قوله: مِّلْءُ الأرْضِ المقصود به مقدار ما يملأ الأرض، كما تقول: ملء هذا الكأس مثلاً، بمعنى مقدار ذلك.
في الآية الأولى: وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ [سورة البقرة:123] جاء لفظ "عدل" نكرة في سياق النفي فهي للعموم، أي: لا يقبل منها عدل بإطلاق، وهنا في هذه الآية قال: فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا [سورة آل عمران:91]، فهنا جاء ذلك محدداً بهذا المقدار - بملء الأرض -، وهناك أطلقه، أي فلن يقبل منهم الفدية، ولا العدل، ولو بذلوا في ذلك ملء الأرض ذهباً، أو أكثر من ذلك، أو أقلّ، قال الله : وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ [سورة البقرة:123] أياً كان، وقال: لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ [سورة إبراهيم:31]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ [سورة المائدة:36] ذكر هنا ملء الأرض، ومثله معه، يعني ضعف ما هاهنا، فكل ذلك، وغيره على كل حال يقرر أن هؤلاء لا فكاك لهم، ولهذا ذكر الأمور الثلاثة في سورة البقرة، فقال سبحانه: وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:48] فلا يقبل فيه شفاعة شافع، ولا يفتدي عن نفسه بشيء، ولا يمكن لأحد أن يخلصه بالقوة، فلا خلاص لا بواسطة، ولا بمقابل، ولا بالقوة، فكل ذلك نفاه الله عنهم كما قال: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة الحديد:15]، وقال: وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا [سورة الأنعام:70] - نسأل الله العافية -.
قوله: وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ: ليس المقصود بالعدل هنا ما يقابل الظلم، وإنما المقصود ما يعاوض به، أي ما يقدمه فكاكاً، وفداءً لنفسه.
هذا الكلام الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله - هو وجه حسن، ولنتأمل الآية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ [سورة آل عمران:90-91] أي: لن يقبل منه ملء الأرض ذهباً، ولو كان ذلك على سبيل الفدية، فابن كثير - رحمه الله - يقول هنا: "ولهذا قال تعالى هاهنا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ... إلى آخره، فعطف وَلَوِ افْتَدَى بِهِ على الأول فدل على أنه غيره"، وهذا باعتبار أن العطف يقتضي المغايرة، أي أن قوله: فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًاِ، يكون معنى مستقلاً، بمعنى أنه يفسَّر بالآيات الأخرى كما في قوله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [سورة الفرقان:23]، وكقوله - تبارك، وتعالى - عن أعمال الكفار: كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [سورة إبراهيم:18]، وأخبر عنها بغير ذلك مما يدل على بطلانها، وحبوطها، وأنها غير نافعة لهم كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [سورة النــور:39] فلن تؤثر لهم جزاءً في الآخرة، وإنما هي باطلة حابطة، فهنا يكون الشق الأول يتحدث عن هذا المعنى، وهو قوله: فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًاِ يعني لو بذله في سبيل الله في أعمال صالحة، يتقرب بها إلى ربه - تبارك، وتعالى - فإنها مردودة، ثم ذكر معنى آخر، وهو أنه لو كان هذا البذل لهذا المال الكثير على سبيل الافتداء، أي من أجل أن يفدي نفسه بهذا المال ليتخلص، فإن ذلك لن يقبل منه، يقول ابن كثير عن هذا التفسير: "وما ذكرناه أحسن من أن يقال: إن الواو زائدة"؛ ذلك أنه إذا قيل: إن الواو زائدة يكون المعنى: لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً لو افتدى به، بمعنى أن ذلك كله كان في شيء واحد هو الافتداء فقط بخلاف التفسير الأول.
ثم إن ادعاء الزيادة لا يصح، وهذا مع تحفظنا على لفظة زائدة؛ لأنه لا زائد في القرآن، فإذا قيل: إنها زائدة لفظاً، ومعنى، فهذا لا يصح لأن القرآن كما هو معلوم ليس فيه حشو، وإنما زيادة المبنى لزيادة المعنى، فلا يوجد في القرآن حرف إلا وله معنى، لكنهم يقصدون الزيادة من جهة الإعراب فقط، ولذلك يتأدب بعضهم في العبارة فينكر التعبير بهذه اللفظة، ويقول: إنها منافية للأدب مع القرآن، وإنما الأدب اللائق أن يقال: هي صلة، وهذا التعبير الأخير في كتب التفسير كثير، فالحاصل أن الأصل عدم الزيادة، وأن كل حرف، أو لفظة لها معنى، وإذا دار الكلام بين الإعمال، والإهمال فالأصل الإعمال، وإذا دار الكلام بين الزيادة، وعدمها فالأصل عدم الزيادة، فمهما أمكن حمل الكلام على معنىً صحيح فإنه أولى من ادعاء الزيادة، ولذلك فإن الوجه الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله - أولى من قول من قال: إنها زائدة، وأولى من تفسير من فسره بالمعنى، والمراد بالتفسير بالمعنى أن يفسر المفسر الآية بقوله: وهو محمول على المعنى، يقول هذا من غير مراعاة للألفاظ، ولا للترتيب أحياناً؛ لأن السياق، أو ترتيب الكلام يكون عنده فيه إشكال، وهذا له أمثلة كثيرة في التفسير.
وروى الإمام أحمد عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له: يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أي ربي خير منزل. فيقول: سل، وتمنَّ، فيقول: ما أسأل، ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرار؛ لما يرى من فضل الشهادة، ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له: يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول: يا رب شرَّ منزل، فيقول له: تفتدي مني بطلاع الأرض ذهباً، فيقول: أي ربِّ نعم، فيقول: كذبت، قد سألتك أقل من ذلك، وأيسر فلم تفعل، فيرد إلى النار[2].
ولهذا قال: أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ [سورة آل عمران:91] أي: وما لهم من أحد ينقذهم من عذاب الله، ولا يجيرهم من أليم عقابه".
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب الدليل على أن من مات على الكفر لا ينفعه عمل (214) (ج 1 / ص 196).
- أخرجه أحمد (13185) (ج 3 / ص 207)، والحاكم (2405) (ج 2 / ص 85)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.