السبت 27 / شوّال / 1446 - 26 / أبريل 2025
لَن تَنَالُوا۟ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا۟ مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا۟ مِن شَىْءٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ  [سورة آل عمران:92].
روى وكيع في تفسيره عن عمرو بن ميمون: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ قال: البر الجنة".

لما ذكر الله حال الكافرين، وبين أن ما يبذلونه من النفقات التي يتقربون بها إلى الله مردود، وأنه مهما بذلوا من أجل فكاك أنفسهم من عذاب الله فإن ذلك لن يحصل لهم؛ فالعذاب أمر واقع بهم لا محالة، خاطب الله بعد ذلك المؤمنين ببيان ما ينفعهم، ويوصلهم، ويبلغهم الدرجات العُلى عند الله - تبارك، وتعالى -، وتحصيل مرضاته، وما يدخلهم جنته فقال: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:92].
قوله: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ يقول: "روى وكيع في تفسيره عن عمرو بن ميمون: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ قال: الجنة"، وبعضهم يقول: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ يعني العمل الصالح الذي يقرب إلى وجهه الكريم، ويدخل جنته، والواقع أن هذه الأقوال متلازمة، فالعمل الصالح هو الذي يدخل به الإنسان الجنة بعد رحمة الله ، وفضله عليه، والله يقول لأهل الجنة: ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة النحل:32]، فسواء قلنا: المقصود بقوله: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ الجنة، أو قلنا: العمل الصالح، فهذا من باب ذكر السبب، أو المسبب، ولا يخفى ما بين السبب، والمسبب من الملازمة، فلا نحتاج في مثل هذا أن نرجح بين القولين.
و"من" في قوله: مِمَّا تُحِبُّونَ تحتمل أن تكون بيانية، وتحتمل أن تكون تبعيضية، ويؤيد القول بأنها تبعيضية قراءة شاذة لابن مسعود ، وفيها: "بعض ما تحبون" أي: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا بعض ما تحبون"، بمعنى أن الإنسان لا ينفق كل ما يحب، وإنما ينفق بعض ما يحب.
"وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك يقول: كان أبو طلحة أكثر أنصاريٍّ بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي ﷺ يدخلها، ويشرب من ماء فيها طيب".

كانت مستقبلة المسجد من جهة الشمال، وهي الآن داخلة في المسجد، فإذا جئت المسجد من باب عمر، أو الباب المجيدي اللذين في الجهة الخلفية، فهي على يسارك قليلاً أي أنها كانت في غاية القرب من المسجد.
"قال أنس : فلما نزلت لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:92]، قال أبو طلحة: يا رسول الله، إن الله يقول: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ، وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها، وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال النبي ﷺ: بخ بخ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح، وقد سمعت، وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه، وبني عمه[1]، [أخرجاه:].
وفي الصحيحين أن عمر قال: يا رسول الله لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر، فما تأمرني به؟ قال: حبِّس الأصل، وسبل الثمرة[2]".

الأمثلة على هذا التصرف من أصحاب النبي ﷺ، وغيرهم كثيرة، ومن ذلك أن زيد بن حارثة لما سمع هذه الآية جاء بفرس له يقال له: "سَبَل"، ودفعه إلى رسول الله ﷺ ليجعله في سبيل الله.
ومن ذلك فعْل ابن عمر في جاريته الرومية "مرجانة" التي كان يحبها غاية الحب، فأعتقها، وكذلك عمر في جارية من سبي جلولاء، وغير ذلك مما كانوا يفعلونه في تحري هذا المعنى،  وهو بذل ما يحبون في سبيل الله.
  1. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة آل عمران (4279) (ج 4 / ص 1659)، ومسلم في كتاب الزكاة - باب فضل النفقة، والصدقة على الأقربين، والزوج، والأولاد، والوالدين، ولو كانوا مشركين (998) (ج 2 / ص 693).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الشروط - باب الشروط في الوقف (2586) (ج 2 / ص 982)، ومسلم في كتاب الوصية – باب الوقف (1632) (ج 3 / ص 1255).

مرات الإستماع: 0

"لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ [آل عمران:92] أي لن تكونوا من الأبرار، أو لن تنالوا البر الكامل حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]."

"لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ [آل عمران:92] أي لن تكونوا من الأبرار، أو لن تنالوا البر الكامل" البر مضى في الغريب، أصل هذه اللفظة، وكذلك في الأسماء الحسنى، بأنها تدل على السعة، لذلك يُقال: البر الفضاء الواسع، فهذه تدل على التوسع، في لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ في فعل الخير، الاتساع في الإحسان، يُطلق أيضًا على الدين البر، والدين، والطاعة لله واصله يقولون: بمعنى صدق في المحبة لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ يقول: "لن تكونوا من الأبرار، أو لن تنالوا البر الكامل حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ" في قراءة ابن مسعود  لن تنالوا البر حتى تنفقوا بعض ما تحبون، فمن هنا بعض ما تحبون تفسرها حتى تنفقوا مما تحبون، فـ "من" هل هي بيانية، أو تبعيضية؟

قراءة ابن مسعود تدل على أنها تبعيضية، يعني لا يُطالب بالإنفاق كل ما يحب، وإنما من ما تحبون، يعني بعض ما تحبون وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ على هذا المحمل أنها تبعيضية، فالمطلوب هو إخراج بعض المال مما يحبه الإنسان يعني لا يخرج الرديء وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267] فلا يقصد الإنسان بصدقته الرديء من المال، وما لا ترغب فيه نفسه، فيكون ذلك هو صدقته، ونفقته، فهذا لن يصل إلى المراتب العالية بهذا الصنيع.

وهنا يكون لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] لن تنالوا الخير الكثير من الله بتفضله عليكم، وإدخالكم الجنة، وصرفكم عن النار، وبعضهم يقول: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ يعني: العمل الصالح، وفسره بعض السلف كعمرو بن ميمون بالجنة لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ يعني دخول الجنة حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ يعني من أموالكم، يقول: ولما نزلت قال أبو طلحة: "إن أحب أموالي إليّ هي بيرحاء، وإنها صدقة"[1].

وكان ابن عُمر يتصدق بالسكر، ويقول: "إني لأحبه"[2] هذا لم أجده في كتاب مسند، لكن يوجد مثل فعل أبي طلحة ثابت في الصحيحين[3].

وكذلك أيضًا ثبت عن غيره لما نزلت هذه الآية، فزيد بن حارثة جاء بفرس، وذكر أنها أفضل ما يملك، وجعلها في سبيل الله[4].

وكذلك أيضًا ابن عُمر - ا - كان له جارية يحبها من السبي، فأعتقها لله لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] جاء عن بعض أصحاب النبي ﷺ لما نزلت هذه الآية مثل هذا الصنيع. 

  1. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب، برقم (1461) ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل النفقة، والصدقة على الأقربين، والزوج، والأولاد، والوالدين، ولو كانوا مشركين، برقم (998).
  2. لم أقف عليه.
  3. كما في قصة بيرحاء.
  4. تفسير الطبري (5/576، 577).