أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [سورة لقمان:20-21].
يقول تعالى منبهاً خلقه على نعمه عليهم في الدنيا والآخرة، بأنه سخر لهم ما في السماوات من نجوم يستضيئون بها في ليلهم ونهارهم، وما يخلق فيها من سحاب وأمطار وثلج وبرد، وجعْله إياها لهم سقفاً محفوظاً، وما خلق لهم في الأرض من قرار وأنهار وأشجار وزروع وثمار، وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة من إرسال الرسل وإنزال الكتب، وإزاحة الشبه والعلل، ثم مع هذا كله ما آمن الناس كلهم، بل منهم من يجادل في الله، أي: في توحيده وإرسال الرسل، ومجادلته في ذلك بغير علم، ولا مستند من حجة صحيحة، ولا كتاب مأثور صحيح.
قوله - تبارك وتعالى - هنا: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ، التسخير المقصود به جعل الشيء المسخر بحيث ينتفع به من سُخر له، سواء كان ذلك بطوعه أو كان خارجاً عن قدرته وإرادته، يعني: عن قدرة المسخر له، فالشمس والقمر والنجوم، وما إلى ذلك هذه مسخرة للإنسان، لكن ليس هي تحت طوعه وإرادته، لكن الله سخرها من أجل أن ينتفع الناس بها، هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [سورة يونس:5]، إلى غير ذلك من ألوان المنافع، والنوع الثاني هو ما سُخر للإنسان وجعل تحت قدرته وتصرفه، مثل تسخير الأنعام، ذللها جعلها منقادة للإنسان، يتصرف فيها، يصرفها كيف شاء، فهذا النوع الثاني من التسخير، وإذا عرفت هذا التنوع ينحل الإشكال الذي قد يرد على بعض الناس: أن الله سخر لنا الشمس والقمر والنجوم إلى آخره مع أننا لا نستطيع أن نتصرف فيها؟ فالجواب: أن التسخير نوعان، قال: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ الظاهرة والباطنة ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، الإسباغ معناه: الإتمام والإكمال، إسباغ الوضوء على الراجح من قول الجمهور كما هو معروف: هو إتمامه، فيبلغ إلى المواضع التي أمر الله أن يبلغها، من غير زيادة، أن لا يقصد الزيادة، إلا على ما جاء عن بعض السلف كأبي هريرة ، فقد فهم ذلك من الحديث، لكن الجمهور على أن الإسباغ معناه: الإتمام والإكمال للمواضع التي أمر بغسلها في الوضوء أو مسحها.
فهنا وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ: أتم وأكمل عليكم نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، بعضهم يفسر الظاهرة بما ظهر للحس، مما يراه ويحسه بحواسه، فهذه نعم ظاهرة، الحواس معروفة، والباطنة ما يدركه بوجدانه كالعلم والإيمان والخشية وما إلى ذلك من الأمور. قالوا: هذه هي الباطنة، وبعضهم يقول: إن الباطنة: هي ما لا يدركه الناس، يعني: الأشياء الظاهرة التي يدركونها بحواسهم، هذه الأمور التي يعرفونها، والباطنة هي التي لا يعرفونها، نعم الله على عباده لا تحصى، فلو نظر الإنسان في بدنه، والأشياء التي تعمل فيه فإن عامة ذلك مما يخفى عليه، وقد يتعطل شيء يسير من هذا فيتعرف الإنسان على أسماء هذه الأبعاض، والأجزاء التي لم يسمع بها من قبل، ويتعرف على ألوان الوظائف التي لم تخطر له على بال، وأنها إذا تعطلت حصل له من الآثار والأضرار ما قد يكدر عليه عيشه، هذه أمور ما يعلم بها أكثر الناس، وما خفي فهو أعظم، ولذلك تجد بعض العلل تخفى على الأطباء، لا يعرفونها ولم يتوصلوا إليها، الإنسان لا يدرك ما في بدنه من النعم الباطنة، فكيف بغير ذلك مما خلقه الله وأوجده، فنعمه على عباده كثيرة.
وبعضهم يفسر النعم الظاهرة بصحة الأبدان، وما إلى ذلك مما ظهر من كمال الخلق، وأن الباطنة العقل، فالله خلق الإنسان في أحسن تقويم من الجهتين، من الجهة الظاهرة، ومن الجهة الباطنة، والواقع أن هذا يصلح أن يكون من قبيل التفسير بالمثال، ولا يراد به الحصر؛ لأن نعم الله هنا أعم من ذلك، ما تختص بالقلب أو بالعقل أو بصحة البدن وكمال البدن، أسبغ علينا نعمه الظاهرة والباطنة في الأبدان والعقول وغير ذلك مما هو أوسع وأعم من ذلك.
وبعضهم يقول: الظاهرة نعم الدنيا، والباطنة ما كان في الغيب من أمور الآخرة، وهذا أن تفسر الآية به وأن يقال: هذا هو المعنى: فيه بعد، ولكن الله أسبغ نعمه الظاهرة والباطنة مما يشمل أمور الدنيا المحسوسة، والأمور الأخرى المعنوية كبعث الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، والهداية بنوعيها هداية الإرشاد والتوفيق، فهذه من نعم الله، بل هي من أجل النعم، وما خفي من ألوان النعم وبطن ولم يظهر، ونعم الله لا تختص في الدنيا، بل في الدنيا والآخرة.
وبعضهم يقول: إن النعم الظاهرة مثل الإسلام، والجمال، وإن النعم الباطنة هي ما ستره الله على عباده فلم يظهر للناس، فالله أسبغ عليهم نعمه بالإسلام وجمّلهم بما جملهم به وستر القبيح.
قال الإمام أحمد - رحمه الله - ليس المقصود تفسير الآية لكن الشيء بالشيء يذكر -: لولا ستر الله لافتضحنا، فما يسبغه الله على العبد حيث ستره وإلا لافتضح، ولو تأمل الإنسان هذا المعنى وما يدخل تحته من ألوان العيب والنقص الذي يكون بالإنسان فإنه يعرف بعض نعمة الله عليه بالستر، سواء كان ذلك مما يتصل بطاعته الله ومعصيته، يعني من تقصير في طاعة أو فعل المعصية، أو كان ذلك مما يتصل بغيره، يعني غير موضوع الطاعة والمعصية، وإنما أشياء أخرى من ضعف الإنسان وأمور ترجع إلى ما جبل عليه في خلقته وضعفه وما إلى ذلك، فلولا ستر الله عليه لافتضح، فنعم الله على عباده كثيرة، فيخرج الإنسان متجملاً إلى الناس بعد راحة، فيلقاهم وهو في حال لا بأس بها، حسنة، ولكن لو بقي مع نفسه وضعفه وعجزه لرأى الناس منه أشياء وأشياء، - والله المستعان -، والقراءة الأخرى وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً يعني بالإفراد، وهي قراءة متواترة، وهي قراءة عامة الكوفيين، وقرأ بها بعض المكيين، نِعْمَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، والنعمة هذه لما نظر بعضهم إلى الإفراد فيها قال: هي الإسلام، أو شهادة أن لا إله إلا الله، ولا حاجة لهذا؛ لأن النعمة هنا مفرد ولكنه اسم جنس، فيصدق على الواحد والكثير، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَةً أي: نِعَماً، فيرجع إلى الأول في المعنى، فهي ليست نعمة واحدة.
هذا ذكره الله بعد وصايا لقمان وهو من الأمور المذمومة بلا شك، ولا ينبغي للإنسان أن يقع في مثل هذا، أن يجادل في الله، في وحدانيته، في ذاته، في أسمائه، في صفاته، بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ، ليس له علم بما يجادل به، ولم يكن جداله عن بينة وهدى، ولم يكن مما تلقاه وأخذه من الكتاب المنزل، وإنما يجادل بجهل مما يمليه عليه هواه أو عقله الفاسد، أو نحو ذلك، فكل من جادل بغير علم، كل من جادل في الله أو في شرعه، في دينه بغير علم فله نصيب من هذه الآية، واليوم اجترأ كثير من الناس فصار كثيرون يظنون أن من حق كل أحد أن يتكلم، وأن يكتب، وأن يرد وأن يجادل بحجة أنه لا يوجد عندنا كهنوت، بزعمهم، فأبقوا جميع الاختصاصات إلا الاختصاص بعلوم الشريعة، فعندهم بلسان المقال والحال أن هذا يشترك فيه كل أحد، ومن حق كل أحد أن يتكلم، في القضايا الكبار وغيرها، فاجترءوا جرأة عظيمة على الله - تبارك وتعالى -، وكتابه، ودينه وشرعه، وعلى عباده المؤمنين، فصاروا يتكلمون ويكتبون، والواحد منهم لربما لو سرح مع اثنتين من البقر لم يحسن رعايتها، - نسأل الله العافية -، - أعوذ بالله -، يجمع الإنسان بين الجهل والضلالة مع جرأة يجترئ بها على ما لا يحسنه، فيعلن جهله أمام الناس، فهذا - نسأل الله العافية - قد هتك ستره وعرض عقله على الناس، كشف حاله، فهو يظن أنه يحسن، والواقع أن أول ما يرجع إليه من هذا هو أنه يسيء إلى نفسه قبل كل شيء، وأن هذا الكلام إنما يضره هو، فالخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات، كما يقول ابن جرير - رحمه الله -: إن الكلمات الخبيثة للخبيثين من الناس، فهم معدن لها، فإن صدرت منهم فهم أهلها، وإن صدرت في حقهم فهم أهلها، ويرجع ضررها عليهم لا على غيرهم، وإن صدرت منهم في حق أهل الإيمان ما ضرتهم، - والله المستعان -، ولذلك لا يستغرب أن يصدر مثل هذا من مأفون القلب والفؤاد، لكنه يستغرب لربما لو أنه كتب غير ذلك، يعني: لو كتب كتابة جيدة، يستغرب يقال: ما شاء الله فلان ما الذي حصل؟! لأن ذلك خرج من غير مظنته، فنسأل الله العافية.