السبت 27 / شوّال / 1446 - 26 / أبريل 2025
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَٰلَمِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"قال صاحب كتاب المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير - رحمهما الله تعالى جميعاً - في تفسير قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ۝ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [سورة آل عمران:96-97].
"يخبر تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ أي لعموم الناس لعبادتهم، ونسكهم، يطوفون به، ويصلون إليه، ويعتكفون عنده.
لَلَّذِي بِبَكَّةَ يعني الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل الذي يزعم كل من طائفتي النصارى، واليهود أنهم على دينه، ومنهجه، ولا يحجون إلى البيت الذي بناه عن أمر الله له في ذلك، ونادى الناس إلى حجه، ولهذا قال تعالى: مُبَارَكًا أي: وضع مباركاً، وهدىً للعالمين.
وقد روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال: المسجد الحرام قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة قلت: ثم أي؟ قال: ثم حيث أدركت الصلاة فصلِّ فكلها مسجد [وأخرجه البخاري، ومسلم][1]
وقوله تعالى: لَلَّذِي بِبَكَّةَ بكة من أسماء مكة على المشهور، قيل: سميت بذلك لأنها تبك أعناق الظلمة، والجبابرة، بمعنى أنهم يذلِّون بها، ويخضعون عندها، وقيل: لأن الناس يتباكون فيها أي: يزدحمون، وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة".

ففي قوله - تبارك، وتعالى - : إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ قال: أي لعموم الناس لعبادتهم، ونسكهم، هذا أمر معروف لا يحتاج إلى تدليل؛ لأن المقصود بالبيت الذي وضع للناس إنما وضع للعبادة، وإلا فإن البيوت موجودة منذ أن أنزل الله  آدم - عليه الصلاة، والسلام -، فالناس كما هو معلوم بحاجة إلى مساكن، وهذه قضية لا يكاد يختلف فيها المفسرون.
وفي قوله: لَلَّذِي بِبَكَّةَ يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - : "لأن الناس يتباكون فيها أي: يزدحمون" يعني في الطواف مثلاً، يقال: بكَّ القوم بعضهم بعضاً، أي تزاحموا، وهذا التعليل لتسمية بكة هو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وبعضهم يقول - كما ذكر الحافظ ابن كثير قبله -: لأنها تبكُّ الجبابرة، وبعض أهل العلم يقول: إن مكة، وبكَّة لغتان لشيء واحد، فبكَّة بمعنى مكة، وبعضهم يقول: إن بكَّة هي موضع البيت، ومكة للحرم بأجمعه لا يختص ذلك بالبيت، وبعضهم يقول: إن بكة اسم للمسجد، ومكة للحرم بأكمله، - والعلم عند الله  -.
"وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة: مكة، وبكة، والبيت العتيق، والبيت الحرام، والبلد الأمين، والمأمون، وأم رحم، وأم القرى، وصلاح، والعرش على، وزن بدر، والقادس لأنها تطهر من الذنوب، والمقدسة، والناسَّة - بالنون، وبالباء أيضاً -، والحاطمة، والنساسة، والرأس، وكوثا، والبلدة، والبنيَّة، والكعبة".
البَنيَّة اسم للكعبة، وفي كثير من الأخبار نجد من يحلف فيقول مثلاً: أقسم برب البَنيَّة.
وقال سفيان الثوري: هو كافر بهذه البَنيَّة إذا دخلها، وذلك لما توعده أبو جعفر المنصور، وجيء بالخشابين من أجل أن يصلب، وكان سفيان مستلقياً في حجر الفضيل بن عياض، فلما قالوا له: لا يشمت بنا أهل البدع قم، يعني توارى عن الناس، فقال: هو كافر برب هذه البَنيَّة إن دخلها أبو جعفر المنصور، فمات قبل أن يدخلها.
وعلى كل حال يقولون: إن الشيء إذا كان شريفاً كثرت أسماؤه، كما هو الحال في أسماء السيف، وفي أسماء الأسد، ونحو ذلك، وهذا ليس باطِّراد، فهناك أشياء لا شرف لها، ومع هذا لها أسماء كثيرة، لكن يمكن أن يقال: في الغالب إن الشيء إذا كان شريفاً كثرت أسماءه.
"وقوله تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ أي: دلالات ظاهرة أنه من بناء إبراهيم، وأن الله عظمه، وشرفه".

ذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - أن هذه الآيات تزيد على أربعين، وذكر الله منها هنا مقام إبراهيم، سواء كان المراد بمقام إبراهيم ﷺ هو موضع القدمين الذي هو على حاله إلى اليوم، إلا أن موضع الأصابع قد ذهبت من كثرة مس الناس له حينما كان ذلك متاحاً لهم، أما موضع القدم فهو هو، لا كما ظن بعض أهل العلم من أن ذلك إنما وضع كالرمز فحسب، وأن ذلك ليس هو موضع القدم، فهكذا فهم بعضهم من الأثر الوارد عن أنس لكن هذا فيه نظر، - والله تعالى أعلم -.
فعلى كل حال سواء قيل: إن مقام إبراهيم ﷺ موضع القدمين المعروف، أو كان المراد به مقامات إبراهيم ﷺ في الحج عموماً؛ لأن مقام إبراهيم مفرد أضيف إلى معرفة، ومعلوم أن المفرد إذا أضيف إلى معرفة فإنه يفيد العموم سواء كان ذلك من قبيل الإضافة إلى الضمير، كقوله: أَوْ صَدِيقِكُمْ [سورة النــور:61] يعني أو أصدقائكم، أو أضيف إلى اسم ظاهر كقوله تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ [سورة النحل:83]، أي: يعرفون نعم الله، فهذا قول مشهور، ومعروف لأهل العلم، وهو أن المراد بمقام إبراهيم أي مقاماته ﷺ في الحج، مثل: رمي الجمار، والسعي، والطواف، وما أشبه ذلك مما هو معلوم، فالآية تحتمل هذا، وهذا، وإن كان ذلك أظهر عند الإطلاق في موضع القدمين، ومثل هذا يقال أيضاً في قوله - تبارك، وتعالى -: وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125]، وعلى القراءة الأخرى: (واتَّخَذُوا من مقام إبراهيم مصلى) - بفتح التاء المشددة، وفتح الخاء من قوله: (واتخذوا) -.
فالأظهر في الآية أن المراد به موضع القدمين، وموافقة عمر - في هذا معروفة، حيث قال للنبي ﷺ: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت الآية موافقة لقول عمر .
 والقول الآخر في الآية: وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125] أي: متعبداً في السعي بين الصفا، والمروة، والطواف في البيت، ورمي الجمار، وما أشبه ذلك، وليس المقصود به الصلاة ذات الركوع، والسجود، - والله أعلم -.
"ثم قال تعالى: مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ، يعني الذي لما ارتفع البناء استعان به على رفع القواعد منه، والجدران، حيث كان يقف عليه، ويناوله ولده إسماعيل".

الحافظ ابن كثير - رحمه الله - اختار هذا القول؛ لأنه هو المتبادر عند الإطلاق، والقاعدة أن ما يتبادر عند الإطلاق مما هو ظاهر القرآن لا يصح العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه، إلا أن صاحب القول الآخر حمل ذلك على أعم معانيه بحيث يدخل فيه موضع القدمين فيكون أشمل، ويؤيد هذا أن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، وإذا احتملت الآية معنيين فأكثر، ولم يوجد مانع من حملها على هذه المعاني فإنها تحمل عليها، - والله أعلم -.
"وقد كان ملتصقاً بجدار البيت حتى أخره عمر بن الخطاب في إمارته إلى ناحية الشرق بحيث يتمكن الطُّوَّاف منه، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف، لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال: وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125]، وقد قدمنا الأحاديث في ذلك فأغنى عن إعادتها هاهنا، - ولله الحمد، والمنة -".

هل المقصود بالصلاة خلف المقام الصلاة في البقعة التي هو فيها، أو المقصود ذات المقام بحيث إذا أُبعد من مكانه، ووضع في جهة أخرى تصلى فيه؟
الأقرب، والله تعالى أعلم هو الثاني، وليس الأول، ولذلك لما قُدم أو أخر في عهد عمر ما كان الناس يصلون قبالة الموضع الذي نقل منه، وإنما صاروا يصلون خلفه، وهكذا، فالمقصود هو نفس هذا الحجر الذي فيه هذا الأثر.
"وقال العوفي عن ابن عباس - ا - في قوله: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ​​​​​​​ [سورة آل عمران:97] أي: فمنهن مقام إبراهيم، والمشعر".

هذا باعتبار المعنى الثاني الذي هو أعم، وهو أن المقصود مقامات إبراهيم ﷺ في الحج.
"وقال مجاهد: أثر قدميه في المقام آية بيِّنة، وكذا روي عن عمر بن عبد العزيز، والحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان، وغيرهم، وقال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة:
وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعلِ"
  1. أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب قول اله تعالى: وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [سورة ص:30] (3243) (ج 3 / ص 1260)، ومسلم في كتاب المساجد، ومواضع الصلاة (520) (ج 1 / ص 370).

مرات الإستماع: 0

"صَدَقَ اللَّهُ [آل عمران:95] أي: الأمر كما وصف، لا كما تكذبون أنتم. ففيه تعريضٌ بكذبهم."

صَدَقَ اللَّهُ [آل عمران:95] يعني: الأمر كما وصف، أي: كل ما شرعه كل ما أخبر به فهو صدق، ومن ذلك: إخباره بأنه لم يُحرم على اليهود شيئًا من الأطعمة، قبل نزول التوراة، وهكذا أيضًا في بيانه لملة إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:95] ما أخبر به فهو أحق خلافًا لمزاعمكم فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:95].

"فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:95] إلزامٌ لهم أن يسلموا، كما ثبت أن ملة الإسلام هي ملة إبراهيم التي لم يُحرم فيها شيءٌ مما هو مُحرمٌ عليهم إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ [آل عمران:96] أي أول مسجدٍ بُني في الأرض، وقد سأل أبو ذر النبي ﷺ أي مسجدٍ بُني أولًا؟ قال: المسجد الحرام، ثم بيت المقدس[1] وقال عليّ بن أبي طالب : "المعنى أنه أول بيتٍ وضع مباركًا، وهُدى، وقد كانت قبله بيوت"[2].

أول بيت وضع للناس الذين بمكة، كما في تقرير ملة إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - وشأن القبلة التي انحرفوا عنها، فكانوا يستقبلون التابوت ينقلونه في أسفارهم، ومغازيهم، فإذا أرادوا الصلاة وضعوه، واستقبلوه، وإذا كانوا قاريين في بيت المقدس وضعوه على الصخرة، فكانوا يستقبلون الصخرة، ما كانوا يستقبلون الكعبة، والذي بناها هو إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - الذين يدعون الانتساب إليه، وأنه منهم إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96].

يقول: وقد سأل أبو ذر النبي ﷺ أي مسجدٍ وُضع في الأرض أولًا؟ قال: المسجد الحرام، قال: قُلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قُلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعين سنة[3].

هذا الحديث فيه إشكال، وهو أن بين إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - وبين سليمان مدة طويلة تقرب من ألف سنة، إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - بنى الكعبة، والمشهور أن الذي بنى بيت المقدس مسجد الأقصى هو سليمان - عليه الصلاة، والسلام - الحديث هنا ذكر النبي ﷺ أن بينهما أربعين سنة، فجاوب العلماء عن هذا الإشكال: الطحاوي في "مُشكل الآثار" جمع بين الحديثين بالنظر إلى لفظ هذا الحديث.

 يقول أبو ذر سأل: أي: مسجد وضع أولًا؟ ولم يسأل عن البناء، وكان وضعه قبل بنائه[4] يعني: الذي حدد هذا الموضع هذه البقعة للعبادة، غير الذي بناه، فكان في التحديد ما بين الكعبة، والمسجد الأقصى هذه المدة أربعون سنة، لكن بعد ذلك بُني بناه سليمان  هذا جواب الطحاوي، فرق بين الوضع، والبناء، والحافظ بن القيم - رحمه الله - ذكر غير هذا، قال: بأن المسجد الأقصى الذي بناه يعقوب  - بعد أربعين سنة من بناء إبراهيم للكعبة، وأن سليمان جدد بنائه، ولم يكن هو الذي بناه أولًا[5].

يقول: وقال عليّ بن أبي طالب : المعنى أنه أول بيتٍ وضع مباركًا، وهُدى، وقد كانت قبله بيوت، وهنا قول على فيه، فأين كان قوم نوح؟ وأين كان قوم هود؟ قال: ولكنه "أول بيتٍ وضع مباركًا، يعني: كانت قبله بيوت يعني للعبادة.

يعني: قوم نوح كانوا يتعبدون، ويصلون، فأين كانوا يصلون قبل إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - وهكذا؟ هود، وصالح - عليهم الصلاة، والسلام - الأنبياء الذين كانوا قبل إبراهيم، كان الناس بعد آدم كما جاء ابن عباس - ا - على التوحيد عشرة قرون[6] فأين كانوا يصلون؟ هذا مقصود علي أنه كانت قبله بيوت، فما محمل هذا؟ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ [آل عمران:96] حمله على هذا المحمل، أول بيت موصوف بهذا الوصف، أنه مباركًا، وهدى، وإلا وجدت قبله بيوت، مع أن العلماء منهم من يقول: بأن الكعبة بُنيت قبل إبراهيم  ولكن إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - هو الذي أعاد البناء، يذكرون هذا قبله في أزمان طويلة هذا على خلافٍ بينهم.

وبعضهم يقول: بناها الملائكة، وبعضهم يقول: بناها آدم فلما جاء الطوفان زالت، إلى غير ذلك من الأقوال، والمشهور أن الذي بناها أولًا هو إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام -. 

وقوله - تبارك، وتعالى -: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [البقرة:127] بعضهم يقول: القواعد كانت موجودة قبل ذلك، وإنما رفعها، رفع البناء، فعلى قول هؤلاء يكون ذلك مقدمًا على ما جاء عن علي أنه كان قبله بيوت، يقول: هو المتقدم، وذلك قبل زمن إبراهيم  - عليه الصلاة، والسلام - يعني: هؤلاء الأنبياء نوح، ونحو ذلك أنه وُجد بناء الكعبة قبلهم - والله أعلم -.

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96] الطحاوي يقول: الآية فيها الوضع، وليس فيها البناء[7].

"بِبَكَّةَ [آل عمران:96] قيل: هي مكة، والباء بدلٌ من الميم، وقيل: مكة الحرم كله، وبكة المسجد، وما حوله."

الحافظ ابن كثير يقول: بأن بكة هي مكة[8] العدول عن مكة إلى بكة علله بعض أهل العلم كالطاهر بن عاشور، لم يذكر الاسم المشهور الكعبة مثلًا، وإنما قال: لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96] قال: "دفعًا لتوهم غيره، فقد أُطلق اسم الكعبة على القليس الذي بناه ملك الحبشة في صنعاء لدين النصرانية، سماه لقبوه: بالكعبة اليمانية"[9] حتى لا يلتبس هذا قول الطاهر بن عاشور، قال: لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96] تمييزًا له لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96] قيل: هي مكة، والباء بدل الميم، بعضهم يقول: إنها سُميت مكة؛ لقلة ما بها، أو قيل لها: بكة أيضًا بواديٍ غير ذي ذرع، وبعضهم يقول: لأنها تمُك مكة، تمُك المخ من العظم بما ينال ساكنها من اللأواء، والمشقة مكة، وقيل: لأنها تمُك من ظلم أي تُهلكه من المك - والله أعلم -.

لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96] وذكر الحافظ بن كثير - رحمه الله - أن لها واحدًا، وعشرين اسمًا[10].

وقد ذكر بعض أهل العلم منهم السيوطي أن العرب، أو أن كثرة الأسماء، أسماء الشيء تدل على شرفه، لكن هذا ليس على إطلاقه كثرة الأسماء في دلالتها على شرف الشيء، يعني أسماء الله - تبارك، وتعالى - كثيرة، أسماء النبي ﷺ أسماء السيف هذه كثيرة، لكن هناك أشياء ليس لها شرف، ولها أسماء كثيرة، كأسماء الحية، بل أسماء الكلب، يُذكر أن أبا العلاء المعري كان يمشي في المسجد، فعثر برجل نائم فقال هذا النائم: من هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء، وهو أعمى البصر، والبصيرة قال: "الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا"[11].

أبو العلاء المعري صاحب أدب، ولغة، الكلب ليس له شرف، ومع ذلك كثُرت أسمائه، السيوطي عند هذه الواقعة ألف رسالة قد أوصل بعضهم كتب السيوطي إلى ستمائة كتاب، فألف رسالة سماها: "التبري من معرة المعري" يعني حتى لا يلحقه هذا الوصف أنه لا يعرف للكلب سبعين اسمًا، فألف هذه الرسالة، وزاد على السبعين في أسمائه، ثم نظم أسماء الكلب[12] طبعًا هم يطلقون الكلب على إطلاق واسع، الكلب المعروف، ويُدخلون معه الذئب، والأسد، ونحو ذلك، وجمع أسماء هذه، وزادت على المائة.

فالمقصود أن هذا ليس له شرف، ما كل ذي أسماء كثيرة شريفًا، قال: والباء بدلٌ من الميم، يعني بكة هي مكة، وأُبدلت الميم بالباء، فقيل: بكة، والعرب تُعاقب بين الباء، والميم في مواضع، فيقولون مثلًا: لازم، ولازب، فهما لغتان، وبعضهم يُفرق، ويقول: بأن بكة اسمٌ لبطن مكة، أو أنه مكان البيت، وبعض أهل اللغة يقولون: إن أصل المادة بكك يدل على التزاحم، والجمع، والمغالبة، وأن البك هو دق العنق، ومن ثم يذكرون لها تعليلات لهذه التسمية بناءً على ذلك؛ كقول بعضهم: بأنها قيل لها بكة بالباء لتزاحم الناس، وللتدافع في الطواف، كما يقول ابن جرير - رحمه الله - قيل لها: بكة؛ لأن الناس يبكوا بعضهم بعضًا[13] يتدافعون، والتدافع، والتزاحم قديم.

وبعضهم يقول: قيل لها بكة؛ لأنها تبك، يعني: تدق أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم، أو لأنهم يخضعون عندها - والله أعلم - وعلى كل حال بكة اسمٌ من أسماء مكة يقال: مكة، وبكة.

يقول: وقيل: مكة الحرم كله، وبكة المسجد، وما حوله، وبعضهم يقول: بكة هي موضع البيت.

"مُبارَكًا نصبٌ على الحال، والعامل فيه على قول عليّ: وضع مبارك[14] وفي النسخة الخطية: والعامل فيه على قول علي وضع؛ لأنه حال من الضمير الذي فيه."

هذا الأثر عن علي  إن أول بيتٍ وضع مباركاً، صححه الحافظ ابن حجر في الفتح[15] وقال عنه الشيخ أحمد شاكر: "فيه مجالد بن سعيد، وهو حسن الحديث"[16].

قال: مُبارَكًا نصبٌ على الحال، والعامل فيه على قول عليّ: وضع، يعني: وضع حال كونه مباركًا، أو مقيد بهذا القيد على قول علي وهذا الذي اختاره ابن كثير - رحمه الله -[17] يعني أنه منصوبٌ على الحال، وأن العامل فيه،وضع مباركًا، على أنه حالٌ من الضمير الذي فيه، وعلى القول الأول هو حالٌ من الضمير المجرور، والعامل فيه العامل المجرور من معنى الاستقرار، يعني: العامل في الحال قال: العامل المجرور، يعني العامل فيه ببكة، يعني يقول هنا من معنى الاستقرار، يعني: استقر ببكة، استقر، هذا معنى الكلام على قول هذا: استقر إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96] أي استقر ببكة مباركًا، يعني: في حال بركته، وعلى القول الأول هو حالٌ من الضمير المجرور، والعامل فيه إلى آخره، يعني: هذا باعتبار أنه هو أول مسجد بُني في الأرض إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ استقر ببكة بحال بركته.

"مُبارَكًا على أنه حال من الضمير الذي فيه، وعلى القول الأول: هو حالٌ من الضمير المجرور، وفي النسخة الخطية: هو حال من الضمير الذي في المجرور، والعامل فيه العامل المجرور، وفي النسخة الخطية: والعامل فيه العامل في المجرور من معنى الاستقرار." 

يعني: لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96] لا الذي استقر ببكة.

  1.  - أخرجه أحمد في المسند، برقم (21468) وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  2.  - تفسير الطبري (5/590).
  3.  - أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، برقم (3366) ومسلم، كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، برقم (520).
  4.  - انظر: شرح مشكل الآثار (1/109).
  5.  - انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (1/50).
  6.  - أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (3654) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه" وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (3289).
  7.  - انظر: شرح مشكل الآثار (1/109).
  8.  - تفسير ابن كثير (2/78).
  9.  - التحرير، والتنوير (4/13).
  10.  - تفسير ابن كثير (2/78).
  11.  - التبري من معرة المعري (ص:1، بترقيم الشاملة آليا).
  12.  - التبري من معرة المعري (ص:1، بترقيم الشاملة آليا).
  13.  - تفسير الطبري (5/594).
  14.  - المصدر السابق (5/590).
  15.  - فتح الباري لابن حجر (6/408).
  16.  - عمدة التفسير، اختصار تفسير ابن كثير للعلامة أحمد شاكر (1/361).
  17.  - تفسير ابن كثير (2/77).