اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [سورة الروم:54].
ينبه تعالى على تنقل الإنسان في أطوار الخلق حالا بعد حال، فأصله من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم يصير عظاما ثم تُكسَى لحما، ويُنفَخ فيه الروح، ثم يخرج من بطن أمه ضعيفا نحيفًا واهن القوى، ثم يشب قليلاً قليلاً حتى يكون صغيرًا، ثم حَدَثا، ثم مراهقًا، ثم شابا، وهو القوة بعد الضعف، ثم يشرع في النقص فيكتهل، ثم يشيخ ثم يهرم، وهو الضعف بعد القوة. فتضعف الهمة والحركة والبطش، وتشيب اللّمَّة، وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة؛ ولهذا قال: ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ أي: يفعل ما يشاء ويتصرف في عبيده بما يريد، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ.
قوله - تبارك وتعالى -: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ هكذا بفتح الضاد قراءة عاصم وحمزة وهي لغة لتميم، وقراءة الجمهور بضم الضاد، وهي لغة قريش، هما لغتان، والمعنى واحد على المشهور عند أهل العلم وإن كان بعضهم يفرق بينهما الضَّعف والضُّعف، فيجعل ذلك من قبيل ضعف العقل والأخرى من قبيل ضعف البدن، لكن هذا وإن قاله بعضهم إلا أن المشهور الذي عليه عامة أهل العلم أنهما بمعنى واحد، وهذا الضعف بعضهم يقول: وهو نطفة، والله - تبارك وتعالى - يقول: فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ [سورة الطارق:5-6]، وقال: أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ [سورة المرسلات:20]، وبعض أهل العلم يقول: إن ذلك في نشأته وحينما يكون صغيراً ضعيفاً حينما يولد، والأحسن - والله تعالى أعلم - أن يفسر ذلك بما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فقد جمع ذلك كله، فعبارة الحافظ ابن كثير - رحمه الله - ذكر فيها حالة الضعف هذه أن الإنسان أصله من تراب ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم يصير عظاماً ثم تكسى العظام لحماً ثم ينفخ فيه الروح ثم يخرج من بطن أمه ضعيفاً نحيفاً واهن القوى ثم يشب قليلاً قليلاً حت يصير صغيراً حدثاً ثم مراهقاً ثم شاباً، وهو القوة فما قبل ذلك كله ضعف قبل الولادة وبعدها ثم بعد ذلك تكون القوة، أما من جعل بعد الضعف قوة وهو الشباب واكتمال الخلق ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً [سورة الروم:54]، هذه المرحلة التي يصير إليها الإنسان بعد ذلك من الوهن وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا [سورة مريم:4]، وإذا طال به العمر يصير إلى أرذل العمر "ثم لتكونوا شيوخاً"، وهذه سنة الله في هذا الخلق، ولذلك تجد كثيراً من الناس حينما يتقدم به العمر يشكو من ضعف عظامه، والأطباء يقولون لهؤلاء الكبار: إنهم يعانون من هشاشة في العظام ونحو ذلك، وهذا أمر طبيعي، يعني هذا هو الأصل وخلافه قليل أو نادر، كما قال الله عن قيل زكريا : وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي، هذا الوهن هو ضعف العظام الذي يسميه المعاصرون الآن من الأطباء بهشاشة العظام فهو ماذا ينتظر إلا الضعف والهشاشة وآلام الركب وآلام المفاصل وما إلى ذلك؟، ويكون ذلك تكفيراً لذنوبه ورفعة لدرجاته على الأرجح، لذلك إذا وطن الإنسان نفسه على مثل هذا استراح كثيراً من التشكي والمعاناة هذا هو الطبيعي، هذا هو الأصل وخلافه قليل أو نادر، والله المستعان.