فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [سورة الروم:52-53].
يقول تعالى: كما أنك ليس في قدرتك أن تُسمع الأموات في أجداثها، ولا تُبلغ كلامَك الصمَّ الذين لا يسمعون، وهم مع ذلك مُدبرُون عنك، كذلك لا تقدر على هداية العميان عن الحق، وردهم عن ضلالتهم، بل ذلك إلى الله تعالى، فإنه بقدرته يُسمع الأموات أصوات الأحياء إذا شاء، ويهدي مَنْ يشاء، ويضل مَنْ يشاء، وليس ذلك لأحد سواه.
قوله - تبارك وتعالى - هنا: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ضربه الله لمن طبع على قلوبهم فأصمهم الله وأعمى أبصارهم، كما قال الله - تبارك وتعالى -: خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [سورة البقرة:7]، فهؤلاء لا يسمعون الحق ولا يبصرونه ولا يعقلونه، وهنا قال: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [سورة الروم:52]، هو كما سبق: الموتى هو مثل ضربه للكفار، فكما أنك لا تسمع الأموات فهؤلاء بمنزلة الأموات، ولهذا أخذ بعض أهل العلم من ظاهره أن الأموات لا يسمعون، مع أنه مثل مضروب للكفار، قال الله تعالى: وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ [سورة فاطر:22]، وعائشة - ا - استدلت بهذه الآية على أن القتلى - قتلى المشركين - الذين ألقوا في القليب يوم بدر أنهم لم يسمعوا النبي ﷺ احتجت بهذه الآية، هذه الآية عامة، والحديث خاص لما سأله عمر عن تكليمه لهم بعد ثلاث وقد جيفوا، فقال النبي ﷺ: وما أنتم بأسمع لما أقول منهم[1]، يعني بأنتم: أصحابه ﷺ، فهؤلاء فتح الله أسماعهم للنبي ﷺ من أجل أن يسمعوا خطابه وتبكيته لهم، وبعضهم يقول: إن النبي ﷺ خاطبهم بذلك ولكن لا يعني أنهم سمعوه، وهذا خلاف ظاهر الحديث، فهذه حالة مستثناة فتح الله أسماع هؤلاء للنبي ﷺ وإلا فإن الأصل أن الموتى لا يسمعون ولا يشعرون بمن جاء إليهم وزارهم ونحو ذلك أو كلمهم، وإنما يوقف في ذلك عند ما ورد به النص كسماعه بعد الدفن، يسمع صوت نعالهم لما يولون عنه مدبرين، وهو يسمع في هذه الحال فقط، أما ما عدا ذلك فإنهم لا يسمعون، مع أن هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، لكن هذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم، قال: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ إذا ناديتهم فالأصم لا يسمع أصلاً ومع ذلك ذكر معنى آخر إذا ولوا مدبرين، فإن الأصم قد يشار إليه فيفهم الإشارة لكن إذا كان مولياً مدبراً فكيف يرى الإشارة؟! فهو لا يسمع وقد ولى مدبراً فلا يرى إشارة يفهم عن مخاطبه ومراده، ولهذا قال: إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، والله تعالى أعلم.
ولهذا قال: إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي: خاضعون مستجيبون مطيعون، فأولائك هم الذين يستمعون الحق ويتبعونه، وهذا حال المؤمنين، والأول مَثَلُ الكافرين، كما قال تعالى: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [سورة الأنعام:36].
وقد استدلت أم المؤمنين عائشة - ا - بهذه الآية: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى على توهيم عبد الله بن عمر في روايته مخاطبة النبي ﷺ القتلى الذين ألقوا في قَلِيب بدر، بعد ثلاثة أيام، ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم، حتى قال له عمر: يا رسول الله، ما تخاطب من قوم قد جيفوا؟ فقال: والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون، وتأولته عائشة على أنه قال: إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق.
وقال قتادة: أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته تقريعًا وتوبيخًا ونقمة.
- رواه البخاري، كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل، برقم (3976)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، برقم (2873).