وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ قال: لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم أو كلموك احتقاراً منك لهم، وأصل الصعر هو الميل، وهذا جاء في كلام العرب وأشعارها، ولهذا يقولون للداء المعروف الذي يصيب الإبل فيحصل لها التواء في أعناقها: صعر، وبعضهم يقول: لا تمل شدقك إذا ذُكر عندك أحد احتقاراً له، يعني يعمل بشفته أو بشدقه، يُميل ذلك ليفهم الناظر أنه يقصد احتقار هذا المذكور، ولكن هذا وإن كان فيه ميل إلا أن الله قال: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ، لكن كأن هؤلاء نظروا إلى الارتباط بين الخد والشدق، فإذا أمال شدقه أثر ذلك في خده، نظروا إلى هذه الحيثية، فقالوا: لا تمل شدقك، وكأنهم نظروا إلى الارتباط بين الشدق والخد، وبعضهم كابن خويز منداد حمله على أن لا يُذل الإنسان نفسه، كيف يذل الإنسان نفسه من غير حاجة؟، إما بسؤال الناس، أو بأن يقف موقف مذلة، أو يفعل فعلاً يودي به إلى المذلة، وقد جاء عن النبي ﷺ أنه ليس للمؤمن أن يذل نفسه، وبين النبي ﷺ هذا بأن يتعرض من البلاء لما لا يطيق.
وهذا ليس هو ظاهر المعنى في الآية، وإنما الظاهر المتبادر، وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ بمعنى أنه يعرض عنهم إذا كلمهم، وهو لا يلقاهم بوجهه، لا يستقبلهم بوجهه إذا كلمهم، وإنما يكلمهم هكذا، يتكلم مع الناس بهذه الطريقة كالإبل التي أصيبت بالصعر، أعناقها مائلة، فهو كأنه لكبره وتعاليه وتعاظمه يأنف من أن ينظر إلى الناس فتكلم معهم بهذه الطريقة، ولا تصعر خدك للناس، ولاحظ هذه الأشياء - يعني الآداب - لا ترفع صوتك رفعاً زائداً، لا تصعر خدك، لا تمش في الأرض مرحاً، هذه لربما يرى بعض الناس أنها أمور من الآداب يسيرة، ليست قضايا تتصل اتصالاً مباشراً بالنجاة، يعني الإيمان مثلاً، ولكن إذا نظرت إلى هذا مع ما جاء في صفات أهل الإيمان في سورة الفرقان، فأول ما بدأ به وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [سورة الفرقان:63]، وإذا نظرت إلى ما جاء أيضاً في الوصايا في سورة الإسراء وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا [سورة الإسراء:37]، فدل ذلك على كمال الشريعة، وأن قضاياها قضايا مترابطة متلازمة، وأن هذا الإيمان يظهر في سلوك الإنسان في مشيته، وفي تصرفاته وكلامه مع الناس، وتعامله معهم، وأن هذه القضايا لا تستصغر ولا تستسهل، وأن هذه التربية لازمة حيث جاء القرآن مقرراً لها في مثل هذه المقامات، فينبغي أن يعتنى بها كما يعتنى بالقلب وصلاحه، فإنه يعتنى أيضاً بمثل هذه الأمور من السمت الحسن وكمال المروءات والأخلاق الفاضلة.
الفرح غير مذموم بإطلاق، وإنما المقصود به فرح خاص، وهو الفرح الذي يحمل صاحبه على الأَشَر والبطر، والتعالي والتعاظم، والتكبر، والاختيال على الناس، والفرح ينقسم إلى ثلاثة أنواع: فرح بأمور يحبها الله ، قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [سورة يونس:58]، فيفرح الإنسان حينما يُحصّل الكمالات الدينية، ويفرح حينما يَحصل شيء من ذلك لأهل الإيمان أو للأمة، كانتصار المسلمين ونحو ذلك، وكذلك النوع الثاني: وهو الفرح المباح، وهو فرحه بما يحصل له من اللذات والكمالات الدنيوية، فرح لأنه نجح مثلاً، هذا جائز لا إشكال فيه، والنوع الثالث: هو النوع المحرم، إما أن يفرح بتحصيل مطلوبات نفسه المحرمة، فهذا لا يجوز، أو يفرح بما يسوء غيره من إخوانه المسلمين، أو يفرح بما يحصل لعموم الأمة من غلبة الأعداء ونحو ذلك، أو كان فرحه من النوع المذكور في الآية: وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا، وهو فرح خاص، الفرح الذي يحمل صاحبه على الأشر والبطر والكبرياء والخيلاء والتعاظم، وما أشبه ذلك، ولا زال الناس يستعملون هذا إلى يومنا الذي نعيشه، يقال: فلان فرِحٌ بنفسه، يقصدون بذلك أنه مغرور متعاظم يرى نفسه، فرحٌ بنفسه، آل فلان فرحون بأنفسهم، بنفس المعنى، وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا قال: أي خيلاء متكبراً جباراً عنيداً، ثم بين ذلك بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ فهذا مما يفسره، يعني تمشي بخيلاء وتعاظم، ومن هذا التعاظم الفخر، الفخر بالمآثر، الفخر بمكاسبه، بمكاسب آبائه وأجداده، وما حصلوه من الأمور الحسية أو المعنوية.