"يخبر تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ أي لعموم الناس لعبادتهم، ونسكهم، يطوفون به، ويصلون إليه، ويعتكفون عنده.
لَلَّذِي بِبَكَّةَ يعني الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل الذي يزعم كل من طائفتي النصارى، واليهود أنهم على دينه، ومنهجه، ولا يحجون إلى البيت الذي بناه عن أمر الله له في ذلك، ونادى الناس إلى حجه، ولهذا قال تعالى: مُبَارَكًا أي: وضع مباركاً، وهدىً للعالمين.
وقد روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال: المسجد الحرام قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة قلت: ثم أي؟ قال: ثم حيث أدركت الصلاة فصلِّ فكلها مسجد [وأخرجه البخاري، ومسلم][1]
وقوله تعالى: لَلَّذِي بِبَكَّةَ بكة من أسماء مكة على المشهور، قيل: سميت بذلك لأنها تبك أعناق الظلمة، والجبابرة، بمعنى أنهم يذلِّون بها، ويخضعون عندها، وقيل: لأن الناس يتباكون فيها أي: يزدحمون، وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة".
ففي قوله - تبارك، وتعالى - : إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ قال: أي لعموم الناس لعبادتهم، ونسكهم، هذا أمر معروف لا يحتاج إلى تدليل؛ لأن المقصود بالبيت الذي وضع للناس إنما وضع للعبادة، وإلا فإن البيوت موجودة منذ أن أنزل الله آدم - عليه الصلاة، والسلام -، فالناس كما هو معلوم بحاجة إلى مساكن، وهذه قضية لا يكاد يختلف فيها المفسرون.
وفي قوله: لَلَّذِي بِبَكَّةَ يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - : "لأن الناس يتباكون فيها أي: يزدحمون" يعني في الطواف مثلاً، يقال: بكَّ القوم بعضهم بعضاً، أي تزاحموا، وهذا التعليل لتسمية بكة هو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وبعضهم يقول - كما ذكر الحافظ ابن كثير قبله -: لأنها تبكُّ الجبابرة، وبعض أهل العلم يقول: إن مكة، وبكَّة لغتان لشيء واحد، فبكَّة بمعنى مكة، وبعضهم يقول: إن بكَّة هي موضع البيت، ومكة للحرم بأجمعه لا يختص ذلك بالبيت، وبعضهم يقول: إن بكة اسم للمسجد، ومكة للحرم بأكمله، - والعلم عند الله -.
"وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة: مكة، وبكة، والبيت العتيق، والبيت الحرام، والبلد الأمين، والمأمون، وأم رحم، وأم القرى، وصلاح، والعرش على، وزن بدر، والقادس لأنها تطهر من الذنوب، والمقدسة، والناسَّة - بالنون، وبالباء أيضاً -، والحاطمة، والنساسة، والرأس، وكوثا، والبلدة، والبنيَّة، والكعبة".
البَنيَّة اسم للكعبة، وفي كثير من الأخبار نجد من يحلف فيقول مثلاً: أقسم برب البَنيَّة.
وقال سفيان الثوري: هو كافر بهذه البَنيَّة إذا دخلها، وذلك لما توعده أبو جعفر المنصور، وجيء بالخشابين من أجل أن يصلب، وكان سفيان مستلقياً في حجر الفضيل بن عياض، فلما قالوا له: لا يشمت بنا أهل البدع قم، يعني توارى عن الناس، فقال: هو كافر برب هذه البَنيَّة إن دخلها أبو جعفر المنصور، فمات قبل أن يدخلها.
وعلى كل حال يقولون: إن الشيء إذا كان شريفاً كثرت أسماؤه، كما هو الحال في أسماء السيف، وفي أسماء الأسد، ونحو ذلك، وهذا ليس باطِّراد، فهناك أشياء لا شرف لها، ومع هذا لها أسماء كثيرة، لكن يمكن أن يقال: في الغالب إن الشيء إذا كان شريفاً كثرت أسماءه.
ذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - أن هذه الآيات تزيد على أربعين، وذكر الله منها هنا مقام إبراهيم، سواء كان المراد بمقام إبراهيم ﷺ هو موضع القدمين الذي هو على حاله إلى اليوم، إلا أن موضع الأصابع قد ذهبت من كثرة مس الناس له حينما كان ذلك متاحاً لهم، أما موضع القدم فهو هو، لا كما ظن بعض أهل العلم من أن ذلك إنما وضع كالرمز فحسب، وأن ذلك ليس هو موضع القدم، فهكذا فهم بعضهم من الأثر الوارد عن أنس لكن هذا فيه نظر، - والله تعالى أعلم -.
فعلى كل حال سواء قيل: إن مقام إبراهيم ﷺ موضع القدمين المعروف، أو كان المراد به مقامات إبراهيم ﷺ في الحج عموماً؛ لأن مقام إبراهيم مفرد أضيف إلى معرفة، ومعلوم أن المفرد إذا أضيف إلى معرفة فإنه يفيد العموم سواء كان ذلك من قبيل الإضافة إلى الضمير، كقوله: أَوْ صَدِيقِكُمْ [سورة النــور:61] يعني أو أصدقائكم، أو أضيف إلى اسم ظاهر كقوله تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ [سورة النحل:83]، أي: يعرفون نعم الله، فهذا قول مشهور، ومعروف لأهل العلم، وهو أن المراد بمقام إبراهيم أي مقاماته ﷺ في الحج، مثل: رمي الجمار، والسعي، والطواف، وما أشبه ذلك مما هو معلوم، فالآية تحتمل هذا، وهذا، وإن كان ذلك أظهر عند الإطلاق في موضع القدمين، ومثل هذا يقال أيضاً في قوله - تبارك، وتعالى -: وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125]، وعلى القراءة الأخرى: (واتَّخَذُوا من مقام إبراهيم مصلى) - بفتح التاء المشددة، وفتح الخاء من قوله: (واتخذوا) -.
فالأظهر في الآية أن المراد به موضع القدمين، وموافقة عمر - في هذا معروفة، حيث قال للنبي ﷺ: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت الآية موافقة لقول عمر .
والقول الآخر في الآية: وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125] أي: متعبداً في السعي بين الصفا، والمروة، والطواف في البيت، ورمي الجمار، وما أشبه ذلك، وليس المقصود به الصلاة ذات الركوع، والسجود، - والله أعلم -.
الحافظ ابن كثير - رحمه الله - اختار هذا القول؛ لأنه هو المتبادر عند الإطلاق، والقاعدة أن ما يتبادر عند الإطلاق مما هو ظاهر القرآن لا يصح العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه، إلا أن صاحب القول الآخر حمل ذلك على أعم معانيه بحيث يدخل فيه موضع القدمين فيكون أشمل، ويؤيد هذا أن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، وإذا احتملت الآية معنيين فأكثر، ولم يوجد مانع من حملها على هذه المعاني فإنها تحمل عليها، - والله أعلم -.
هل المقصود بالصلاة خلف المقام الصلاة في البقعة التي هو فيها، أو المقصود ذات المقام بحيث إذا أُبعد من مكانه، ووضع في جهة أخرى تصلى فيه؟
الأقرب، والله تعالى أعلم هو الثاني، وليس الأول، ولذلك لما قُدم أو أخر في عهد عمر ما كان الناس يصلون قبالة الموضع الذي نقل منه، وإنما صاروا يصلون خلفه، وهكذا، فالمقصود هو نفس هذا الحجر الذي فيه هذا الأثر.
هذا باعتبار المعنى الثاني الذي هو أعم، وهو أن المقصود مقامات إبراهيم ﷺ في الحج.
وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة | على قدميه حافياً غير ناعلِ" |
- أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب قول اله تعالى: وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [سورة ص:30] (3243) (ج 3 / ص 1260)، ومسلم في كتاب المساجد، ومواضع الصلاة (520) (ج 1 / ص 370).