قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ [سورة آل عمران:64]، والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما قال هاهنا، ثم وصفها بقوله: سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [سورة آل عمران:64] أي: عدل، ونصف، نستوي نحن، وأنتم فيها، ثم فسرها بقوله: أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا [سورة آل عمران:64]".
ومما يدل على هذا التفسير بأن سواء بمعنى عدل قراءة ابن مسعود فإنها بلفظ عدل بدل سواء، وهذه القراءة ليست متواترة، لكن من المعلوم أن القراءة الشاذة تفسر القراءة المتواترة.
هذه الآية أصل في دعوة أهل الكتاب، فالذين يجتمعون مع أهل الكتاب فيما يسمونه بالتقريب بين الأديان، هذا باطل، ولا يجوز، بل هو من أبطل الباطل؛ إذ كيف يجمعون بين الحق، والباطل؟
وبعضهم ممن ابتلي بحضور هذه المؤتمرات يزعم بأن ذلك من دعوتهم، وليس كذلك؛ فهم لا يذهبون لدعوتهم، وإنما يذهبون ليجلسون معهم على أساس التقارب بين هذه الأديان، فهم في أحسن أحوالهم يجلسون جلوس الند، أو النظير، والمماثل، لا يجلس على أنه صاحب حق، ويدعوهم إلى الله ، فالواجب هو ما أمر الله به، وهو أن يُدعون فيقال لهم: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا، وبينكم ألا نعبد إلا الله إلى آخره، فإذا فعلوا ذلك فقد تركوا دينهم، وتخلوا عن شركهم، وعن أصل أصولهم، وهو عقيدتهم في المسيح - عليه الصلاة، والسلام -، هذا هو الأصل في الجلوس معهم، لكن هم لا يقبلون بالجلوس مع من يقول هذا أبداً، إذ يعتبرون هذه فوقية، ومن المعلوم لكل أحد أنهم ما اجتمعوا لمثل هذا أبداً.
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران:64] أي فإن تولوا عن هذا النَّصَف، وهذه الدعوة؛ فأشهدوهم أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم.
وفي الكتاب الذي أرسله النبي ﷺ إلى هرقل: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فأسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا، وبينكم ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون[1]".
الأريسيين يُقصد بهم الفلاحين.
الإشكال هو أن آية الجزية من سورة براءة، ولا شك أن سورة براءة آخر ما نزل في القتال، أي ما نزلت إلا بعد فتح مكة، وهي قوله تعالى: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [سورة التوبة:29]، فهذه آية الجزية، وهي متأخرة في النزول، وهذا الكتاب الذي كتبه النبي ﷺ إلى هرقل ذكر فيه الآية، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ.. [سورة آل عمران:64]، فهل هذه الآية نازلة في وقت مبكر؟
وفد نجران إنما جاء في عام الوفود، وكتاب النبي ﷺ إلى هرقل، وإلى الملوك كان بعد صلح الحديبية، وقبل فتح مكة، حيث تفرغ النبي ﷺ للدعوة، وكتب إلى الملوك، وهذه الآية مذكورة في كتاب النبي ﷺ لهرقل، فكيف الجواب عن هذا؟
الجواب إما أن يقال: إن هذه الآية كما دل عليه هذا الحديث نازلة قبل ذلك، فليست نازلة في وفد نجران، وهذه الرواية الثابتة في الصحيحين مقدمة على روايات السير التي لا تثبت، فهذا طريق في الترجيح.
أو يقال: إن النبي ﷺ ما قصد الآية، ولم تكن قد نزلت؛ بدليل ذكر الواو هنا، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء، فهي هكذا في الصحيحين، فهذه ليست في الآية، وعلى هذا يكون النبي ﷺ خاطبهم بهذا، ولم يقصد الآية، ثم نزلت الآية بعد ذلك موافقة لما ذكره النبي ﷺ، فيكون ذلك من الموافقات التي وقعت لرسول الله ﷺ، وقد وقع لعمر كما هو معلوم جملة من الموافقات، نحو قوله تعالى: عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ [سورة التحريم:5] إلى غير ذلك، فالمقصود أن هذه الآية جاءت موافقة لما كتب النبي ﷺ في خطابه لهرقل، فهذا احتمال.
وإذا قيل: إن الآية هي مقصودة فقد أجاب العلماء على هذه الواو بأنها ليست من الآية، ولكنه خاطبه بكذا، وقال له: ويا أهل الكتاب إلى آخره.
فإما أن نلجأ إلى ترجيح الرواية التي في الصحيح على رواية السير، وإما أن نجيب بما سبق، - والله أعلم -.
وعلى كل حال فإن وفادتهم ثابتة في الصحيحين، ولا إشكال فيها، لكن الكلام في التفاصيل، هل هذه الآيات نزلت فيهم فعلاً؟ هذا ليس في الصحيحين، وعلى كل حال، فالقول بأن سبب نزول هذه الآيات كلها هو وفد نصارى نجران لا أعرف عليه دليلاً صحيحاً، وإنما غاية ما فيه هي الروايات، والأخبار التي في السير، وهذه الروايات لا يثبت بها حكم كما سبق، فإن قام ما يعارضها فعندئذ تطبق شروط المحدثين دون تساهل.
وبالنسبة لمسألة الجزية، هل أخذت من وفد نجران أم لا، وهل هي المقصودة بقول العاقب، والسيد لرسول الله ﷺ كما في البخاري: "إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلاً أميناً"؟
كتب السير تذكر أن الجزية أخذت من نصارى نجران، وأنها أول جزية أخذت، لكن الجزية ما نزلت الآية فيها إلا متأخرة، وهي قوله: حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [سورة التوبة:29]، إذاً: ما الذي طلبه منهم النبي ﷺ؟ من أهل العلم من يقول: إن ذلك، وقع على سبيل المصالحة، إلا أن روايات السير تذكر أن النبي ﷺ أرسل إليهم يدعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا فإنهم يدفعون الجزية، فإن أبوا فالقتال، فهل يقال إن الآية متأخرة في النزول بعد تقرير الحكم مثل آية الوضوء إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ... [سورة المائدة:6] حيث إنها لم تنزل إلا بالمدينة، ومع ذلك لم يكونوا يصلون في مكة بدون، وضوء، وإنما هذا يعتبر مما نزل بعد تقرير الحكم، فالنزول أحياناً يكون مع الحكم، وهذا هو الغالب، وأحياناً يكون قبل الحكم، وأحياناً بعده - وليس المقصود هنا بالحكم الحلال، والحرام، وإنما المقصود مقتضى الآية، وما تضمنته من الحديث عن شيء قد وقع أو لم يقع بعد -، وهذا الأخير مثل قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [سورة القمر:45] حتى قال عمر : أي جمع؟ فرأى ذلك في يوم بدر، فهذه نزلت قبل تقرير الحكم أي أنها تحدثت عن شيء لم يقع بعد، فهل آية الجزية نزلت بعد تقرير الحكم - يعني عكس آية سورة القمر، ومثل آية الوضوء -؟
يحتمل أن يكون تقرير حكم الجزية كان أولاً ثم بعد ذلك نزلت الآية التي تتحدث عنها، ويمكن أن يكون النبي ﷺ صالحهم على شيء موافقاً لما هو مقرر أخذه في الجزية، فجاءت بعد ذلك فريضة الله في الجزية موافقة له، ويمكن أن يكون صالحهم على شيء اتفق معهم عليه، ثم جاء حكم الجزية بتفاصيلها بعد الفتح، وهذا يكون مثل ما يقال في الزكاة، حيث إن سورة الأنعام - المكية باتفاق - يقول الله فيها: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141]، والمراد بالحق في الآية - على الأرجح - أنها الزكاة، فالزكاة فرضت آنذاك، لكن المقادير، والأموال الزكوية، وما أشبه ذلك من الأنصباء إنما فرض في المدينة، أما أصل الزكاة فقد كان يُخرج الإنسان في يوم الحصاد شيئاً غير مقدر، يعطيه من حضره من الفقراء، امتثالاً لقوله تعالى: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141] أي أن حقه هي الزكاة، ومن أهل العلم من يقول: في المال حق سوى الزكاة، وأنه هو المراد هنا، ثم نزلت الزكاة إضافةً إلى ذلك - والله أعلم -.
على هذا القول وفد نجران لم يأت في عام الوفود، ومعنى ذلك - على هذا القول - تكون الآيات نزلت في، وفد نجران قبل الحديبية، ثم بعد ذلك كتب النبي ﷺ إلى الملوك بعد صلح الحديبية، وكانت الآية قد نزلت في وفد نصارى نجران، لكن هذا الكلام لا يقطع به؛ إذ ليس فيه دليل يثبت هذا، لكن هو أحد الأجوبة.
على كل حال هذان جوابان ذكرهما الحافظ ابن كثير، وذكر بعضهم غير هذا، كمن سلك طريق الترجيح.
من الأجوبة أنها نزلت مرتين، نزلت مرة متقدمة، ثم بعد ذلك نزلت مع الآيات حين قدم وفد نصارى نجران، وهذه كلها - طبعاً - دعاوى لا دليل عليها، لكن هي احتمالات، وأجوبة تذكر لحل الإشكال، ولا يمتنع نزول الآية أكثر من مرة، حيث يمكن أن تنزل الآية مرتين، وأقرب ما يوضح ذلك بقية الأحرف الستة؛ لأن القرآن كان ينزل على حرف قريش في مكة، ثم بعد أن هاجر النبي ﷺ نزلت الأحرف الستة الباقية، ومعنى ذلك أنها نزلت تلك الآيات مرة أخرى، ومما نزل أكثر من مرة قوله - تبارك، وتعالى -: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ [سورة النحل:126]، نزلت في يوم أحد، ونزلت والنبي ﷺ في طريقه إلى مكة عام الفتح في قصة سعد بن عبادة لما قال ما قال.
ومن أمثلة ذلك أيضاً لما قال المشركون: صف لنا ربك، فأنزل الله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1]، وهذا كان بمكة، و سأله اليهود مثل هذا السؤال في المدينة، فأنزل الله هذه السورة، فعلى هذا يمكن أن يقال: إن الآية نزلت مرتين، وهو أيضاً احتمال؛ لأن نفس حديث ابن مسعود ، وإن كان في الصحيح - يقول: فرفع النبي ﷺ فعرفت أنه يوحى إليه، فقد يكون رفع رأسه ينتظر الوحي، فلم ينزل عليه بسورة جديدة، أو بآية جديدة، فقرأ عليهم السورة السابقة نفسها: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1]، ويحتمل أيضاً أنها نزلت عليه مرة ثانية، وليس ذلك بممتنع كما سبق، فالآية قد تنزل مرة أخرى تذكيراً بالحكم، أو لبيان أن حكم هذه النازلة، أو هذه الواقعة أو نحو ذلك هو نفس حكم ما قبلها، وأمثلة هذا كثير - والله أعلم -.
- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، والسير - باب دعاء النبي ﷺ إلى الإسلام، والنبوة، وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله (2782) (ج 3 / ص 1074)، ومسلم في كتاب الجهاد، والسير - باب كتاب النبي ﷺ إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (1773) (ج 3 / ص 1393).