"يقول تعالى متوعداً، ومهدداً لمن كفر بعد إيمانه، ثم ازداد كفراً، أي ستمر عليه إلى الممات، ومخبراً بأنهم لن تقبل لهم توبة عند مماتهم، كما قال تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ.. الآية [سورة النساء:18]، ولهذا قال ها هنا: لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ [سورة آل عمران:90] أي: الخارجون عن المنهج الحق إلى طرق الغي".
فقوله - تبارك، وتعالى - هنا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [سورة آل عمران:90]، هذه الآية فيها إشكال معروف عند أهل العلم، وذلك أن الله أخبرنا في غير هذا الموضع من كتابه أنه يقبل التوبة عن عباده، وأن أهل الذنوب مهما تعاظمت ذنوبهم فإن الله يفتح لهم باب التوبة، حتى إنه يقول للذين نسبوا له الصاحبة، والولد متلطفاً بهم غاية التلطف: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [سورة المائدة:74] إلى غير ذلك مما هو معلوم، وهذه الآية يقول الله فيها إنه لن يقبل توبتهم، فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا يفسر هذه الآية بالآية الأخرى، وهي أن الإنسان إذا أخر التوبة فإنه لا تقبل توبته عند الموت، أي إنه فسرها بقوله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [سورة النساء:18]، وهذا قول معروف، قال به طوائف من أهل العلم، وعلى هذا القول ينتفي الإشكال، حيث قال: لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [سورة آل عمران:90] يعني الذين أخروها إلى حال الغرغرة، أو عند الموت، فهذا لا تقبل توبته، ولو كانت من الذنوب، والمعاصي كما هو معلوم.
ومنهم من حمل ذلك على من مات على الكفر؛ لأنه قال: وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [سورة النساء:18]، بمعنى أن هؤلاء الذين يموتون على الكفر هم الذين أرادهم الله بهذه الآية، لكن هذا الجواب فيه إشكال، لأن هؤلاء ما تابوا، والله هنا يقول: لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [سورة آل عمران:90]، فمن مات على الكفر فإنه لم يتب.
ومن أهل العلم من يقول - ككبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -: إن هذه الآية في اليهود حيث آمنوا بالنبي ﷺ قبل أن يبعث، بما كانوا يجدونه في كتبهم، فعرفوه من صفته، فهؤلاء آمنوا، فلما بعث كفروا به ﷺ، وقاموا بأمور من الجرائم، والذنوب، سواء كان في حقه - عليه الصلاة، والسلام -، أو في غير ذلك، لذلك قال: ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا [سورة آل عمران:90]، فالذنوب، والمعاصي التي يكتسبها الكافر هي زيادة في كفره، كما قال الله عن المشركين: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [سورة التوبة:37]، فالنسيء هو تأخير الأشهر، فبدل أن يكون المحرم العام القادم في وقته يستبدلونه بصفر، وهكذا بدل أن يكون رجب في وقته يقدم عنه شعبان، ورجب يؤخر، ففعلهم هذا سماه الله زيادة في الكفر، فهؤلاء إذا تابوا من شيء من ذنوبهم، ومعاصيهم عدا كفرهم بالنبي ﷺ فلن تقبل توبتهم، هذا على قول ابن جرير، ومن وافقه - رحمهم الله - أنها خاصة في اليهود.
ومن أهل العلم من يقول: هؤلاء الذين آمنوا، ثم ارتدوا، فما كان لهم من توبة، وهي من جملة الأعمال الصالحة قبل ردتهم؛ فإنها لن تقبل، أي ما وقع منهم من توبة من الذنوب، والمعاصي قبل الردة لا تقبل؛ لأن الردة أبطلت أعمالهم السابقة، وهذا القول قد لا يظهر كل الظهور.
ومن أهل العلم من يقول: إن المقصود بهذه الآية أنهم لن يوفقوا للتوبة، وبناءً على ذلك فإن توبتهم لن تقبل، يعني عُبِّر بأحد المتلازمين عن الآخر فقال: لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [سورة آل عمران:90] أي لن يوفقوا للتوبة، فهؤلاء عرفوا الحق ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا [سورة آل عمران90]، فهم دانوا بالحق، ثم رجعوا عنه، ثم ازدادوا غياً، وضلالاً، فهؤلاء لن يوفقوا للتوبة، وإذا لم يوفقوا للتوبة؛ فإن توبتهم لن تقبل بطبيعة الحال.
فهذه احتمالات، ومن أهل العلم من قال بأبعد من هذا، كمن قال: لن تقبل توبتهم إن تابوا إلى كفر آخر حتى يتوبوا من كفرهم توبة صحيحة بالرجوع إلى الحق الذي هو دين الإسلام، فلو تاب من اليهودية، ودخل في النصرانية فإنه لن يقبل منه، وهكذا.
روى الحافظ أبو بكر البزار عن ابن عباس - ا - أن قوماً أسلموا، ثم ارتدوا، ثم أسلموا، ثم ارتدوا، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم، فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ، فنزلت هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [سورة آل عمران:90]. وإسناده جيد".
على كل حال هذه الآية يمكن أن تفسَّر الآية الأخرى أيضاً، وهي قوله - تبارك، وتعالى -: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا [سورة النساء:137] حيث عقبها بقوله: لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً [سورة النساء:137]، وهنا في آل عمران قال: لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [سورة آل عمران:90]، وهذه المعاني متلازمة، فهم إذا قبلت توبتهم؛ غفر الله لهم، فعبر بنفي المغفرة هناك، وهنا عبر بنفي قبول التوبة، فيمكن أن يقال - والله أعلم -: إن هذا مما يؤيد قول من قال: إن المقصود بقوله: لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [سورة آل عمران:90] أنهم لن يوفقوا للتوبة، وبناءً عليه فإنهم لن تقبل توبتهم؛ لأنهم لم يتوبوا أصلاً، وهذا يرجع إلى قول من قال: إن هذه الآية فيمن مات على كفره، ثم إذا نظرت إلى حال من تاب عند الموت فهو في حكم من مات على كفره؛ لأن توبته لم تقع في محل يتحقق فيه القبول فكأنها منعدمة لم توجد، والخلاصة أنك تجد أن بعض هذه الأقوال يمكن أن يرجع إلى بعض بهذا الاعتبار، - والله تعالى أعلم -.