الخميس 29 / ذو الحجة / 1446 - 26 / يونيو 2025
وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا۟ غَيْرَ سَاعَةٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَانُوا۟ يُؤْفَكُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ۝ فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [سورة الروم:55-57].

يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأوثان، وفي الآخرة يكون منهم جهل عظيم أيضا، فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا في الدنيا إلا ساعة واحدة، ومقصودهم هم بذلك عدم قيام الحجة عليهم، وأنهم لم يُنْظَروا حتى يُعذَر إليهم.

قوله - تبارك وتعالى -: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يعني الساعة التي تقوم بها القيامة، قيل لها: الساعة هي الساعة الأخيرة من الدنيا، آخر ساعة من الدنيا، الساعة التي يكون فيها النفخ في الصور وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ هذا القسم الذي أقسموه أولاً هل هم صادقون فيه؟، يعني قالوا ما يعتقدون وإن أخطئوا إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا [سورة طه:104]، من أهل العلم من يقول: هم يعتقدون هذا، هم يعتقدون ذلك فتكلموا عن اعتقادهم لكنهم أخطئوا في هذا الاعتقاد، بعضهم يقول: كأنهم تقالّوا مدة بقائهم ومكثهم في الدنيا، واعتقدوا ذلك بغاية القلة فأقسموا بناء على هذا الذي استقر في أذهانهم وظنوا أن ذلك يطابق الواقع، هذا باعتبار ما لبثوا يعني في الدنيا، وبعض أهل العلم كابن قتيبة يقول: إنهم كذبوا في ذلك، يعني من أجل ألا يحاسبوا ويعذبوا يقولون: ما بقينا في الدنيا إلا ساعة واحدة، ولهذا قال الله : كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ يعني في الدنيا حيث كانوا يحلفون على الكذب وهم يعلمون، وبعض أهل العلم يقول: إن ذلك في البرزخ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا يعني في البرزخ في القبر وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، أن المقصود المكث في القبور، وبعضهم فهم من ذلك أنهم ينامون نومة في القبور فيفيقون منها عندئذٍ يحلفون أنهم ما لبثوا غير ساعة، لكن الله حينما يسألهم كم لبثوا في الأرض عدد سنين فإنهم يقولون: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ [سورة المؤمنون:113] فهذا يدل على أن المقصود المكث في الدنيا، وذلك - والله تعالى أعلم - أن الإنسان إذا فارق هذه الحياة تكون بمجموعها بالنسبة إليه وإن طال مكثه فيها كأنها ساعة، ويمكن أن يعتبر الإنسان هذا بما مضى من أيامه، أيام العمر فيجد أنها قصيرة، ولو نظرت إلى الليلة الماضية والليلة التي قبلها كأنها السنوات التي مضت، أيام الشباب، أيام الطفولة كأنها أحلام؛ لهذا الإمام أحمد لما سئل عن الشباب قال: كأنه شيء وضعته في كمي فسقط، فهذا يجده الإنسان في نفسه، فما مضى من العمر يكون أحلاماً، كأنه مدة قصيرة، ومن قال: ذلك يراد به القبر فهذا كذلك وإذا أردت أن تعتبر هذا فإن أصحاب الكهف لما قاموا من نومتهم هذه الطويلة ماذا قالوا لمّا تساءلوا؟ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ، وهؤلاء الذين يمكثون هذه المدة الطويلة مثل أصحاب الكهف أو نحو ذلك لا يشعرون بذلك حينما يستيقظون، ولا يبعد - والله تعالى أعلم - أن تكون مدة البرزخ حينما يقوم منها الإنسان يرى أنها قصيرة على قول ابن جرير، من قال: إن ذلك البرزخ فهذا ظاهر، والإنسان حينما ينام ويستيقظ فهو وإن طال نومه إلا أنه لا يشعر بالمدة التي قضاها، ولذلك المغموم المهموم ومن به حزن أو نحو ذلك عادة يلجأ إلى النوم من أجل أن يطوي الأيام، أن يطوي الساعات، لأن الساعات في أوقات الحزن تكون طويلة جداً، وفي أوقات الفرح تكون قصيرة، فيوم العيد ونحو ذلك يمضي سريعاً، يشعر الناس أنه مضى ولم يُشبع نهمتهم، بينما أيام الألم والمصيبة ونحو ذلك تكون طويلة، فالمقصود على قول ابن جرير - رحمه الله - أن ذلك يرجع إلى القبر إلى البرزخ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ، وعلى قول ابن كثير أن ذلك يرجع إلى الدنيا، وسواء قلنا: إنهم قالوه كذباً وهم يعلمون، أو إنهم أخطئوا حيث إنهم حينما جاء البعث وتصرمت الدنيا نظروا إلى بقائهم كأنهم تقالّوه، وأنهم بقوا هذه المدة اليسيرة، كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ، وبعضهم يقول: كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ أي كانوا يكذبون ويحلفون على الكذب في الدنيا، لكن يمكن أن يقال غير هذا، فإن أصل هذه المادة تأتي بمعنى القلب، أي كذلك كانوا يؤفكون أي يصرفون عن الحق في الدنيا، والله تعالى أعلم.

قال الله تعالى: كَذَلِكَ كَانٌوا يُؤْفَكُون ۝ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ أي: فيرد عليهم المؤمنون العلماء في الآخرة، كما أقاموا عليهم حجة الله في الدنيا، فيقولون لهم حين يحلفون ما لبثوا غير ساعة: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ أي: في كتاب الأعمال.

قوله - تبارك وتعالى - هنا: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ بعضهم يقول: الملائكة، وبعضهم يقول: الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وبعضهم يقول: المراد بذلك الذين أوتوا العلم والإيمان من الناس من أهل الإيمان وأهل العلم يردون عليهم يردون على هؤلاء الكافرين الجاهلين، والأحسن - والله أعلم - هو أن يحمل على هذا كله، فإن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - والأنبياء أئمة أهل العلم والإيمان؛ ولذلك حمله ابن جرير - رحمه الله - على الجميع، وابن كثير - رحمه الله - هنا يقول: فيرد عليهم المؤمنون العلماء فجعل ذلك صفتين لموصوف واحد، وابن جرير -رحمه الله- حمل ذلك – أي هذه الأوصاف - على موصوفين متعددين، لقد لبثتم في كتاب الله قال: يعني في كتاب الله الأعمال، وعبارات أهل العلم في هذا متقاربة، بعضهم يقول: في كتاب الله في علمه وقضائه، وبعضهم يقول: في كتاب الله يعني اللوح المحفوظ يعني في علم الله الذي كتبه وأثبته في اللوح المحفوظ، وهكذا قول من يقول كقول ابن جرير - رحمه الله -: أي فيما أثبته في علمه السابق الأزلي، يعني ما سبق في علمه، كتبه في علمه السابق، الكل يرجع إلى شيء واحد، لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وليس المقصود بكتاب الله القرآن، وإنما اللوح المحفوظ، فمن قال: إنه في علم الله   فإن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، ومن قال: إن ذلك في حكمه وقضائه فذلك في اللوح المحفوظ أيضاً، كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال: وعرشه على الماء[1]، وإن أول ما خلق الله تعالى القلم فقال له: اكتب، فقال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة[2]، الحديث.

إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ أي: من يوم خلقتم إلى أن بعثتم، وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.

قال الله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ أي: يوم القيامة، لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ أي: لا ينفعهم اعتذارهم عما فعلوا، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي: ولا هم يرجعون إلى الدنيا، كما قال تعالى: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [سورة فصلت:24].

وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ يستعتبون يقول: أعتبتُ يعني أرضيتُ، أعتبته يعني أرضيته، استعتبتَه كأنك طلبت منه هو أن يعتذر لك عذراً تقبله منه فيعذر بذلك، قال: استعتبتُه فأعتبني يعني استرضيته فأرضاني، فهم لا يُدعون إلى إزالة عتبهم من الطاعة والتوبة، الإنسان أحياناً يبكت ويسأل سؤال تبكيت لا سؤال استعتاب مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [سورة المدثر:42] فهدا ليس بسؤال استعتاب، وهذا زيادة في عذابهم، أما سؤال الاستعتاب مثل حساب الله كما جاء في بعض الأحاديث أن المؤمن حينما يسأله الله - تبارك وتعالى - مثلاً حينما يقع منه بعض التقصير في إنكار المنكر فإذا ألهم الله عبداً حجته قال: يا رب رجوتك وخفت الناس[3]، كما جاء في الحديث، الشاهد أن السؤال هو ما يكون سؤال استعتاب من أجل أن يعتذر فيقبل منه هذا العذر، وأحياناً لا يكون كذلك.

  1. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء [هود:7]، وهو رب العرش العظيم[التوبة:129]، برقم (7419)، ومسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى - عليهما السلام -، برقم (2653).
  2. رواه أبو داود، كتاب السنة، باب في القدر، برقم (4700)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة ن، برقم (3319)، وأحمد في المسند، برقم (22707)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف لضعف عبد الله بن لهيعة"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2017).
  3. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (11214)، وقال محققوه: "حسن"، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب قوله تعالى: يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، برقم (4017)، بلفظ: "وفرقت من الناس"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1818).