الظالمون، والجاحدون علواً كبيراً، وفي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن".

يعني نزل القرآن يرد عليهم، ومعلوم أن الواحد يتكلم بضمير الجمع فعلنا، وأمرنا، ونحو ذلك، و يقصد بذلك تعظيم نفسه، وهذا لا إشكال فيه.
"ثم تكلم ابن إسحاق على التفسير إلى أن قال: فلما أتى رسول الله ﷺ الخبر من الله، والفصل من القضاء بينه، وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك، فقالوا: يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، فانصرفوا عنه، ثم خلَوْا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبياً قط، فبقي كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وإنه لَلاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجل، وانصرفوا إلى بلادكم، فأتوا النبي ﷺ، فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا ألا نلاعنك، ونتركك على دينك، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك، ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أمولانا، فإنكم عندنا رضاء. 
وروى البخاري عن حذيفة قال: جاء العاقب، والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله ﷺ يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبياً فلاعناه لا نفلح نحن، ولا عقبنا من بعده، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلاً أميناً، ولا تبعث معنا إلا أميناً، فقال: لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين، فاستشرف لها أصحاب رسول الله ﷺ، ورضي عنهم، فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام قال رسول الله ﷺ: هذا أمين هذه الأمة[1].
وروى البخاري عن أنس عن رسول الله ﷺ قال: لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح[2].
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس - ا - قال: قال أبو جهل - قبحه الله -: إن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه، قال: فقال: لو فعل لأخذته الملائكة عياناً، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ورأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله ﷺ لرجعوا لا يجدون مالاً، ولا أهلاً[3]، ورواه البخاري[4]، والترمذي، والنسائي، وقال الترمذي حسن صحيح".

مثل هذا له حكم الرفع.
  1. أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب قصة أهل نجران (4119) (ج 4 / ص 1592). 
  2. أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب قصة أهل نجران (4121) (ج 4 / ص 1592).
  3. أخرجه أحمد (2225) (ج 1 / ص 248) وأبو يعلى (2604) (ج 4 / ص 471) وقال شعيب الأرنؤوط: "صحيح".
  4. أخرج البخاري الشطر الأول منه في كتاب التفسير – باب تفسير سورة العلق (4675) (ج 4 / ص 1896) ولفظه: "قال أبو جهل: لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ النبي ﷺ، فقال: لو فعله لأخذته الملائكة.

مرات الإستماع: 0

"فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ [آل عمران:61] أي: في عيسى، وكان الذي حاجه فيه وفد نجران من النصارى."

في عيسى، ويحتمل أن يعود إلى الحق في قوله: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ هذا الحق من ربك فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ يمكن أن يعود الضمير إلى أقرب مذكور، وهو الحق المذكور قبله، ومن حاجك في هذا الحق فقل: تعالوا، ومن قال بأن ذلك يرجع إلى عيسى، فالواقع أن ذلك يلتئم، بمعنى متحد، يعني الحق ما هو؟ الحق فيما ذكره الله في شأن عيسى: أنه كآدم خلقه من تراب إلى آخره، وليس بإله، فمن حاجك فيه بأنه ثالث ثلاثة، أو ابن الله، أو بأن هو الله كما يقول بعض النصارى، تمثل في المسيح  تعالى الله عن ما يقولون علوًا كبيرًا فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ أي: في عيسى.

فإذا قلنا: الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، فهو الحق، وإذا قلنا: بأن ذلك يرجع إلى المقصود بهذا السياق، وهو بيان حقيقة عيسى  - عليه الصلاة، والسلام - قال: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ أي: في عيسى  - عليه الصلاة، والسلام - لكن ذلك يرجع إلى معنى واحد في الواقع، فالحق هو أن عيسى هو عبد لله، ورسوله، خلقه كما خلق آدم، وليس بإله فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ وكان الذي حاجه: وفد نجران. 

"فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ أي: في عيسى، وكان الذي حاجه فيه، وفد نجران من النصارى، وكان لهم سيدان، يقال لأحدهما: السيد، وللآخر العاقب."

ذكر ابن إسحاق في روايته أنهم يرجعون إلى ثلاثة، هنا ذكر ابن جزي اثنين: السيد، والعاقب، ابن إسحاق في الرواية التي ذكرها: ذكر أنهم يرجعون إلى ثلاثة، إلى هذين، والثالث يقال له: أبو حارثة بن علقمة، وكان الأسقف، وهو إمامهم.

يقولون: كانوا ستين راكبًا، الوفد كانوا ستين، وفيهم أربعة عشر رجلًا من أشرافهم، ومقدموهم هم هؤلاء الثلاثة، قال: فيهم سيدان، يقال لأحدهما: السيد، وهذا الذي يقال له: الأيهم، اسمه الأيهم، وهذا عالمهم، وصاحب رحلهم، ومجتمعهم، يعني لهم وظائف، كل واحد له مهمات، فهذا الأيهم هو عالمهم، وصاحب رحلهم، ومجتمعهم، والعاقب اسمه عبد المسيح، فالعاقب لقب، وهو أميرهم، وصاحب الرأي، والمشورة فيهم.

"نَبْتَهِلْ نلتعن."

وهذا الذي اختاره ابن كثير[1] أن نَبْتَهِلْ بمعنى نلتعن.

"والبهلة اللعنة، أي نقول: لعنة الله على الكاذب منا، ومنكم، هذا أصل الابتهال، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، وإن لم يكن لعنة، ولما نزلت الآية أرسل رسول الله ﷺ إلى علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، ودعا نصارى نجران إلى الملاعنة، فخافوا أن يهلكهم الله، أو يمسخهم الله قردة، وخنازير، فأبوا من الملاعنة، وأعطوا الجزية."

هنا في قوله: بأن أصل الابتهال الالتعان، لعن على الكاذب، وذكر هنا هذا المعنى أنه صار يستعمل في ما هو أعم، يعني مثل ما يقال في اليمين، الحلف، قيل: كان يأخذ مع ذلك بيمين صاحبه، تأكيدًا للقول بالفعل، ثم صار تقال لكل يمين، وإن لم يأخذ بيد صاحبه، وإن لم يأخذ بيمينه.

يقول: ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، وإن لم يكن لعنة، ولهذا فإن بعضهم يقول: بأن الابتهال أصله الاجتهاد في الدعاء باللعن، وغيره، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، يقال: فلان يبتهل إلى الله، نبتهل إلى الله، ابتهلنا إلى الله، مبتهلين إلى الله، وهكذا. 

فذكر هنا: أنها لما نزلت الآية أرسل النبي ﷺ إلى علي، وفاطمة إلى آخره، ودعاهم إلى الملاعنة فخافوا.

وهنا الحافظ ابن كثير ذكر أن مقدم هؤلاء كان قبل الحديبية، بعض العلماء يقولون: أنهم جاءوا في السنة التاسعة للهجرة، يعني بعد فتح مكة، الحافظ ابن كثير يرجح أن مجيئهم كان قبل صلح الحديبية[2] وأن ما أخذ منهم كان على سبيل الصلح، وأن آية الجزية لم تنزل إلا بعد الفتح، في آية براءة التي نزلت متأخرة بعد صلح الحديبية، في السنة التاسعة من الهجرة قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] فهذه الآية نزلت بعد فتح مكة، فتح مكة كان في السنة الثامنة.

هل أخذ منهم النبي ﷺ الجزية؟ يقول: وأعطوا الجزية، ابن كثير يقول: العبارة فيها تجوز، باعتبار أن الذي أخذ منهم كان على سبيل المصالحة، والجزية لم تنزل بعد، يعني ما شرعت بعد، فكان صالحوا النبي ﷺ على أن يعطوه شيئاً في مقابل المتاركة، والمسالمة، لكن لم تكن على سبيل الجزية؛ لأن الجزية نزلت بعد ذلك، نزلت متأخرة.

والزهري محمد بن شهاب يقول: "هم أول من دفعوا الجزية"[3] يعني: كان يرى أنها جزية، ومن أهل العلم: من رجح ما في الصحيحين، في كتاب النبي ﷺ لقيصر، وأن الآية نازلة قبله، ورواية الوفد التي فيها جزية: لا تصح، ضعيفة[4] وإلا أصل إفادة وفد نجران هذا ثابت في الصحيحين، لكن أنه أخذ منهم الجزية: هذا لا يصح في شيء من الروايات.

ولهذا اختلف العلماء: هل أخذ منهم جزية، أو مصالحه؟ - والله أعلم - أن النبي ﷺ في كتابه لقيصر ذكر الآية بهذه اللفظة: ويَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64] آية آل عمران هذه، فتكون هذه نازلة بوفد نجران، أو بكتابته ﷺ لقيصر، كتابة النبي ﷺ لقيصر مبكرة، قبل فتح مكة، وهذه الآيات على القول: بأنها نازلة في، وفد نجران، وأن، وفد نجران جاء في السنة التاسعة للهجرة، يكون متأخرًا، لهذا رجح من رجح من أهل العلم: بأن الآية نازلة قبل ذلك قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ هي في الكتاب لقيصر: ويا أهل الكتاب.

فبعض أهل العلماء قال: أنه لم يقصد الآية، وإنما جاء ذلك موافقًا للآية التي نزلت بعد ذلك، يعني قصد المعنى، ويا أهل الكتاب، بالواو، تعالوا إلى كلمة سواء، فجاءت موافقة لما أنزل الله بعد ذلك: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ يعني النبي ﷺ يقولون: ما قصد الآية، هكذا قال بعضهم، أنه قاله قبل أن تنزل، فجاءت موافقة - والله أعلم -.

ومجيء الوفد ثابت في الصحيحين لا إشكال فيه، لكن كما ذكرت من قبل: بأنه سبب نزول هذه الآيات جميعًا: هذا لا يصح في رواية، لا تخلو الروايات من ضعف - والله أعلم -. 

  1. تفسير ابن كثير (2/49).
  2. المصدر السابق (2/55).
  3. المصدر السابق (2/56).
  4. المصدر السابق (2/57).