فقوله: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ [آل عمران:93] هذه الآية حملها بعض أهل العلم كالحافظ بن القيم - رحمه الله - على أنها ردٌ على اليهود في إنكارهم نسخ الشرائع[1] يقولون: بأن شريعتهم لا تُنسخ أبدًا، التوراة لا يتطرق إليها النسخ، رد الله - تبارك، وتعالى - عليهم قال: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ [آل عمران:93] وإسرائيل هو يعقوب كما هو معلوم.
قال: وهو لحم الإبل، ولبنها، ثم حُرّمت عليهم أنواعٌ من الأطعمة كالشحوم، وغيرها، عقوبةً لهم على معاصيهم، كانت الأطعمة حلالًا إلا ما حرم إسرائيل يعقوب على نفسه، الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: بأنها حُرمت عليهم بعد ذلك في التوراة، التي هي لحم الإبل، ولبنها[2] وابن جرير - رحمه الله - ذكر بأنه لم يُحرم عليهم شيءٌ من الأطعمة إلا ما حرمه إسرائيل، ثم أخذه بنوهم، واستنوا به، من غير تحريم الله عليهم ذلك بوحي[3] يعني: أنهم درجوا عليه، واقتدوا به في ذلك من غير أن يحرمه الله عليهم، يعني: لم يكن محرمًا في التوراة، لكن حرم عليهم أشياء في التوراة لم تكن مُحرمةً قبل ذلك في شريعة يعقوب - عليه الصلاة، والسلام - فهو كما قال الله - تبارك، وتعالى -: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [آل عمران:93] ثم حُرم عليهم بعد ذلك، كما قال الله : وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [الأنعام:146] وهكذا كما في قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160] هذا صريح في التحريم تحريم أشياء لم تكن مُحرمة قبل ذلك.
يقول: وفيها دليلٌ على جواز النسخ، ووقوعه؛ لأن الله حرم عليهم تلك الأشياء بعد حِلها، وهذا لاشك أنه مُتحقق، وقد ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - لذلك أمثلةً متنوعة[4] من ذلك: بأن الله أباح لنوح - عليه الصلاة، والسلام - دواب الأرض، ولم يكن ذلك جميعًا حلالًا لبني إسرائيل، وهكذا أن الله أذن لآدم في تزويج بناته من بنيه، ولم يكن ذلك حلالًا على بني إسرائيل، كذلك أن يعقوب جمع بين الأختين، ثم حُرم ذلك في التوراة، وهكذا في التسري أيضًا أن يجمع بين الأختين، كان ذلك مُحرمًا في التوراة.
يقول: وسبب تحريم إسرائيل لحوم الإبل على نفسه أنه مرض، فنذر إن شفاه الله أن يُحرم أحب الطعام إليه شكرًا لله، وتقرّبًا إليه.
كما في حديث ابن عباس - ا - قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله ﷺ فقالوا: يا أبا القاسم حدثنا عن خلالٍ، نسألك عنها لا يعلمهن إلا نبي، فكان فيما سألوه: أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه قبل أن تُنزل التوراة؟ قال: فأنشدهم بالله الذي أنزل التوراة على موسي، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضًا شديدًا، فطال سقمه فنذر لله نذرًا لئن شفاه الله من سقمه، ليحرمن أحب الشراب إليه، وأحب الطعام إليه[5] وفي روايةٍ: اشتكى عرق النسا، فلم يجد شيئًا يلائمه إلا لحوم الإبل، وألبانها، فلذلك حرمها قالوا: صدقت"[6] فهذا الذي حرمه إسرائيل على نفسه، فالشاهد أن هذا يتضمن الرد عليهم في باب النسخ، كانت الأطعمة حلالًا، فحرم الله في التوراة أشياء لم تكن مُحرمةً قبل ذلك.
قال: ويؤخذ من ذلك أنه يجوز للأنبياء أن يحرموا على أنفسهم باجتهادهم، هذا ليس على إطلاقه هذا يمكن أن يكون في السابق، لكن في هذه الشريعة قال الله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1] لما حرم - عليه الصلاة، والسلام - العسل، وفي روايةٍ أنه حرم الجارية[7].
يعني: أن من كذب على الله - تبارك، وتعالى - وأدعى أنه شرع لهم السبت، كما قال الحافظ بن كثير - رحمه الله -[8] والتمسك بالتوراة دائمًا، وأنه لم يبعث نبيًا آخر كما يزعمون، ويقولون: إن تحريم السبت مؤبد، أن الله هو الذي حرمه، وأن العمل بالتوراة أيضًا مستمر دائم لا يتطرق إليه نسخ، هكذا زعموا، فرد الله عليهم ذلك فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ [آل عمران:94].