السبت 27 / شوّال / 1446 - 26 / أبريل 2025
فِيهِ ءَايَٰتٌۢ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَٰلَمِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [سورة آل عمران:97]، يعني حرم مكة، إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء، وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية، كما قال الحسن البصري، وغيره: كان الرجل يقتل، فيضع في عنقه صوفة، ويدخل الحرم، فيلقاه ابن المقتول، فلا يهيجه حتى يخرج".

من الآيات التي ذكرها بعض أهل العلم عند قوله تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [سورة آل عمران:97] إضافة إلى مقام إبراهيم ﷺ أنهم قالوا: إذا كان الغيث بناحية الركن اليماني، كانت الخصوبة في اليمن، وإن كان في ناحية الركن الشامي كانت الخصوبة في الشام، وإذا عمَّ البيت فالخصوبة في الجميع، وذكروا أيضاً أشياء أخرى بعضها لا يثبت كقولهم: إن الطيور لا تمر فوق البيت، وهذا غير صحيح.
وقوله تعالى: وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [سورة آل عمران:97] يعني حرم مكة إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء، وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية.
وهذه الآية: وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [سورة آل عمران:97] تحتمل أن تكون على سبيل الخبر، بمعنى أن ذلك يكون من قبيل الأمر الكوني القدري، وهذا فيه بعد، بل هو بعيد غاية البعد؛ لأن الواقع يخالفه، ويحتمل أن يكون ذلك من قبيل الخبر من ناحية الصياغة، يعني الصيغة صيغة خبر لكنه متضمن للإنشاء، يعني متضمن للأمر، أي هو أمر في صيغة الخبر، والمعنى: من دخله فأمِّنوه، وهذا مثل قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ [سورة البقرة:233] أي على الوالدات أن يرضعن أولادهن، وقوله: وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [سورة آل عمران:97]، أي من دخل البيت الحرام يجب أن يؤمَّن، والأقرب في معنى الآية أنها بمعنى الإنشاء.
والعلماء تكلموا كثيراً فيمن جنى جناية في الحرم هل يؤخذ أم لا؟ وكذلك فيمن جنى جناية خارج الحرم ثم دخل إلى الحرم، وتكلموا أيضاً عما إذا حصل من طائفة من الناس بغي في الحرم هل تُقاتل، أم لا تقاتل؟ فكلام أهل العلم معروف في هذا، يقول أبو حنيفة: يضيق عليه حتى يخرج، ومنهم من يقول: إنه يؤخذ، ولعل هذا يأتي - إن شاء الله تعالى - عند الكلام على الأشدق لما كان أميراً على المدينة، وكان يجيش الجيوش إلى مكة.
وقد أخذ بعض أهل العلم من حديث: خمس فواسق يقتلن في الحل، والحرم[1]، أن هذه لما كان من عادتها التعدي فإنها تقتل، ولو كان ذلك في الحرم مع أنها مجبولة على ذلك، بمعنى أن هذه طبيعتها، وليس لها عقل، وليس عليها تكليف، فكيف بالإنسان الذي هو مكلف، ومؤاخذ، وعلى كل حال ليس هذا موضع الكلام على مثل هذه القضايا بالتفصيل، لكن قصدنا الإشارة إلى أن المراد بقوله: وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [سورة آل عمران:97]، أي هكذا ينبغي أن تكون الحال، ولكن هذا لا يعني أن من جنى جناية لا يؤخذ، بل الأقرب، - والله تعالى أعلم - أنه يؤخذ، ولا يترك.
"وقال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ الآية [سورة العنكبوت:67]، وقال تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ۝ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ [سورة قريش:3 - 4]، وحتى إنه من جملة تحريمها حرمة اصطياد صيدها، وتنفيره عن أوكاره، وحرمة قطع شجرها، وقلع حشيشها، كما ثبتت الأحاديث، والآثار في ذلك عن جماعة من الصحابة مرفوعاً، وموقوفاً، ففي الصحيحين، واللفظ لمسلم عن ابن عباس - ا­ - قال: قال رسول الله ﷺ يوم الفتح - فتح مكة -: لا هجرة، ولكن جهاد، ونية، وإذا استنفرتم فانفروا[2].
وقال يوم الفتح - فتح مكة -: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات، والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر فإنه لقينهم، ولبيوتهم، فقال: إلا الإذخر[3]".

القين: يعني الصناع، والمعنى ليتخذ ذلك في الصناعة فالحداد مثلاً يحتاج أن يوقد به من أجل أن يقوم بالحدادة، وصناعة المعادن.
قال: "ولبيوتهم"، أي يستخدم في بناء البيوت، وكذلك القبور، فيوضع فوق الخشب في بناء البيوت - وهذا في البيوت القديمة كما هو معروف -،  ثم يوضع فوقه الطين، وذلك لأجل سد الفراغات، كما يوضع أيضاً في القبور؛ لأن رائحته طيبة، ومن أجل سد الفراغات في القبر حيث يوضع الإنسان في اللحد، ثم يوضع اللَّبِن، فمن أجل رص هذا اللَّبِن يستعملون هذا، كما أنه يستخدم في الصناعة إذا يبس، ولذلك أخذ بعض أهل العلم من هذا الحديث أن ذلك في الرطب، واليابس، فقول النبي ﷺ: ولا يختلى خلاها يعني الحشيش مطلقاً، وبعضهم قيَّده بالرطب، وأما اليابس فقد قال النبي ﷺ: لا يعضد شوكه مع أن الإمام الشافعي - رحمه الله - يقول: لا بأس بقطعه لأنه يؤذي، أي مثل ما أباح النبي ﷺ قتل الفواسق لأذيتها، فهذا كذلك، والحديث ظاهر في أنه لا يقطع شوكه.
لكن قوله: ولا يختلى خلاها - على القول بأنه الحشيش الرطب - أخذ منه بعض أهل العلم من جهة مفهوم المخالفة أن اليابس لا بأس به، ومن منع من هذا استدل بهذا الحديث، وهو أنه لقينهم، والذي يوقدون عليه إنما هو اليابس بدون شك، ومن قال بأنه لا بأس باليابس، قال: هذا أصلاً ميت مثل ما لو وجد الصيد ميتاً.
"ولهما، واللفظ لمسلم أيضاً عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد، وهو يبعث البعوث إلى مكة.."

عمرو بن سعيد هذا هو الأشدق الذي ذكرته آنفاً، كان أميراً على المدينة، ويبعث البعوث لقتال عبد الله بن الزبير.
"أنه قال لعمرو بن سعيد، وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولاً قام به رسول الله ﷺ الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به: إنه حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحلُّ لامرئ يؤمن بالله، واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخَّص بقتال رسول الله ﷺ فيها فقولوا له: إن الله أذن لرسوله، ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب فقيل لأبي شريح ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصياً، ولا فارّاً بدم، ولا فارَّاً بخربة[4]".

قوله: "بخربة"، بكسر الراء، وبعضهم يضبطها بفتحها، والمراد بها الجناية، وهنا يقصد أن ابن الزبير ألحد في الحرم، أو لاذ بجناية بالحرم، واستعصم بالبيت، فهو رأى أنه يجوز قتاله لهذا المعنى.
"وعن جابر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح[5]، [رواه مسلم].
وعن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهرى أنه سمع رسول الله ﷺ يقول، وهو واقف بالحرورة في سوق مكة.."

هذا سوق مكة قديماً، ودخل في الحرم منذ زمن طويل.
"والله إنكِ لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت[6]، [رواه الإمام أحمد، وهذا لفظه، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح].
وقوله: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [سورة آل عمران:97] هذه آية، وجوب الحج، وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام، ودعائمه، وقواعده".

هذا لاشك فيه، والحافظ ابن القيم - رحمه الله - أخذ من هذه الآية الدلالة على وجوب الحج من نحو عشرة أوجه، والأدلة كما ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - كثيرة.
وقوله تبارك في الآية الأخرى: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [سورة البقرة:196] ربما فهم منها بعضهم أن المأمور به الإتمام، وليس الابتداء، وهذا غير صحيح أصلاً لا في نفس الآية، ولا بالنظر إلى الآيات، والنصوص، والأحاديث الأخرى.
فالآية وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [سورة البقرة:196] يمكن أن يقال: إن الأصل لما كان ثابتاً معلوماً عندهم، وإنما وقع الإخلال من جهة النقص، والتبديل، حيث كان الحمس -، وهم قريش، ومن ولدت - يقفون في طرف الحرم، ولا يخرجون إلى عرفة كان ذلك من قبيل النقص في حجهم، قال الله : وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [سورة البقرة:196] فهم لم يكونوا يجادلون في مشروعية الحج، وفي وجوبه؛ إذ كانوا على بقية من دين إبراهيم ﷺ، ولهذا فإنه لما كان الأصل مقرراً عندهم جاء الأمر بما وقع فيه اللبس، والنقص، وهذه طريقة معروفة يتكلم بها العرب، ويعبرون بمثل هذا فيما يُحتاج إليه، يعني أن البيان إنما يكون فيما يحتاج إليه فحسب، أما أن يتكلم على الأشياء المقررة الواضحة التي لا يجادلون فيها، فهذا تطويل للكلام من غير حاجة.
"وأجمع المسلمون على ذلك إجماعاً ضرورياً، وإنما يجب على المكلف في العمر مرة واحدة بالنص، والإجماع.
روى الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله ﷺ فقال: أيها الناس قد فُرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله ﷺ: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه [ورواه مسلم نحوه][7]".

قوله ﷺ: قد فرض عليكم الحج أي كتب عليكم، وأُلزمتم به؛ ويدل على ذلك سؤال الرجل، وكذلك قول النبي ﷺ: لو قلت نعم لوجبت، وأذكر هذا المعنى لأمر، وهو أن لفظة الفرض شاع في اصطلاح المتأخرين أنها بمعنى الإيجاب، وعند الحنفية آكد من الواجب، يعني ما ثبت بدليل قطعي، مع أن هذا ليس هو المتبادر، أو الاصطلاح المتعارف عند المخاطبين بالقرآن، فإن لفظة الفرض قد تدل على معانٍ أخرى، فمثلاً: يقول الله تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [سورة التحريم:2] فهنا ليس معناها الإيجاب، وإنما معناها الإباحة، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [سورة الأحزاب:50]، فلفظة "فرض" تأتي بمعنى التشريع، والإباحة، والإيجاب، فليس المعنى المتبادر لها في الاصطلاح العرفي عند المتقدمين الذين خوطبوا بالقرآن الإيجاب، ولذلك لا نستعجل كلما رأينا لفضة "فرض" في القرآن فنقول: هو بمعنى الوجوب، فهذا اصطلاح متأخر، ولا يجوز حمل ألفاظ القرآن، ومعانيه على اصطلاح حادث، لكن ينظر إلى السياق، والقرائن، فيحمل في كل موضع على ما يناسبه، ويليق به.
"وأما الاستطاعة فأقسام: تارة يكون الشخص مستطيعاً بنفسه، وتارة بغيره كما هو مقرر في كتب الأحكام".

قوله: "وتارة يكون بغيره"، يعني إذا كان الإنسان غنياً لكن لا يستطيع أن يصل إلى البيت بنفسه فإنه ينيب أحداً آخر ليحج عنه.
"روى أبو عيسى الترمذي عن ابن عمر - ا - قال: قام رجل إلى رسول الله ﷺ، فقال: من الحاج يا رسول الله؟ قال: الشعث التفل، فقام آخر فقال: أي الحج أفضل يا رسول الله؟ قال: العجُّ، والثجُّ، فقام آخر فقال: ما السبيل يا رسول الله؟ قال: الزاد، والراحلة، وهكذا رواه ابن ماجه[8]".

هذا الحديث الذي يبين أن الزاد، والراحلة هي الاستطاعة، الكلام فيه معروف، وهو أن الحديث فيه ضعف، أو هذه الرواية فيها ضعف، وعلى كل حال فإن الاستطاعة في قوله تعالى: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [سورة آل عمران:97] الأقرب - والله أعلم - أنها تحمل على أعم المعاني، ولا يختص ذلك بالمال، أو بالراحلة، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -،  فقد يكون الإنسان من أهل مكة، أو ممن جاورها فلا يحتاج إلى راحلة؛ لأنه ذو قوة، ونشاط، وقدرة يستطيع المشي في المشاعر، فمثل هذا يجب عليه الحج، فالمقصود أن الاستطاعة هنا لم تحد بحد معين، فتحمل على أعم المعاني؛ لأنه قد يكون أيضاً عند الإنسان الراحلة، والزاد، وعنده المال، ولكن الطريق غير مأمون، وتوجد مخاوف لا يستطيع معها الوصول إلى الحج، فهذا غير مستطيع، وقد يكون عنده الزاد، والراحلة، ولكنه ضعيف البدن كأن يكون هرماً، أو مريضاً، فمثل هذا غير مستطيع، وقد يكون صحيحاً قوياً، وعنده الزاد، والراحلة لكن هذا المكلف امرأة ليس لها محرم فإنها على الأرجح يسقط عنها الحج بالنفس، وبالتالي إذا كانت قادرة بمالها فإنه يجب عليها أن تنيب من يحج عنها، وهكذا مسألة الاستطاعة يدخل فيها كل هذه الأمور.
"وروى الحاكم عن أنس أن رسول الله ﷺ سئل عن قول الله : مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [سورة آل عمران:97] فقيل: ما السبيل؟ قال: الزاد، والراحلة ثم قال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه [9].
وروى أحمد أيضاً عن ابن عباس - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: من أراد الحج فليتعجل [ورواه أبو داود][10].
وقوله تعالى: وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [سورة آل عمران:97]، قال ابن عباس - ا­ -، ومجاهد، وغير واحد: أي:، ومن جحد فريضة الحج فقد كفر، والله غني عنه".

هذه الآية لها نظائر في كتاب الله، منها: قوله تعالى: وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [سورة إبراهيم:8]، وفي سورة الزمر يقول تعالى: إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ [سورة الزمر:7]، ويقول تعالى: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ [سورة التغابن:6].
يقول: "وقوله تعالى: وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [سورة آل عمران:97]، قال ابن عباس - ا­ -، ومجاهد، وغير واحد: أي:، ومن جحد فريضة الحج فقد كفر، والله غني عنه"، خص هنا الكفر بنوعٍ منه، وهو جحد هذا العمل، أو العبادة التي شرعها الله ، وبينها غاية البيان، وألزم المكلفين بها، قال تعالى: وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ أي: من جحد فرضه فإن الله غني عنه.
ومثل هذه الآية يستدل بها أيضاً من يقول: إن تارك الحج، وهو قادر يكفر، ومعلوم ما جاء عن عمر : "ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين"، وعلى كل حال فالقول بأن قوله: وَمَن كَفَرَ أي من جحد فرضية الحج فقد كفر هو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله تعالى -.
"وقد روى أبو بكر الإسماعيلي الحافظ عن عمر بن الخطاب قال: من أطاق الحج فلم يحج، فسواء عليه يهودياً مات، أو نصرانياً، وهذا إسناد صحيح إلى عمر ".

على كل حال من أهل العلم من حمل الآية على ظاهرها، ومنهم من قال: إن هذا على سبيل التغليظ لتأكيد الحج، وبيان أهميته، وعظمه، ومكانته.
  1. أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق - باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (3136) (ج 3 / ص 1204) ومسلم في كتاب الحج - باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل، والحرم (1198) (ج 2 / ص 856) ولفظ: في الحل والحرم لمسلم.
  2. أخرجه البخاري في  أبواب الإحصار وجزاء الصيد - باب لا يحل القتال بمكة (1737) (ج 2 / ص 651) ومسلم في كتاب الحج - باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام (1353) (ج 2 / ص 986).
  3. أخرجه البخاري في أبواب الإحصار وجزاء الصيد -  باب لا يحل القتال بمكة (1737) (ج 2 / ص 651) ومسلم في كتاب الحج - باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام (1353) (ج 2 / ص 986).
  4. أخرجه البخاري في كتاب العلم - باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب (104) (ج 1 / ص 51) ومسلم في كتاب الحج - باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام (1354) (ج 2 / ص 987).
  5. أخرجه مسلم في كتاب الحج - باب النهي عن حمل السلاح بمكة بلا حاجة (1356) (ج 2 / ص 989).
  6. أخرجه الترمذي في كتاب المناقب -  باب في فضل مكة (3925) (ج 5 / ص 722) وابن ماجه في كتاب المناسك - باب فضل مكة (3108) (ج 2 / ص 1037) والنسائي في السنن الكبرى في كتاب الحج – باب فضل مكة (4252) (ج 2 / ص 479) وأحمد (18737) (ج 4 / ص 305) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7089).
  7. أخرجه مسلم في كتاب الحج – باب فرض الحج مرة في العمر (1337) (ج 2 / ص 975).
  8. أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ – باب تفسير سورة آل عمران (2998) (ج 5 / ص 225) وابن ماجه في كتاب المناسك -  باب ما يوجب الحج (2896) (ج 2 / ص 967) وحسنه الألباني في المشكاة برقم (2527).
  9. أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ – باب تفسير سورة آل عمران (2998) (ج 5 / ص 225) والحاكم (1613) (ج 1 / ص 609) وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي برقم (2998).
  10. أخرجه أبو داود في كتاب  المناسك – باب تعجيل الحج (1734) (ج 2 / ص 75) وابن ماجه في كتاب المناسك - باب الخروج إلى الحج (2883) (ج 2 / ص 962) وأحمد (1834) (ج 1 / ص 214) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (6004).

مرات الإستماع: 0

"فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران:97] آيات البيت كثيرةٌ. منها الحجر الذي هو مقام إبراهيم، وهو الذي قام عليه حين رفع القواعد من البيت، فكان كلما طال البناء ارتفع به الحجر في الهواء حتى أكمل البناء، وغرقت قدم إبراهيم في الحجر كأنها في طينٍ، وذلك الأثر باقٍ إلى اليوم."

فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران:97] يعني دلالات ظاهرة أنه من بناء إبراهيم  - عليه الصلاة، والسلام - وأن الله عظمه، وشرفه، كما يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -[1]

هنا يقول: آيات البيت كثيرة. ذكر الحافظ بن القيم - رحمه الله - أنها تزيد على أربعين آية[2] وذكر بعضهم منها الصفا، والمروة، بعضهم يذكر أشياء أخرى من ذلك أن الغيث إذا كان بناحية الركن اليماني، كان الخصب في اليمن، وإن كان بناحية الشام كان الخصب في الشام، وإذا عم البيت كله كان الخصب بجميع البلدان، هكذا قال بعضهم - والله أعلم - هذا يحتاج إلى استقراء، الشاهد أنهم يذكرون أشياء بعض هذه الأشياء صحيح، وبعض هذه الأشياء غير صحيح، يعني بعضهم يذكر مثلًا أن الطير لا يقع عليه، وهذا غير صحيح الطير يقع عليه كما نشاهد، وبعضهم يزعم أن الذي يقع عليه إنما هو المريض من الطير، وهذا يحتاج إلى دليل -على كل حال الله - تبارك، وتعالى - ذكر مقام إبراهيم من هذه الآيات: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97] فهنا يقول: منها الحجر الذي هو مقام إبراهيم، وهو الذي قام عليه حين رفع القواعد من البيت، فكان كلما طال البناء ارتفع به الحجر في الهواء، هذا الله اعلم، هل هو كذلك يرتفع الحجر في الهواء، أو أن إبراهيم - عليه الصلاة، السلام - كان يقف عليه، ويبني، وكان طويلًا حتى أكمل البناء.

 قال: وغرقت قدم إبراهيم في الحجر كأنها في طينٍ، وذلك الأثر باقٍ إلى اليوم، قد تكون غرقت في الحجر، وقد يكون ما يتساقط من الطين يجتمع فبقي الأثر عالقًا، ولا شك أن الأثر الموجود في الحجر هو قدم إبراهيم  - عليه الصلاة، والسلام - ومما يُستغرب أن بعض أهل العلم يقولون: إن ذلك يرمز إلى هذا المعنى، وأنها ليست بقدمه حقيقة، وأن ذلك قد انمحى، وزال مع تطاول الأزمان، ويقولون بدليل أنها صغيرة، إبراهيم - عليه الصلاة، السلام - كان طويلًا، وقدمه أكبر، ويقولون: ليس للأصابع أثر فهذا غريب، هذا أمرٌ يتوارثه الناس من الأشياء المحسوسة أجيالٌ تتوارثه، وهذا الحجر كان موجودًا في زمن النبي ﷺ كان ملتصقًا بالكعبة، وفيه أثر قدمه، وقد ذكره أبو طالب في قصيدته المشهورة التي يذكر فيها النبي ﷺ ويذب عنه، ويمدحه، وهي موجودة في البداية، والنهاية للحافظ ابن كثير[3].

فهذه قدم إبراهيم - عليه الصلاة، السلام - تأثرت مع تطاول الزمان، لم يكن عليها مثل الآن حماية من زجاج، ونحو ذلك، فأثر فيها ما يعتريها من أيدي الناس، وكذلك أيضًا المطر، ونحو هذا فذهبت آثار الأصابع، لكن يُقال: بأن هذا هو ليس أثر إبراهيم - عليه الصلاة، السلام - حقيقةً فهذا غير صحيح، الله قال: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97] والناس توارثوا هذا جيلًا عن جيل، الحاصل فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران:97] يعني أدلة واضحة على توحيده، ورحمته، وحكمته، وعظمته، وقدرته مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97] مجاهد يقول: آثر قدميه في المقام آية بينة، هذا يقول مجاهد من التابعين آثر قدميه آية بينة، وهذا جاء عن عُمر بن عبد العزيز، والحسن، وقتادة، والسُدي، ومقاتل[4] وكما سبق أنه ذكره أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة:

وموطئ إبراهيم في الصخر رطبةٌ على قدميه حافيًا غير ناعلِ[5].

هذا البيت يذكر فيه موطأ القدمين، هذا كان معروفًا في جاهليتهم، وهو عُرف أيضًا في الإسلام.

يا شيخ، وبالنسبة للحجم؟ يعني حجم القدمين صغير؟

بالنسبة للحجم - الله اعلم - قد يكون انكمش؛ لأنه طين رطب حصل له انكماش لما فارقه، رفع رجله عنه فانكمش، قد يكون هذا، وقد يكون هذا حصل بعد ذلك في الأزمان لما يعتريه من الؤثرات الجوية، وغيرها، تراكم عليه الطين، ونحو ذلك، وما يزال الناس ينقونه، أو ينظفونه، أو يزيلون ذلك عنه حتى تصاغر، قد يكون هذا العلم عند الله، لكن ذكر الله مقام إبراهيم، وعُمر قال: "لو اتخذت من مقام إبراهيم مُصلى فنزلت: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]"[6] لا شك أن المقصود بهذا هو المقام المعروف، وقد يدخل فيه المعنى الآخر الذي ذكره بعض السلف، وهو أن مقام مفرد مُضاف يفيد العموم، مقام إبراهيم يعني مقامات إبراهيم في الحج الطواف، والسعي، ومنى، ومزدلفة، وعرفة، كل هذه من مقامات إبراهيم، الجمار، لكن في هذا الحديث، وأن النبي ﷺ صلى خلفه، وقرأ الآية: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فدل ذلك على دخوله دخولًا أوليًّا في قوله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125].

فمقام إبراهيم أثر قدمه ظاهرٌ فيه، وإلا فلماذا قيل له ذلك: مقام إبراهيم؟

"ومنها: أن الطيور لا تعلوه."

هذا ليس صحيحًا.

"ومنها: إهلاك أصحاب الفيل، ورد الجبابرة عنه، ونبع زمزمٍ لهاجر أم إسماعيل بهمز جبريل بعقبه، وحفر عبد المطلب لها بعد دثورها، وأن ماءها ينفع لما شُرب له، إلى غير ذلك."

هذا البئر على صغرها، هي صغيرة، وليس لها عمق يُذكر، ومع ذلك لا تنضب على مر العصور، والأجيال، لا سيما في مثل هذا العصر صار يُستخرج منها ما الله به عليم، يشرب منه القاصي، والداني، ومع ذلك هي قوية فيها ثلاثة عروق بعضها في غاية القوة في دفع الماء، ويذكر أهل الاختصاص ممن درسوها، أو غاصوا فهيا دخلوا فيها، ونحو ذلك، بأن جميع الآبار في العالم تأتي مياهها من ناحية الشمال - عروق الماء - أما هذه فتأتي بعكس ذلك من ناحية جبال الطائف، وفي العصر الحديث دراساتٍ أُجريت صار لها بصمة خاصة تميزها عن سائر المياه في العالم، لا يشبهها ماء في العالم سمعت هذا من بعض الذين أجروا عليها الدراسة، وطبقوا عليها معايير عالمية معروفة، فوجدوا أنها تتميز عن غيرها من المياه، وهذا الماء الذي فيها إلى الآن وعلى هذه الكثرة لا يوجد فيه خلط، لا يُخلط بغيره هو هكذا، وما قد يذكره بعض كبار السن، ونحو ذلك يقولون: كانت في السابق لربما أغلظ مما هي عليه الآن، ونحو هذا، يجيبون عنه بأنها تخضع أولًا لتصفية، الأمر الثاني أنه يوجد خزانات أرضية خلقها الله في طريقها، فكان استخرجاها في السابق بإدلاء، وذلك شيءٌ يسير فتمكث في هذه الخزانات الأرضية في طريقها مدة طويلة، فتكون ثقيلة بعض الشيء، لكن لما صار سحب الماء بكثرة لم تعد تبقى هذه المدة، لكن الخصائص هي الخصائص.

"مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97] قيل: إنه بدلٌ من الآيات، أو عطف بيان."

الفرق بين عطف البيان، والبدل، عطف البيان يكون الثاني أوضح من الأول فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97] فإذا كان مقام إبراهيم أوضح من الآيات فيكون عطف بيان.

"وإنما جاز بدل الواحد من الجمع؛ لأن المقام يحتوي على آياتٍ كثيرة لدلالته على قدرة الله تعالى، وعلى نبوءة إبراهيم، وغير ذلك."

يعني إذا قيل: بأن مقام إبراهيم هو المقصود بالآيات، فلماذا جُمع الآيات فيه آيات ما قال فيه: آيةٌ بينة مقام إبراهيم، فيه آيات بينات، قال: وإنما جاز بدل الواحد من الجمع؛ لأن المقام يحتوي على آياتٍ كثيرة لدلالته على قدرة الله تعالى، أو باعتبار أن أقل الجمع اثنان هذا على قول بعض أهل العلم، كما قال صاحب المراقي:

أقل معنى الجمع في المشتهر اثنان عند الإمام الحميري[7].

يعني: مالك - رحمه الله.

والله عز، وجل يقول: كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11] ومعلوم أنها تُحجب حجب نقصان من الثلث إلى السدس بوجود أخوين فأكثر، والله يقول: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] على القول بأنها: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذيالحجة، وبعضهم يقول: بجر الكسر، وبعضهم يقول: قال أشهر باعتبار أن أقل الجمع اثنان، فيكون هنا: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران:97] الأولى: مقام إبراهيم، الثانية: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97] فذكر اثنين باعتبار أن أقل الجمع كذلك.

"وقيل: الآيات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، فعلى هذا يكون قوله: وَمَنْ دَخَلَهُ عطفا، وعلى الأول استئنافا."

يعني: إذا قيل بأن فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97] إن الآية هي مقام إبراهيم لماذا جمع؟ يكون باعتبار أن المقام يحوي جملةً من الآيات، وعلى القول بأن وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97] أنه معطوف على مقام إبراهيم، يعني: أنه آية أيضًا هي من جملة الآيات، فيكون باعتبار أن أقل الجمع اثنان، أو باعتبار أن المقام يحتوي جملةً من الآيات، مع أن وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97] فجمع فيه آيات بينات.

ويقول: فعلى هذا يكون قوله: ومن دخله عطفًا، وعلى الأول استئنافًا، يعني: على القول بأن الآيات البينات هي مقام إبراهيم يكون هنا فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97] فنقف، ثم تأتي جملة جديدة وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97] لا يكون تفسيرا للآيات البينات.

"وقيل: التقدير منهن مقام إبراهيم."

منهن مقام إبراهيم، أو أحدها مقام إبراهيم، وعليه فلا إشكال في كون مقام مفرد، وآيات جملة فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97] منهن مقام إبراهيم، أو أحدها مقام إبراهيم.

"فهو على هذا مبتدأ."

هو مبتدأ، وبعضهم يقول: خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير هي مقام إبراهيم، والمقام.

"فهو على هذا مبتدأ، والمقام هو الحجر المذكور، وقيل: البيت كله، وقيل: مكة كلها."

باعتبار أن مقام إبراهيم مفرد مضاف، فيشمل مقامات إبراهيم - عليه الصلاة، السلام - كما ذكرت، لا شك أن نفس مقام الحجر يدخل في ذلك دخولًا أوليًّا.

"كَانَ آمِنًا [آل عمران:97] أي: آمنًا من العذاب، وفي النسخة الخطية: آمنًا من العقاب، فإنه كان في الجاهلية إذا فعل أحدٌ جريمةً، وفي النسخة الخطية: جريرةً، ثم لجأ إلى البيت لا يُطلب، ولا يُعاقب."

لأن آمنًا من العقاب - كأنها أوضح - يعني: عقاب المخلوقين من دخله كان آمنا، العقاب، فإنه كان في الجاهلية إذا فعل أحدٌ جريمةً، ثم لجأ إلى البيت لا يُطلب، ولا يُعاقب، وقد أخرج الشيخان عن النبي ﷺ إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات، والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة[8] فالكلام له بقية، على كل حال في من دخل البيت، وقد اجترم هل يُعيذه البيت من العقوبة؟ والمؤاخذة، والأخذ، أو لا؟

"فأما في الإسلام فإنّ الحرم لا يمنع من الحدود، ولا من القصاص، وقال ابن عباسٍ، وأبو حنيفة: "ذلك الحكم باقٍ في الإسلام إلّا أن من وجب عليه حدٌّ، أو قصاصٌ، فدخل الحرم لا يُطعم، ولا يُباع منه حتى يخرج"[9].

يعني يُضيق عليه حتى يخرج.

"وقيل: آمنًا من النار."

وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97] أما القول بأنه: كان آمنًا من النار، فهذا فيه نظر؛ لأن المشركين كانوا في البيت، ويعبدون الأصنام، وذلك لا يكون أمانًا لهم من النار، لكن هذه الجملة هي صيغةٌ خبرية وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ومعناها الإنشاء، يعني: ليس ذلك بحكمٍ قدري، يعني: ليس بحكمٍ كوني، لو كان حكمًا كونيًّا لم يحصل أذى لأحدٍ دخل البيت، ومعلومٌ أن البيت وقع فيه ما وقع من قتل القرامطة الحجيج في ساحته، وصحن الكعبة، وبين الصفا، والمروة، ومُلئ بئر زمزم بالجثث، فلو كان حكمًا كونيًّا قدريًّا لم يحصل شيء من ذلك، لكنه خبر بمعنى الإنشاء يعني بمعنى الأمر بتأمين من دخله، يبقى أن من كان مجرمًا، فهل يأمن إذا دخل البيت؟

بعضهم يقول: يُضيق عليه حتى يخرج، ثم يؤخذ خارجه، وبعضهم يقول: البيت لا يعيذ مجرمًا، ويؤخذ بذلك.

حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] بيانٌ لوجوب الحج، واختُلف هل هو على الفور، أو على التراخي؟ وفي الآية ردٌّ على اليهود لما زعموا أنهم على ملة إبراهيم، قيل لهم: إن كنتم صادقين فحجوا البيت الذي بناه إبراهيم، ودعا الناس إليه.

في قوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] يقول: بيانٌ لوجوب الحج وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] أو حَج البيت، الحافظ ابن القيم - رحمه الله -[10] ذكر أن الآية تدل على الوجوب من عشرة أوجه، يقول: "وفي الحج أتى بهذا النظم الدال على تأكد الوجوب من عشرة أوجه، وذكر الأول أنه قدم اسمه تعالى، وأدخل عليه لام الاستحقاق، ولله الاختصاص، ثم ذكر من أوجبه عليهم بصيغة العموم الداخل عليها حرف الجر على عَلَى النَّاسِ [آل عمران:97] ثم أبدل منه أهل الاستطاعة من استطاع، ثم نكَّر السبيل في سياق الشرط إذانًا بأنه يجب الحج على أي سبيلٍ تيسرت من قوتٍ، أو مال مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] فعلق الوجوب بحصول ما يُسمى سبيلًا، ثم أتبع ذلك بأعظم التهديد بالكفر فقال: وَمَنْ كَفَرَ [آل عمران:97] أي بعدم التزام هذا الواجب، وتركه، ثم عظم الشأن، وأكد الوعيد بإخباره باستغنائه عنه، والله تعالى، هو الغني الحميد لا حاجة به إلى حج أحد، وإنما في ذكر استغنائه عنه هنا من الإعلام بمقته له، وسخطه عليه، وإعراضه بوجهه عنه، ما هو من أعظم التهديد، وأبلغه، ثم أكد ذلك بذكر اسم العالمين عمومًا، ولم يقل فإن الله غنيٌ عنه؛ لأنه إذا كان غنيًا عن العالمين كلهم، فله الغنى الكامل التام من كل وجه عن كل أحد بكل اعتبار، وكان أدل على عظم مقته لتارك حقه الذي أوجبه عليه، ثم أكد هذا المعنى بالأداة "إن" الدالة على التوكيد (فإن الله) فهذه عشرة أوجه تقتضي تأكيد هذا الغرض العظيم" ذكره في "بدائع الفوائد".

"مَنِ اسْتَطَاعَ [آل عمران:97] من بدل من الناس، وقيل: فاعل بالمصدر، وهو حج، وقيل: شرطٌ مبتدأٌ، أي: من استطاع فعليه الحج، والاستطاعة عند مالك هي: القدرة على الوصول إلى مكة بصحة البدن، إما راجلًا، وإما راكبًا، مع الزاد المُبلغ، والطريق الآمن[11] وقيل: الاستطاعة الزاد، والراحلة، وهو مذهب الشافعي[12] وعبد الملك بن حبيب، وروي في ذلك حديثٌ ضعيف[13].

مَنِ اسْتَطَاعَ يقول: بدل من الناس، وبعضهم يقول: خبر لمبتدأ محذوف تقدير هم من استطاع وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ [آل عمران:97] هم مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وقيل: فاعلٌ بالمصدر، وهو حج، وقيل: شرط مبتدأ، أي: من استطاع فعليه الحج، يعني الجواب محذوف.

قال: الاستطاعة عند مالك هي القدرة على الوصول إلى مكة بصحة البدن، إما راجلًا، وإما راكبًا، مع الزاد المُبلغ، والطريق الآمن، وقيل: الاستطاعة الزاد، والراحلة، وهو مذهب الشافعي، وعبد الملك بن حبيب، وروي في ذلك حديثٌ ضعيف، وجاء عن ابن عُمر - ا -: "ما السبيل يا رسول الله؟ فقال: الزاد، والراحلة[14] وجاء نحوه أيضًا عن أنس [15] لكنه لا يصح، وحمله ابن جرير - رحمه الله - على الأتم من معانيها على قدر الطاقة[16] يعني قد لا يحتاج إلى لراحلة قد يكون في مكة، أو قريب من مكة، والله يقول: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا [الحج:27] رجالًا: يعني: على الأقدام وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27] فقدم المشاة بعضهم يقول: لأن المشي أفضل، وبعضهم يقول: لأن الركبان يزدرونهم فجبرهم بالتقديم.

"وَمَنْ كَفَرَ قيل: المعنى من لم يحج، وعبر عنه بالكفر تغليظا، كقوله ﷺ من ترك الصلاة فقد كفر[17] وقيل: أراد اليهود؛ لأنهم لا يحجّون، وقيل: من زعم أن الحج ليس بواجب."

يعني أنكر، وجوبه فكفر به، فهذا الذي قال به أكثر السلف، وهو مروي عن ابن عباس، والضحاك، وابن عطاء، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، ومقاتل[18] واختاره ابن جرير[19] يعني، ومن كفر: أنكر وجوب الحج.

وهنا يقول: قيل: المعنى من لم يحج، وعبر عنه بالكفر تغليظا، ظاهر كلام ابن القيم - رحمه لله - من ترك الحج[20] وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97] كما قال الله : وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم:8] وكما قال الله تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزمر:7] وقال: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهِ​​​​​​ [التغابن:6].

  1.  - تفسير ابن كثير (2/79).
  2.  - بدائع الفوائد (2/46).
  3.  - انظر: البداية، والنهاية ط هجر (1/379).
  4.  - تفسير ابن كثير (2/79).
  5.  - البداية، والنهاية ط إحياء التراث (1/189) و(3/70).
  6.  - تفسير ابن كثير ت سلامة (1/414) و(1/416) والدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/290).
  7.  - نشر البنود على مراقي السعود (1/234).
  8.  - أخرجه البخاري، كتاب الجزية، باب إثم الغادر للبر، والفاجر، برقم (3189) ومسلم، كتاب الحج، باب تحريم مكة، وصيدها، وخلاها، وشجرها، ولقطتها، إلا لمنشد على الدوام، برقم (1353).
  9.  - تفسير ابن كثير (2/79) وتفسير القرطبي (4/140).
  10.  - انظر: بدائع الفوائد (2/45).
  11.  - انظر: القوانين الفقهية (ص:86) والفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/351).
  12.  - انظر: الأم للشافعي (2/127) والبيان في مذهب الإمام الشافعي (4/28) والمجموع شرح المهذب (7/64).
  13.  - حديث ابن عمر الآتي.
  14.  - أخرجه الترمذي، أبواب الحج عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في إيجاب الحج بالزاد، والراحلة، برقم (813) وابن ماجه، أبواب المناسك، باب ما يوجب الحج، برقم (2896) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (3335).
  15.  - أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (1613) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه" والدارقطني في سننه، برقم (2426) وابن كثير في التفسير (2/83) والسيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/273).
  16.  - تفسير الطبري (5/616).
  17.  - أخرجه الترمذي بلفظ: العهد الذي بيننا، وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر باب ما جاء في ترك الصلاة، باب ما جاء في ترك الصلاة، برقم (2621) والنسائي، كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، برقم (463) وأحمد في المسند، برقم (22937) وقال محققوه: "إسناده قوي" وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4143).
  18.  - انظر: تفسير ابن كثير (2/84 - 85).
  19.  - تفسير الطبري (5/624).
  20.  - بدائع الفوائد (2/45).