الخميس 29 / ذو الحجة / 1446 - 26 / يونيو 2025
وَٱقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ ٱلْأَصْوَٰتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي: امش مشيًا مقتصداً ليس بالبطيء المتثبط، ولا بالسريع المفرط، بل عدلاً وسطاً بين بين.

هذه القضايا ربما قد يقال: إنها يسيرة، لكنها عند الله ليست كذلك، فالله كرر ذكرها، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ والقصد هو الاعتدال، أن يكون مشياً باعتدال، وأهل العلم في مثل هذا في سورة الفرقان والإسراء يقولون: إن المشية تدل على صاحبها، فيعرف حاله من الأخلاق كالكبر والغرور أو الحياء، أو تعرف حاله من جهة العقل من الخفة أو الطيش والسفه، يعرف ذلك من مشية الإنسان، وقد تعرف أيضاً من ركوبه في سيارته وقيادته لها، يعرف السفيه أحياناً من مشيته، ويعرف أصحاب النفوس الضيقة أيضاً في مزاولاتهم في مشيتهم، وهذا شيء مشاهد، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ، تمشي مشياً معتدلاً، وهذا لا ينافي ما جاء عن النبي ﷺ أنه كان إذا مشى أسرع[1]، وأبو هريرة يقول: "وإنا لنجهد وهو غير مكترث"[2]، نحاول أن نلحق به، فليس المقصود به أنه كان يسرع إسراعاً زائداً كالذي يهرول مثلاً، وإنما جاء في مشيته: "كأنما ينحط من صبب"[3]، فكان يضع ﷺ قدماً ويرفع أخرى، لا يسحب رجله على الأرض، ولا يمشي مشياً متماوتاً أو متكاسلاً، وإنما يمشي مشية ثابتة قوية لا تباطؤ فيها ولا تماوت وإنما فيها إسراع مع تؤدة، فالمشية تدل على صاحبها غالباً، مع أن الإنسان قد يتصنع شيئاً كما قيل: "كم من متئد وهو ذئب أطلس"، لكن لا يظن أن الوقار في التباطؤ في المشي، وابن عاشور - رحمه الله - ذكر هذا المعنى في بعض كتبه غير التفسير، وتحدث عن عادة غالب من رآهم في بلده ممن ينتسب إلى العلم، وعاب طريقتهم في مشيتهم، ومزاولاتهم وحركاتهم، وما هم فيه من التباطؤ، وأنهم يظنون أن ذلك من كمال الوقار، فالمقصود أن يمشي الإنسان مشية ثابتة معتدلة بين الإسراع المفرط والتباطؤ والتماوت في المشية.

ومثل هذه الأمور الظاهرة تؤثر في نفس الإنسان، في نفس صاحبها، - والله المستعان -، فلباسه يؤثر، ومشيته تؤثر، وكلامه يؤثر، كل ذلك يؤثر فيه، ولذلك بعض الناس قد تكون حاله أقرب إلى العلة والمرض ولربما كان ذلك أو كثير منه بسبب مزاولاته هذه، ومن الناس من يكون في حال من الانطلاقة وإشراق النفس والتفاؤل والحزم وما إلى ذلك، وهذا مما يؤثر فيه هذه الأمور.

وقوله: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أي: لا تبالغ في الكلام، ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه؛ ولهذا قال: إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ قال مجاهد وغير واحد: إن أقبح الأصوات لصوت الحمير، أي: غاية مَنْ رفع صوته أنه يُشبه بالحمير في علوه ورفعه، ومع هذا هو بغيض إلى الله تعالى، وهذا التشبيه في هذا بالحمير يقتضي تحريمه وذمه غاية الذم؛ لأن رسول الله ﷺ قال: ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه[4].

يعني التشبه بالحيوانات لا يجوز، وكذا التشبه بالشياطين، وبالكفار والفساق؛ ولهذا نهى النبي ﷺ عن بروكٍ كبروك الجمل أو البعير، وغير ذلك مما جاء النهي عنه كانبساط الكلب في الصلاة، فهنا في الصوت، وقد ذكر بعضهم أن صوت الحمار أوله زفير وآخره شهيق، بدايته زفير وآخر الصوت شهيق، ويكفي قول الله : إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ، فمن تكلموا على الأصوات ذكروا قبح صوت الحمار، وأنه أقبح الأصوات على الإطلاق، لكن قول الله لا يُحتاج معه إلى غيره.

فهذا الذي يرفع صوته رفعاً زائداً من غير حاجة مشبه بالحمار؛ لأن ذلك من الأمور المنكرة، فهو وإن لم يكن يتشبه بالحمار بصوته بعينه من زفير وشهيق كما يصدر ذلك من هذه البهيمة تماماً، لكن الرفع في الجملة مشبه بذلك، إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ، صوت مرتفع تنفر منه النفوس السوية وتكرهه، ولذلك جاء في وصف النبي ﷺ "أنه ليس سَخّاباً في الأسواق"[5]، ورفع الأصوات رفعاً زائداً من غير حاجة أمر يخل بمروءة صاحبه، أمر ينقصها، بل قد يذهبها بالكلية، وهذا لربما يقع في الأسواق، ولربما يقع في المجالس، فالناس لربما اعتاد بعضهم أن يرفع صوته من غير حاجة في المجالس وهو يتحدث، ولربما يقع بالأبواب، كما قال الله : إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [سورة الحجرات:4]، فبعض الناس يرفع صوته رفعاً زائداً من غير حاجة، ينادي أهل الدار، ينادي صاحبه، وكان يمكن أن يكتفى بغير ذلك، فإذا رأيت الرجل يتصرف هكذا، فإن ذلك يكون حطًّا من مرتبة، ولربما ترى الرجل وتظن أنه من أهل الكمالات في المروءات ونحو ذلك، فإذا سمعته تكلم لربما لم يكن كما سبق إلى الظن والنفس من حاله، والمرء بأصغريه.

فهذه وصايا نافعة جداً، وهي من قَصص القرآن العظيم عن لقمان الحكيم، وقد روي عنه من الحكم والمواعظ أشياء كثيرة، فلنذكر منها أنموذجاً ودستوراً إلى ذلك.

روى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: أخبرنا رسول الله ﷺ قال: إن لقمان الحكيم كان يقول: إن الله إذا استودع شيئا حفظه[6].

هذا ثبت عن النبي ﷺ من قوله، من غير إضافة له إلى لقمان، يعني جاء هذا من كلام النبي ﷺ بإسناد صحيح، أمّا بهذا السياق أن لقمان قال ذلك فإنه لا يصح عن رسول الله ، فيكون هذا النص من كلام النبي ﷺ ثابتاً من غير نسبة إلى لقمان.

وروى ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله ﷺ قال: قال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني إياك والتقنع فإنه مَخْوَفة بالليل، مذمة بالنهار[7].

التقنع بمعنى أنه يغطي وجهه، إياك والتقنع، فإنه أمر مخيف في الليل، يعني كأنه يريد أن يعمل عملاً، أن يجني جناية، ومذمة في النهار، الناس إذا رأوا إنساناً يفعل هذا من غير حاجة، أنت الآن في المسجد، وإنسان جالس في الدرس، أو في الكلية، في المدرسة، ومثل هذا، أنتم تبتسمون الآن؛ لأنه مذمة بالنهار، فإذا رأيت من يفعل هذا فإن ذلك يكون نقيصة في حقه، فهو كما قلت بأن مثل هذه التصرفات التي يظن بعض الناس أنها يسيرة إلا أنها تؤثر في مروءة صاحبها، ويرجع ذلك إلى نفسه، كما قال شيخ الإسلام في الاقتضاء بأن لباس الإنسان وما أشبه ذلك يؤثر فيه، ولهذا نهي عن التشبه بالكفار؛ لأن المتشبه بهم يجد في نفسه ميلاً إليهم، انجذاباً إلى هؤلاء، - والله المستعان -، لذلك ذكرنا أن الذي يلبس لباس الجند يجد في نفسه توثباً للقتال، والذي يلبس زي العلماء - في وقتهم كانوا يلبسون لباساً معيناً - يجد في نفسه ميلاً إلى الوقار، وقل مثل هذا في الذي يلبس ملابس رياضية يجد في نفسه خفة.

وروى عن الثري بن يحيى قال: قال لقمان لابنه: يا بني، إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك.

وروى أيضاً عن عَوْن بن عبد الله قال: قال لقمان لابنه: يا بني، إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام - يعني السلام - ثم اجلس في ناحيتهم، فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا، فإن أفاضوا في ذكر الله فَأجِلْ سهمك معهم، وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم.

هذا كأنه يعني مما أخذ وتلقي من بني إسرائيل، ومثل هذا يحدث به، ونقل عنه أشياء كثيرة هي من قبيل الحكمة الله أعلم بصحتها، فمن ذلك مثلاً، هم يقولون: إنه مملوك، وكثيرون يقولون: إنه من بلاد النوبة، يعني: جنوب مصر، وشمال السودان، ويقولون: إن سيده طلب منه قال له: اذبح هذه الشاه، وأعطني أطيب شيئين فيها، فأعطاه القلب واللسان، وفي مرة أخرى قال له: اذبح هذه الشاه وأعطني أسوأ شيئين فيها، فأعطاه القلب واللسان، فسأله متعجباً، فقال: لا أطيب منهما إذا صلحا، ولا أسوأ منهما إذا فسدا، هذه حكمة، والمعنى صحيح، والله أعلم.

  1. رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (4213).
  2. رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/380)، وضعفه الألباني في مختصر الشمائل المحمدية، برقم (100).
  3. رواه أحمد في المسند، برقم (746)، وقال محققوه: حسن لغيره، والحاكم في المستدرك، برقم (4194)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه بهذه الألفاظ، وحسن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة، (5/119)، في كلامه على حديث رقم (2083). 
  4. رواه البخاري، كتاب الهبة وفضلها، باب هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها، برقم (2449)، ومسلم، كتاب الهبات، باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ما وهبه لولده وإن سفل، برقم (1622).
  5. رواه البخاري، كتاب البيوع، باب كراهية السخب في السوق، برقم (2018).
  6. ثبت عن النبي ﷺ من قوله لا نسبة إلى لقمان رواه البيهقي في السنن الكبرى، برقم (18358)، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (919)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2547)، وفي صحيح الجامع، برقم (1708)، ورواه النسائي في السنن الكبرى منسوباً للقمان، برقم (10350)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (3191)، وفي ضعيف الجامع، برقم (1921).
  7. رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، برقم (26213).