وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [سورة لقمان:27-28].
يقول تعالى مخبراً عن عظمته وكبريائه وجلاله، وأسمائه الحسنى وصفاته العلا وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد، ولا اطلاع لبشر على كنهها وإحصائها، كما قال سيد البشر وخاتم الرسل: لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك[1]، فقال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ أي: ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاماً، وجعل البحر مداداً ومَده سبعة أبحر معه، فكتبت بها كلمات الله الدالة على عظمته وصفاته وجلاله لتكسرت الأقلام، ونَفدَ ماء البحر، ولو جاء أمثالها مَدَداً.
وإنما ذكرت السبعة على وجه المبالغة، ولم يرد الحصر ولا أن ثم سبعة أبحر موجودة تحيط بالعالم، كما يقوله من تلقاه من الإسرائيليات التي لا تُصدق ولا تكذب، بل كما قال تعالى في الآية الأخرى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [سورة الكهف:109]، فليس المراد بقوله: بِمِثْلِهِ آخر فقط، بل بمثله ثم بمثله ثم بمثله، ثم هلم جرا؛ لأنه لا حصر لآيات الله وكلماته.
يعني فهمَ ذلك أن المراد به التكثير، بِمِثْلِهِ أو سَبْعَةُ أَبْحُرٍ باعتبار أن العدد سبعة يقال للتكثير، مثل السبعين، اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ، بهذا الاعتبار، وقوله: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ شجرة، الشجرة مفرد أو جمع؟ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ الأقلام جمع، مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ، وحد الشجرة؛ لأن استغراق المفرد أشمل، كما يقوله أهل البلاغة، يعني شجرة، شجرة، وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ، كأنه قال: كل شجرة شجرة، حتى لا يبقى من جنس الشجر شيء، لا تبقى واحدة إلا بُريت قلماً، بريت أقلاماً، ما تنفذ كلمات الله، المداد: الحبر، ولو كان يمده أبحر كثيرة فإن كلمات الله لا تنفد، فالكلمات هنا ابن كثير - رحمه الله - لم يوضح المراد بها على سبيل التحديد، قال هنا: وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد، ولهذا بعضهم يقول: إن الكلمات هنا كلماته أي معلوماته، النحاس يقول: العلم وحقائق الأشياء، يعني قبل أن توجد؛ لأن الله عَلِم قبل أن يخلق كما هو معروف في مراتب القدر، المرتبة الأولى مرتبة العلم؛ ولهذا يقيده بعضهم بأنه ما كان في المقدور قبل أن يوجد، والظاهر - والله تعالى أعلم - أن المراد هنا بالكلمات ما هو أشمل من ذلك، فكلمات الله - تبارك وتعالى - نوعان: الكلمات الكونية التي يحصل بها الإيجاد والإعدام والخلق وما إلى ذلك، وهذه التي قال فيها النبي ﷺ: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق[2]، هذه التي يستعيذ بها الإنسان، لا يجاوزها بر ولا فاجر، مع أنه لو استعاذ بالكلمات الشرعية فهو كلام الله، استعاذة صحيحة، لكن المناسب الكلمات الكونية التي لا تُجاوَز؛ لأن الإنسان يريد الحفظ، ومقاليد الأمور بيد الله ، ونواصي الخلق في قبضته، فيستعيذ بكلماته الكونية، حينما تقول: أعوذ بكلمات الله التامات، فهذه الكلمات هي التي يحصل بها الخلق، والإيجاد والإعدام والرزق، وما إلى ذلك، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [سورة الطلاق:12]، والنوع الثاني من الكلمات هي الكلمات الشرعية، كلامه - تبارك وتعالى - في الكتب المنزلة وما إلى ذلك، هذه كلماته الشرعية، فالمقصود أن البحار لو كانت مداداً حبراً، وكل ما في الأرض من شجرة بُريت وصارت أقلاماً ما نفدت كلمات الله ، فيدخل في هذا كلماته الكونية التي بها يخلق، ويدخل في هذه الكلمات الشرعية، ولهذا ابن القيم - رحمه الله - يحتج في بعض كتبه على الذين يقولون: إن الكلام معنى واحد في النفس وإنه لا تعاقب فيه ولا انقضاء إلى آخره، يحتج عليهم ويرد عليهم بهذه الآية، فالله - تبارك وتعالى - يتكلم كيف شاء متى شاء، وكلامه يتعلق بمشيئته وإرادته، تكلم في الماضي، ويتكلم متى شاء، وأخبرنا أنه يتكلم في الآخرة، ويقول: أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ، وما إلى ذلك مما يتكلم الله به، فكلماته شرعية وكونية، وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ، فهذا أمر يخرج عن تصور العقول وعن إحاطتها، فالله أعظم وأجل من ذلك، مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ، وهذا يدل على عظمة المعبود وتقدست أسماؤه، سبحانه ما عبدناه حق عبادته، فهذا هو الله الذي نصلي له ونسجد ونتعبد، ونذكره، ونلجأ إليه فيما أهمنا وفي حال الرغبة، فالمؤمن الذي يعتصم به يكون قد هدي إلى صراط مستقيم، ويكون قد لجأ إلى ركن عظيم، فلا يضعف المؤمن وينقبض قلبه ويشعر بالهزيمة حينما يرى أهل الباطل ينتشون ويتطاولون ويترفعون، فإن أمرهم إلى بوار، وما يضرون بذلك إلى أنفسهم ولا يضرون الله شيئاً، إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ [سورة آل عمران:176]، فهذا هو شأن المؤمن.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي: عزيز قد عَز كلَّ شيء وقهره وغلبه، فلا مانع لما أراد ولا مخالف ولا معقب لحكمه، حَكِيمٌ في خلقه وأمره، وأقواله وأفعاله، وشرعه وجميع شئونه.
- رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم (486).
- رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، برقم (2708).