الإثنين 19 / ذو الحجة / 1446 - 16 / يونيو 2025
أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُۥنَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ۝ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نزلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ۝ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ۝ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [سورة السجدة:18-22].

يخبر تعالى عن عدله وكرمه أنه لا يساوي في حُكمه يوم القيامة مَنْ كان مُؤمناً بآياته متبعاً لرسله بمن كان فاسقاً، أي: خارجاً عن طاعة ربه مكذِّباً لرُسُله إليه، كما قال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [سورة الجاثية:21]، وقال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [سورة ص:28]، وقال تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ الآية، ولهذا قال تعالى هاهنا: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ أي: عند الله يوم القيامة.

هنا الذي حمل ابن كثير - رحمه الله - على تفسير ذلك بكونه يوم القيامة، أن الله - تبارك وتعالى - قال: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نزلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ، فهذا تفصيل لما سبق، وتبيين له، فهذه القرينة، فهذا لا إشكال فيه، لا يستوون يوم القيامة، ولكن نفي الاستواء يحمل على أعم معانيه، فهم لا يستوون في حياتهم وصفاتهم، ولا يستوون عند مماتهم، ولا يستوون في البرزخ، ولا يستوون في القيامة، ولا يستوون في منازلهم التي يصيرون إليها، الجنة أو النار، لا يستوون من كل وجه؛ ولهذا في الآية الأخرى التي ذكرها أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ [سورة الجاثية:21]، فهم لا يستوون في الحياة ولا يستوون في الممات أو بعد الممات؛ ولهذا فإن الله - تبارك وتعالى - يعد أولياءه في الدنيا بالسعادة والانشراح، أمور ذكرها الله - تبارك وتعالى - في مواضع من كتابه، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً[سورة النحل:97]، فوعدهم بالحياة الطيبة، المقصود بالحياة الطيبة يعني: ما يحصل للمؤمن من الانشراح والسعادة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، والمقصود بها هذا، وهذا يتفاوت الناس فيه تفاوتاً كثيراً، ولكن الإنسان قد يخفى عليه بعضه، وإذا أردت أن تنظر قد لا يصل الإنسان إلى مراحل من اللذة والسعادة لضعف إيمانه وكمالاته، فلربما يسمع هذا الكلام ويستشكل، لكن دعنا مما يحصل لعامة الناس، وأعطيكم مثلين لمن ينظر من الخارج، بعض من أسلم من رجال الاستخبارات الغربية أيام الاستعمار، رجل كان يعيش في الصحراء الكبرى، مع البادية والرعاة، ولا تسأل عن حال أولائك في ذلك الوقت من الجهل والبدع والخرافة، أليس كذلك؟، ومع ذلك الرجل كان يتعجب من حياتهم، جاء من أوروبا ويتعجب من حياة هؤلاء، ولفت نظره ما هم فيه من السكينة، واليقين، وهدوء البال، وراحة النفس، والطمأنينة، والبعد عن القلق وما إلى ذلك، يقول: تأتي رياح فتهلك ما عندهم، تأتي أوبئة فتهلك مواشيهم، ونجد أن هؤلاء يقولون: الحمد لله هذا قضاء الله وقدره، يقول بكل بساطة، ولا ينجم عن هذا اكتئاب، وانهيار وما أشبه ذلك، كان يتعجب من حال هؤلاء الناس، فلفت نظره ذلك، وعرف أن هذا يرجع إلى دينهم وإسلامهم.

المثال الثاني: ذكره محمد أسد، وهو رجل معروف، جاء من أوروبا ثم أسلم، أظنه جاء من النمسا وكتب "الطريق إلى مكة" وكتب كتاباً آخر، فذكر في رحلته لما جاء مع زوجته، جاء إلى مصر وذهب مروراً ببلاد الشام، ثم ذهب إلى تركيا وركب القطار، وهو ذاهب إلى أوروبا في القطار من تركيا إلى أوروبا فكان يرى الناس الذين ركب معهم القطار في مصر مثلاً والذين رآهم في بلاد الشام وكذا غير الوجوه التي رآها وهو متجه إلى أوروبا، فكان يقول لزوجته: أما ترين الفرق؟ الذين كنا نراهم في مصر والشام وجوه غير هذه الوجوه، يعني غير الأوروبيين، فكان ينظر إلى وجوه الأوروبيين ينتابها القلق، وجوه قلقة، هو يقول هذا، هو رجل منهم، فكان يذكر هذا لامرأته، وتوافقه على هذا، تقول: نعم، صحيح، الوجوه تلك غير هذه الوجوه، حياة قلقة، ولذلك إذا ذهبت إلى أوروبا تجد حياة أخرى تماماً، الناس في الصباح مثلاً عندما تنظر إليهم على الأرصفة مملوءة بالبشر يمشون، تجد المشي بطريقة مسرعة، والحياة سريعة وقلقة، وتشعر أنك مشدود متوتر، كل الناس، يعني طريقة الحياة طريقة غير عادية، وإذا ذهبت إلى بلاد المسلمين تجد سكينة وهدوءاً، وإذا أردت أن تنظر إلى هذا في بلد واحد اذهب إلى كينيا مثلاً، إذ أنا ذهبت إلى نيروبي هي كأنها بلد غربية، لكن ألوان الناس سوداء، فتجد أنماط الحياة الغربية من اللباس، والكفر بالله ، وما أشبه ذلك، لأنها كانت مستعمرة بريطانية، فتجد الناس نفس الطريقة في الحياة الغربية، فإذا ذهبت إلى الشرق في مُمْبَسّا مثلاً وهي تعتبر ساحلاً إسلامياً تجد الحياة تختلف تماماً، هي حياة المسلمين التي تعرف من الهدوء والسكينة والسكون، ليس فيها ذاك القلق والتوتر الذي تراه في نيروبي، فهذه أمور أنا ذكرتها من أجل أن الإنسان قد يقف مع بعض المعاني التي يسمعها ويقول لضعف إيمانه: أنا لا أجد هذه الجنة التي يتكلم عنها شيخ الإسلام، لا أجد هذه اللذة التي تذكرون، نقول: الذين ينظرون من الخارج يرون الفرق بين هذا المسلم وبين ذاك الكافر، وأنا أتعجب كيف يعيشون، أعني الكفار، كيف يستطيعون أن يعيشوا؟!، إنسان بعيد عن الله لا يعبد ولا يعرف الله، كيف يعيش، تنتابه المخاوف من كل جهة، الإنسان لو فاتته صلاة الفجر في يوم من الأيام ما يقدر يعيش ذاك اليوم، مع أن النبي ﷺ يقول: ليس في النوم تفريط[1]، لا يستطيع أن يعيش ذلك اليوم، يشعر أن الدنيا كلها مقفلة، ولا يريد أن يرى شيئاً، ولا يرى أحداً، ولا يكلم أحداً، هؤلاء الذين لا يعرفون الله ولا يصلون ولا يسجدون له كيف يعيشون؟!

فالمقصود أن قوله: أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ، لا يستوون من كل وجه، ويدخل في هذا دخولاً أولياً أنهم لا يستوون في جزائهم في الآخرة، بقرينة أن الله قال: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.

قال: وقد ذكر عطاء بن يَسَار والسُّدِّيّ وغيرهما: أنها نزلت في علي بن أبي طالب، وعقبة بن أبي مُعَيط.

هذه جاءت في عدد من الآثار وهي من قبيل المراسيل، ولا يصح من ذلك شيء في سبب النزول، أنها نزلت في علي وفي عقبة بن أبي معيط، يعني أن عقبة بن أبي معيط افتخر على عليٍّ ، وتطاول عليه، فنزلت الآية أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا يعني: عقبة، ولكن ذلك لا يصح، فالآية عامة.

قال: ولهذا فَصَّل حكمهم فقال: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أي: صدقت قلوبهم بآيات الله وعملوا بمقتضاها، وهي الصالحات.

تفسير الإيمان بالتصديق هذا تجدونه في عبارات بعض أهل العلم، وهو كثير في كلام ابن جرير، ولكن إذا عرف أن قائل ذلك ليس من الإرجاء في شيء، وليس من المرجئة في شيء فإن ذلك غاية ما هنالك أن يقال: إن العبارة لو كانت أدق لكان أولى، نعرف أن الإيمان إذا ذكر مع الأعمال الصالحة فيكون الإيمان باعتبار ما يكون في القلب، وهذا الذي في القلب، فهل الإيمان هو التصديق في اللغة؟

الإيمان في اللغة تصديق خاص، أي تصديق انقيادي بمعنى الإقرار، أقرب ما له الإقرار، أقرب ما يفسر به الإقرار والإذعان القلبي، وليس مجرد التصديق، وشيخ الإسلام في كتابه الإيمان الكبير ذكر نحو سبعة فروقات في اللغة بين الإيمان والتصديق، ابن جرير كثيراً ما يقول: آمنوا صدقوا، مع الفرق بين هذا وهذا.

قال: فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى أي: التي فيها المساكن والدور والغرف العالية. نزلاً أي: ضيافة وكرامة. بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.

يعني التي يأوون إليها، جَنَّاتُ الجنات هي البساتين، جَنَّاتُ الْمَأْوَى هذه البساتين فيها القصور والمساكن التي يأوون إليها.نزلًا: باعتبار أن النُّزل هو ما يعد للضيف.

بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ الباء هنا تكون سببية، يعني بسبب ما كانوا يعملون، فالعمل سبب لدخول الجنة، ولكنه غير مستقل، يعني ليس بسبب تام، وإنما لابد من وجود السبب والشرط، تحقُّق الشرط وانتفاء المانع، فإذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة فإن ذلك هو الذي يعبر عنه أحياناً بالسبب التام، يعني الذي يحصل بعده المسبَّب، فالعمل سبب لكنه لا يستقل لن يدخل أحدكم الجنة بعمله[2]، فالباء هنا لا تدل على المقابلة.

قال: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا أي: خرجوا عن الطاعة، فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا كقوله: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا الآية.
قال الفُضَيل بن عياض: والله إن الأيدي لموثقة، وإن الأرجل لمقيدة، وإن اللهب ليرفعهم والملائكة تقمعهم.

 

وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي: يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً.

كما قال الله : وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ، المقمعة: حديدة لها مثل الرأس فيضربون بها، نسأل الله العافية.

  1. رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، برقم (681).
  2. رواه مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، برقم (2816)، ولفظه: لن يُدخِل أحداً منكم عملُه الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة، وأحمد في المسند، واللفظ له، برقم (7479)، وقال محققوه: "صحيح، وهذا إسناد ضعيف، زياد المخزومي متابعٌ".