وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [سورة لقمان:22-24].
يقول تعالى مخبراً عمن أسلم وجهه لله، أي: أخلص له العمل وانقاد لأمره واتبع شرعه؛ ولهذا قال: وَهُوَ مُحْسِنٌ أي: في عمله، باتباع ما به أمر، وترك ما عنه زجر.
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ، هنا فسره بالإخلاص، وهذا صحيح.
فلواحدٍ كن واحداً في واحد | أعني سبيلَ الحق والإيمانِ |
فالإنسان يسلم وجهه لله فلا يكون في قلبه منازعة، أدنى منازعة، فلا يلتفت في عمله إلى غير الله - تبارك وتعالى -، وإسلام الوجه لله - تبارك وتعالى - بمعنى إسلام النفس في تحقيق العبودية لله وحده دون ما سواه، يعني: أنه يُعبِّدُ وجهه، يُعبِّدُ نفسه، فالوجه هنا مراد به أن يُعبِّد الإنسان نفسه لله - تبارك وتعالى -، وذكر الوجه له معنىً ودلالة أخص هنا بلا شك، أن يتوجه بعبادته وقلبه وكليته إلى ربه وخالقه فلا يلتفت إلى أحد سواه، وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ، وهو محسن في عمله بقلبه ولسانه وجوارحه، وهذا الإحسان على مراتب أعلاها أن يعبد الله كأنه يراه، فتكون هذه الآية قد اشتملت على ما يذكر من شروط العمل في مواضع من كتاب الله - تبارك وتعالى -، الإخلاص والمتابعة؛ لأن العمل لا يمكن أن يتحقق فيه وصف الإحسان إلا إذا كان قد تابع فيه النبي ﷺ، على وفق ما شرَّعه الله - تبارك وتعالى -، وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [سورة الكهف:2]، وذكر الإيمان، وهو الشرط الثالث في قبول الأعمال، فيكون عمل الصالحات منتظماً للإخلاص والمتابعة في أول سورة الكهف، في آخرها: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [سورة الكهف:110]، فالعمل الصالح هو الصواب، وَلَا يُشْرِكْ ينتظم: الإيمان والإخلاص، فصارت شروط قبول العمل ثلاثة؛ لأن الإنسان إذا كان مخلصاً وعمله على شرع الله ، ولكنه لم يكن من المؤمنين لا يقبل العمل أبداً، وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [سورة الفرقان:23]، أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ [سورة إبراهيم:18]، أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ [سورة النور:39]، وإذا كان العمل قد صدر من المؤمن ولكن من غير إخلاص فلا يقبل، فإذا كان بإخلاص ولكنه مبتدع فإنه لا يقبل.
العروة الوثقى أي اعتصم بالعهد الأوثق، اسْتَمْسَكَ، ولاحظْ اسْتَمْسَكَ، زيادة المبنى لزيادة المعنى، ما قال: تمسّكْ، اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، والأحرف الثلاثة في أوله تدل على الطلب، اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، يعني: كأنه تمسك بالحبل والسبب الأوثق في النجاة، فكثير من الناس يتمسك بأوهام وأمور ما أنزل الله بها من سلطان فيضل، فيعبد حجراً، أو شجراً، أو قبراً، أو يعبد غير ذلك مما يُعبِّدُ الضالون نفوسهم له من دون الله - تبارك وتعالى -، فهؤلاء إنما يتبعون وهماً، وليس لهؤلاء من حقيقة، فالله - تبارك وتعالى - هو الإله الحق وحده دون ما سواه، فالذي يعبد الله - تبارك وتعالى - موحداً له، يُعبِّدُ نفسه له مع استقامة في العمل ومتابعة للنبي ﷺ يكون قد استمسك بالعروة الوثقى، أخذ بالسبب المتين، السبب الوثيق في النجاة، من أراد أن يحصل النجاة فعليه أن يسلك هذا المسلك، وأن يسير على هذا الطريق من الإخلاص، تحقيق العبودية لله - تبارك وتعالى -، مع إصلاح العمل بالقلب واللسان والجوارح، هذا طريق النجاة، اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، يقولون: مثل من أراد أن يصعد جبلاً فتمسك بحبل، تعلق به، فهذا الذي يريد أن يصل إلى الله - تبارك وتعالى -، فإذا حقق هذه الأمور فهذا هو طريق سلامة محققة، هذا هو الطريق الوحيد للنجاة، هذا هو سلوك المحجة الواضحة لا الأوهام التي لا توصله إلى مطلوبه، فهذا من فضل الله على العباد، وهذا من نعمه عليهم، أن بيّن لهم ما يحتاجون إليه، فلم يحوجهم إلى اجتهادات وتخرصات، واتباع أمور مظنونة، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: إن كل ما تتوقف عليه النجاة قد جاء بيانه في هذه الشريعة بياناً لا يدع في الحق لبساً، وإنما الاختلاف في أمور لا تتوقف عليها النجاة، في قضايا أخرى تفصيلية لا تتوقف عليها نجاة الإنسان.
وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ.