السبت 02 / محرّم / 1447 - 28 / يونيو 2025
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُو۟لَٰٓئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ۝ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة لقمان:6-7].

لما ذكر تعالى حال السعداء، وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه، كما قال تعالى: اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [سورة الزمر:23] الآية، عطف بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب، كما قال ابن مسعود في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: هو والله الغناء.

وقال قتادة: قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ: والله لعله لا ينفق فيه مالا ولكنْ شراؤه استحبابه، بحسب المرء من الضلالة أن يختارَ حديثَ الباطل على حديث الحق، وما يضر على ما ينفع.

وقيل: أراد بقوله: يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ اشتراء المغنيات من الجواري.

واختار ابن جرير أنه كل كلام يصد عن آيات الله واتباع سبيله.

قوله - تبارك وتعالى -: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا، جاء في أسباب النزول روايات كثيرة في تسمية بعض الأفراد، وأن ذلك في النضر بن الحارث، ويذكرون في ذلك أشياء، تذكر هذه الروايات أشياء متنوعة، من كونه ذهب إلى بلاد فارس، وكان يذهب إلى بلاد الروم، وأنه يشتري كتبهم ويأتي بأخبار وقصص إسفنديار وكسرى وأمثال هؤلاء، ويقول للناس: إن محمداً ﷺ يذكر خبر عاد وثمود وأنا أحدثكم بأخبار كسرى وإسفنديار، هكذا جاء في بعض الروايات ولكنه لا يصح منها شيء، لا يصح من ذلك شيء، وجاء أنه أيضاً كانت له قينة - مغنية يعني - وأنه إذا سمع بأن أحداً استمع القرآن، أو تأثر بالقرآن أو نحو ذلك، بعث إليه هذه القينة تسقيه وتغنيه؛ ليصده عن الإيمان، وكل ذلك لا يصح، والآية عامة في كل من ينطبق عليه هذا الوصف، وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ، والشراء هنا يمكن أن يكون بمعنى الاختيار والاستحسان، كما قال الله - تبارك وتعالى -: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى [سورة البقرة:16]، يعني ليس المقصود بذلك أن يكون هناك ثمن يدفعه، وإنما اختاروا الضلالة على الهدى، وقد مضى الكلام على ذلك، وهل كانوا مهتدين حتى يبذلوا الهداية، ويستعيضوا عنها بالضلالة، وأن ذلك ليس بلازم.

المعنى: الاختيار والاستحسان، فهنا هذا يمكن أن يفسر به يَشْتَرِي، فلا يكون هناك شراء بالمعنى المعروف في المعاملة أو المعاطاة أو نحو ذلك، وإنما المقصود أنه يختار ذلك على سماع القرآن والاشتغال بالقرآن، - نسأل الله العافية -، فيقبل على هذه الأمور التي تصده وتلهية وتشغله عن ذكر الله - تبارك وتعالى - وكلامه، وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ، كما قال الشاعر:

بدّلتُ بالجُّمة رأساً أزعرا وبالثنايا الواضحاتِ الدّردرا
وبالطويل العمر عمرا حيدرا كما اشترى المسلم إذ تنصرا

 يعني: كما اختار، إذ تنصر.

فهو ما بذل ثمناً، فمَن مال إلى هذه الأشياء وأقبل عليها واشتغل بها يكون قد اشترى لهو الحديث، ولهو الحديث هنا يصدق على الغناء، وبهذا فسره عامة أهل العلم من السلف فمن بعدهم، بل عزاه القرطبي - رحمه الله - إلى الصحابة والتابعين، أنهم بهذا فسروا لهو الحديث، ولا شك أن الغناء داخل فيه، وأنه من أعظم ما يشغل عن ذكر الله ، وأنه يزاحم ذلك في قلب العبد مزاحمة لا خفاء فيها، ولكن ذلك لا يختص بالغناء، فإن لهو الحديث يصدق على هذا، ويصدق على الاشتغال بقصص هؤلاء من الفرس والأعاجم، ويصدق على كل اشتغال مما يقرؤه الإنسان أو يسمعه من الحكايات ونحوها من كلام بعض أصحاب الحكايات الذين اشتغلوا بذلك وصار صنعة لهم، يتكسبون به المال ونحو ذلك، فأقبل كثيرون على سماع حكاياتهم وأعرضوا عن كلام الله ، فالواحد منهم لا يسمع القرآن ولا يقرؤه ولكنه يقبل إقبالاً عظيماً على مثل هؤلاء من أصحاب هذه الحكايات التي لربما كثير منها ملفق، وقد راجت سوقها في هذه السنوات وعُرف بها من عرف، فهذا قد يدخل فيه، أعني الإكثار والاشتغال والإعراض عن القرآن، وقل مثل ذلك في سائر أنواع الاشتغال بأصناف الكلام والحديث والكتب وما إلى ذلك من قراءة الكتب غير النافعة، والاشتغال مثلاً بالكتب المترجمة وما إلى ذلك، وهو لا يقرأ القرآن، ولا يرفع بذلك رأساً، فهذا يدخل في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.

قال: واختار ابن جرير أنه كل كلام يصد عن آيات الله، ابن جرير قيده بالكلام دون الاشتغال بالألعاب مثلاً أو نحو ذلك؛ لأن الله قال: لَهْوَ الْحَدِيثِ، فهو مقيد بالحديث، ولكن من اشتغل باللهو من الفعل ونحو ذلك فهذا يمكن أن يدخل بهذا، لا أخذاً من ظاهر اللفظ وإنما بنفي الفارق، لا فرق من هذه الحيثية بين أنواع الاشتغال الذي يصرف عن كلام الله وعن ذكره.

وهذه اللفتة التي ذكرها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - مهمة ومفيدة في أول الكلام، لما ذكر حال السعداء، وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه، عطف بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله وأقبلوا على استماع المزامير والغناء، ويدخل في هذا أولائك الذين يستمعون الأصوات المطربة، ويسمون ذلك بالأناشيد، فإن كثيراً من هذه الأناشيد لا شك قطعاً أنها من قبيل الغناء، ومن سمعها فإنه لا يتردد في الحكم بتحريمها، أعني بعض هذه المسموعات، بل هو الغالب الكثير هذه الأيام، وصار أصحابها يتعلمون أنواع الأداء التي يؤدي بها أهل الفسق لحونهم، وصاروا على حال لا أقول مشابهة، بل مطابقة لأولائك، وأما ما يدخل في هذا من ألوان المؤثرات التي تؤدي أصوات المعازف فهذا أمر معلوم لكل أحد، فالذي يكثر من سماع هذا ويشتغل به، حتى يصير ديدناً له فإن ذلك يزاحم القرآن في قلبه، ولا يشترط في هذا وجود الصورة المركبة كاملة؛ لأنه قال هنا: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ  أعني أن يلحقه الذم، ليس بلازم أن يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله، ولكنه ذكر الصورة الكاملة، هذه أسوأ الأحوال، ولكن من اشتغل بذلك ولم يقصد الإضلال عن سبيل الله فهو ممن اشترى لهو الحديث، ولكن هؤلاء على درجات، ليسوا على مرتبة واحدة، ولكن الذم يلحق الجميع، وإن تفاوتوا فيه، فمن أراد أن يهتدي بالقرآن وأن ينتفع به فليكن من المحسنين، وليقبل عليه بكليته وليعطيه ما يستحق من أفضل أوقاته لا من فضول أوقاته، وبهذا يُفتح عليه في القرآن.

والإنسان لا يعرف مثل هذا السماع مما يسمونه بالأناشيد، فضلاً عن الغناء الواضح الصحيح، ومع ذلك يجد من المعاناة والمكابدة في تفهم كلام الله وتدبره، وإحضار قلبه، وإن الإنسان ليعجب ما حال أولائك المشتغلين بهذه المنكرات، كيف تكون حالهم مع القرآن؟ فهذا من أعجب الأشياء، والله المستعان.

وقوله هنا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، ذكر قول قتادة: والله لعله لا ينفق فيه مالاً ولكنْ شراؤه - إذا كانت ساكنة - استحبابه بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق، كلام قتادة هذا بمعنى الاستحسان، هذه القول الآخر الذي أشرت إليه، يعني من قال: إنه يشتري كتب فارس والروم، أو يشتري قينة مغنية، يدفع ثمناً، فهذا بمعنى الشراء الذي بالمعنى الأول، وأما الثاني فهو بمعنى الاستحسان كما يدل عليه قول قتادة - رحمه الله.

وابن مسعود قال: هو والله الغناء، وجاء في بعض الروايات أنه أقسم ثلاثاً أنه الغناء، وابن مسعود من أعلم الناس بكتاب الله ومعاني كلامه.

وقوله - تبارك وتعالى -: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، "ليضل" هذا فيه قراءتان، قراءة الجمهور ليُضِلَّ، كما نقرأ، والقراءة الأخرى متواترة لأبي عمرو وابن كثير لِيَضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بفتح الياء، لِيَضِلَّ، لِيُضِلَّ يعني ليُضل غيره، ويَضل يعني: هو في نفسه، يَضل في نفسه.

قال: يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فهذان منصوبان على الحال، يعني حال كونه هكذا، يعني غير عالم بحال ما يشتريه، لو كان يعرف ما ينفع ويضر لما فعل ذلك، أو غير عالم بحال ما ينفعه أو يضره، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ.

وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا، الجمهور قرءوا هذا بالرفع وَيَتَّخِذُهَا هُزُوًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، يَشْتَرِي مرفوع، وَيَتَّخِذُهَا فيكون "يتخذها" معطوفاً على "يشتري"، يشتري لهو الحديث وَيَتَّخِذُهَا هُزُوًا، يعني: يشتري ويتخذُها، فيكون مرفوعاً بهذا الاعتبار، معطوف على يشتري، أو على الاستئناف، وَيَتَّخِذُهَا هُزُوًا، يتخذها يعني يتخذ آيات الله ، فيكون الضمير يرجع إلى غير مذكور مما يفهم من السياق مثلاً، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ يعني: القرآن، وإن لم يَرد له ذكر قبل ذلك.

وفي القراءة الأخرى قراءة حمزة والكسائي بالنصب، يعني: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا، فيكون معطوفاً على قوله: لِيُضِلَّ، ويرجع الضمير وَيَتَّخِذَهَا إلى السبيل، لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَتَّخِذَهَا أي: السبيل يتخذها هزواً، فيكون ذلك من جملة التعليل للتحريم.

وعلى قراءة الفتح لِيَضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فتح الياء، لِيَضِلَّ يمكن أن تكون اللام للتعليل، يعني: يفعل ذلك ليضل، ويمكن أن تكون بمعنى العاقبة، يمكن أن تكون للعاقبة، يعني كما قال الله : فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [سورة القصص:8]، أن هذه اللام في ليكون بالنسبة لله هي لام التعليل، وبالنسبة لهم هي لام العاقبة، وأن هذا تحرير جيد ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في غير ما موضع من هذا الكتاب.

فمن أراد أن يتوسع في هذا ويعرف كلام أهل العلم والآثار المنقولة عن السلف في الغناء فليراجع كتاب السماع، مسألة السماع للحافظ ابن القيم - رحمه الله -، وكذلك ما ذكره في كتابه الآخر "إغاثة اللهفان" فقد أطال في إيراد الآثار والنصوص الواردة في الباب مما يدل على تحريم الغناء، ولا تكترث بقول من يبيحه فإن ذلك قول ساقط لا عبرة به، - والله المستعان -، ولكن الشيطان ما يترك أحداً، لمّا أعرض الأخيار عن سماع هذا الغناء الذي هو رقية الزنا دخل عليهم الشيطان من باب آخر سموه بالأناشيد، سماه لهم بالأناشيد، فأشغل كثيرين به، وعند نفسه أنه من الأتقياء الصالحين الحافظين لحدود الله ، وهو من أهل الطرب والاشتغال بهذه - والله المستعان - الأصوات المطربة، ولا أعمم، لا أقول: كل الأناشيد، وإنما أقول: ما كان بهذه المثابة.

وقوله: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: إنما يصنع هذا للتخالف للإسلام وأهله.

وقوله تعالى: وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا قال مجاهد: ويتخذ سبيل الله هزواً، يستهزئ بها.

وقوله: أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ أي: كما استهانوا بآيات الله وسبيله أهينوا يوم القيامة في العذاب الدائم المستمر.