روى الإمام أحمد عن ابن عباس - ا - قال: حضرت عصابة من اليهود نبي الله ﷺ فقالوا: حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي، قال: سلوني عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله، وما أخذ يعقوب على بنيه لئن أنا حدثتكم شيئاًً فعرفتموه لتُتابعنّي على الإسلام".
هذه الآية كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ [سورة آل عمران:93] كلام أهل العلم فيها متقارب، والآية ليس فيها إشكال فهي واضحة المعنى، لكن الحافظ ابن القيم - رحمه الله - ذكر أمراً أشار إلى أنه هو المقصود من سياق الآية، فعامة أهل العلم يقولون: إن هذه الآية ترد على اليهود لما زعموا أن يعقوب ﷺ حينما حرم على نفسه ألبان الإبل، ولحومها كان ذلك عندهم في التوراة فأكذبهم الله ، وأخبر أن جميع المطعومات كانت حلاً له، ولأولاده، ولكنه حرم ذلك على نفسه على سبيل النذر، وكان ذلك جائزاً في شريعتهم، ولم يحرمه الله - تبارك، وتعالى - عليه، ثم استن به بنوه فجانبوها، ولم يحرمها الله عليهم حتى نزلت التوراة، فحرم الله - تبارك، وتعالى - في التوراة أشياء على بني إسرائيل كما سيأتي، فأما هذه التي حرمها يعقوب ﷺ على نفسه لم تكن مما حرمه الله - تبارك، وتعالى - عليه، بل كان كل الطعام مما أحله الله لهم، ولم يكن ذلك محرماً بالتوراة، فالمقصود أن هذا هو المعنى الذي يدور حوله المفسرون، أي أنه ردَّ على اليهود هذه الدعوى، لكن ابن القيم - رحمه الله - ذكر معنىً، وفال: وقد حام حوله المفسرون لكنهم لم يصرحوا به، وهو أن ذكر الطعام كان مثالاً، وأن الآية ترد على اليهود فيما هو أبلغ من ذلك، وهو الرد عليهم حيث أنكروا نسخ الشرائع، وبناءً عليه قالوا: نحن متعبدون بالتوراة أبداً، يعني لا تنسخ إلى الأبد، ويأتون بنصوص يزعمون أنها من التوراة يحتجون بها على قولهم، ويقولون: إن التوراة لا تنسخ، وأن شريعة موسى ﷺ باقية إلى قيام الساعة، وكما هو معلوم أن اليهود أنكروا النسخ، وقالوا: إنه يستلزم البداء، وقد سبق الكلام عليه عند قوله تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [سورة البقرة:106] قالوا: يستلزم البداء، وقلنا: إن المقصود بالبداء: الظهور، والانكشاف بعد الخفاء، يعني كأنه بدا لله أمر لم يكن ظاهراً له، وإنما يحصل هذا لمن ليس له علم محيط بما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
فالمقصود أن اليهود أنكروا النسخ كما هو معروف، فهذه الآية ترد عليهم، تقول: أنتم في التوراة حرمت عليكم أشياء، وأشياء، كما قال الله : وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [سورة الأنعام:146] إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على تحريم أشياء عليهم لم تكن محرمة قبل التوراة على بني إسرائيل، فهذا برهان على النسخ، وأن التوراة نسخت أشياء، ولم يكن ذلك رفعاً للبراءة الأصلية بل كان ذلك مباحاً إباحةً شرعية، قال تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [سورة آل عمران:93]، ولو كان رفعاً للبراءة الأصلية لم يكن نسخاً، وقد عرفنا الفرق بين رفع البراءة الأصلية، وبين رفع الإباحة الشرعية.
هذا الحديث جمع بين الأمرين - بين الشبه، وبين الذكورة، والأنوثة -، وبيَّن أن ذلك مرتبط تمام الارتباط بهذا المعنى، وهذا ما لا يعرفه الأطباء، ولا يقرونه، ولا يعترفون به، ولم يصلوا إليه أصلاً، ولو أن أصحاب الإعجاز في الكتاب، والسنة جعلوا جهودهم منصبة على هذه الأشياء التي لا يحتاجون فيها إلى تفسير معاني القرآن، ومعاني السنة من غير علم لكان أنفع، وأحسن، يعني مثل حديث بول الجارية، وبول الغلام، بناءً على أن خصائص بول الغلام تختلف عن خصائص بول الجارية، فينضح من هذا، ويغسل من هذا، لو أجروا تحليلات، ودراسات، وكذا لكان أنفع بكثير، وكذلك هنا لو درسوا مثل ها الأشياء لكان أنفع.
ناقشت بعض الاستشاريين في هذا الجانب، يقولون: المرأة ما لها ماء أصلاً، وهذا قول الفلاسفة القدماء، وهو الذي عليه الأطباء، اليوم، وأظنهم يُجمعون عليه، إذ ما رأيت لأحد كلاماً يخالف هذا، وإنما يقولون: إن الخلق ليس له علاقة بماء المرأة حتى وإن فرضنا أن لها ماء، وإنما الذي يحصل هو أن البويضة تلقح، وينتهي كل شيء، فهذا الحديث يرد عليهم، ولذلك لما قيل للنبي ﷺ: أو تحتلم المرأة؟ قال النبي ﷺ: ففيمَ يشبهها ولدها؟[2].
وقوله: مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [سورة آل عمران:93] أي حرَّم ذلك على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، قلت: ولهذا السياق بعدما تقدم مناسبتان: إحداهما: أن إسرائيل حرم أحب الأشياء إليه، وتركها لله".
قوله: مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ يعني أنه لم يحرَّم على بني إسرائيل شيء قبل نزول التوراة، وهناك استثناء لم يكن بتحريم الله ، وإنما ما حرم يعقوب ﷺ على نفسه، فتابعه بنوه من غير تحريم الله عليهم، فنزلت التوراة، وحُرِّم فيها أشياء بسبب بغيهم، وظلمهم، كما قال الله : فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [سورة النساء:160]، فالتحريم ثابت بالتوراة حيث حرم عليهم أشياء كثيرة إلى درجة أن ذلك يثقل عليهم، ويشق عليهم، حتى إنك إذا نظرت إلى قوله تعالى: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [سورة الأنعام:146] تجد المشقة مفروضة عليهم بحيث إن الواحد منهم يحتاج إلى أن يستقصي في هذه الذبائح؛ لأن هذا يحل، وهذا لا يحل!!.
هذا الكلام يربط فيه ابن كثير - رحمه الله - بين هذه الآية، وبين التي قبلها، وهذا الوجه من الربط يقول فيه: إن الله قال لهذه الأمة: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:92]، ويعقوب ﷺ نذر لله أن يترك أحب الطعام، والشراب إليه، وهو لحوم الإبل، وألبانها.
فالمقصود أن يعقوب ﷺ تخلى عن أحب الطعام، والشراب إليه، ومعلوم أن الطعام، والشراب أحد الأطيبين، فالأطيبان عند العرب الطعام، والشراب، والنكاح، وبعضهم يقول غير هذا.
واللبن إذا أطلق في القرآن، والسنة، ولغة العرب فالمقصود به الحليب، وليس ما يطلق عليه اليوم عند المعاصرين، قال تعالى: لَّبَنًا خَالِصًا [سورة النحل:66].
المناسبة الثانية: لما تقدم السياق في الرد على النصارى، واعتقادهم الباطل في المسيح، وتبيين زيف ما ذهبوا إليه، وظهور الحق، واليقين في أمر عيسى ، وأمِّه، وكيف خلقه الله بقدرته، ومشيئته، وبعثَه إلى بني إسرائيل يدعو إلى عبادة ربه - تبارك، وتعالى - شرع في الرد على اليهود - قبحهم الله -، وبيان أن النسخ الذي أنكروا، وقوعه، وجوازه قد وقع، فإن الله تعالى قد نص في كتابهم التوراة...".
خلاصة وجه الارتباط بين الآيتين:
وجه الارتباط بين قوله: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ [سورة آل عمران:93] مع قوله في الآية التي قبلها: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:92] إما أن يقال: لما قرر - تبارك، وتعالى - أن الإنسان لن يبلغ العمل الطيب الصالح، والدرجات العالية، ودخول الجنة إلا بإنفاق ما يحب، ذكر لهم مثالاً على ذلك، وهو ما حصل من يعقوب ﷺ من تركه أحب الطعام، والشراب إليه على سبيل النذر لمّا أصابه عرق النسا.
وإما أن يقال - وهو الوجه الثاني -: إن الله لما رد على النصارى في الأمور التي سبقت، شَرَع في الرد على اليهود، فهو رد على النصارى في كذبهم، ودعاواهم أن المسيح هو ابن الله... إلى آخره، وشرع في الرد على اليهود، وهذه المناسبات هي محتملة، فهي وجه يستنبطه المفسر، أو يذكره المفسر بناءً على اجتهاده، ولذلك تجد أهل العلم يختلفون فيها، هذا يذكر مناسبة، وهذا يذكر مناسبة، ولا يُقطع بشيء من ذلك، وسبق الكلام على أن المناسبات إن كانت ظاهرة، بمعنى أنه يوجد ارتباط ظاهر فلا بأس، وأحياناً يصعب هذا، فيكون ذلك على سبيل التكلف، فهذا لا يلتفت إليه، فهذه الاحتمالات هي بسبب أن هذه القضايا يجتهد فيها المفسر فيلوح له وجه من الارتباط فيذكره، ويلوح لآخر وجه فيذكره، ولذلك تجد أن ما يذكرونه في المناسبات يتفاوت، ويختلف، ومن أهل العلم من أنكر هذا بالكلية، وقال: هذا من القول على الله بلا علم، وتكلُّف في التفسير، لذلك فإن الاعتدال في الأمور هو المطلوب.
وكان الله قد أذن لآدم في تزويج بناته من بنيه، وقد حُرِّم ذلك بعد ذلك، وكان التسري على الزوجة مباحاً في شريعة إبراهيم ، وقد فعله إبراهيم في هاجر لما تسرى بها على سارة، وقد حُرِّم مثل هذا في التوراة عليهم، وكذلك كان الجمع بين الأختين سائغاً، وقد فعله يعقوب جمع بين الأختين، ثم حُرِّم عليهم ذلك في التوراة، وهذا كله منصوص عليه في التوراة عندهم، وهذا هو النسخ بعينه، فكذلك فليكن ما شرعه الله للمسيح في إحلاله بعض ما حرم في التوراة، فما بالهم لم يتبعوه، بل كذبوه، وخالفوه، وكذلك ما بعث الله به محمداً ﷺ من الدين القويم، والصراط المستقيم، وملة أبيه إبراهيم ، فما بالهم لا يؤمنون، ولهذا قال تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [سورة آل عمران:93]".
يلاحظ الآن أن هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله - هو الذي أشار إليه ابن القيم حين قال: حام حوله المفسرون، ولم يصلوا إليه، وابن كثير ممن عاصر ابن القيم - رحمهما الله -، وقد استفاد من شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، ولذلك فإنه في المقدمة ذكر أشياء مما يتعلق ببعض أصول التفسير هي من كلام شيخ الإسلام، وإن لم يذكره، ولم يصرح به، فهو لاشك أنه استفاد من شيخ الإسلام كثيراً في هذا، وفي غيره، أما ابن القيم فلا أعرف إن كان قد استفاد منه، أم لا، لكنه معاصر له.
- أخرجه أحمد (2514) (ج 1 / ص 278)، والطبراني في الكبير (13045) (ج 12 / ص 246).
- أخرجه البخاري في كتاب العلم - باب الحياء في العلم (130) (ج 1 / ص 60)، ومسلم في كتاب الحيض - باب، وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها (313) (ج 1 / ص 251).