قال: وقوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ الآية، أي: فلا يعلم أحد عظمة ما أخفى الله لهم في الجنات من النعيم المقيم، واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد، لَمّا أخفوا أعمالهم كذلك أخفى الله لهم من الثواب جزاءً وفاقاً؛ فإن الجزاء من جنس العمل.
قال الحسن البصري: أخفى قوم عملهم فأخفى الله لهم ما لم تر عين، ولم يخطر على قلب بشر، رواه ابن أبي حاتم.
هذه لفتة جميلة من الحافظ ابن كثير - رحمه الله - والحسن البصري، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا، قال: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، لمّا أخفوا عملهم - فإن قيام الليل أبعد ما يكون عن الرياء عادة؛ لأن الناس لا يطلعون عليه - أخفى الله جزاءهم، فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ، وفي قراءة حمزة، فلا تعلم نفس ما أُخْفِي لهم من قرة أعين، يعني يقول الله: ما أخفيه لهم، وفي قراءة غير متواترة: من قُرّات أعين، يعني ما تقر به العين من ألوان النعيم، والله المستعان.
وتأمل كيف قابل ما أخفوه من قيام الليل بالجزاء الذي أخفاه لهم مما لا تعلمه نفس، وكيف قابل قلقهم وخوفهم واضطرابهم على مضاجعهم حين يقومون إلى صلاة الليل بقرة الأعين في الجنة.
ذكر أمرين: أخفوا العمل فأخفى الجزاء، قُرَّةِ أَعْيُنٍ لما كانوا في حال من القلق على الفراش تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ عوضهم بقرة الأعين.
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: قال البخاري: قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ الآية، ثم روى عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال أبو هريرة : فاقرءوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [1]، رواه مسلم والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وفي رواية للبخاري: ولا خطر على قلب بشر، ذُخْراً مِنْ بَلْهَ ما أُطْلِعْتم عليه[2].
قوله: ذخراً هنا متعلق بأعددت، أعددت لعبادي، يعني: جعلت ذلك مذخوراً لهم، أعددت لعبادي الصالحين أعددت لهم ذخراً، الذخر هو الشيء المذخور، قال: من بَلهَ، هذه ليست في رواية البخاري، و"مِن" هذه زائدة، قال الخطابي وجماعة من أهل العلم: إنها مقحمة، وإنما: ذخراً بلهَ ما أُطلِعتم عليه، يعني: في القرآن والسنة، أي أمور لم تسمعوا بها، بَلْهَ يعني: سوى، يعني: عدا، تقول مثلاً: لك في الجنة كذا وكذا وكذا بله ما نطلع عليه، تقول: فلان موصوف بكذا وكذا وكذا بلْهَ، يعني: فضلاً عن، سوى أمور مثلاً، وأخرى لم نطلع عليها، أو لا تعرفها.
تقول: فلان مقصر في كذا وكذا وكذا بله حقوق الوالدين والأولاد مثلاً، يعني: سوى حقوق الوالدين، يعني: إضافة إلى حقوق، عدا حقوق، يعني هذا الذي ذكرناه ينضاف إليه حقوق الوالدين والأولاد، وهكذا، يعني هذا فضلاً عما أُطْلِعتم عليه.
هذا وصف جامع في الجنة، ينعم ولا يبأس، ولك أن تسرح بالذهن في قوله: ينعم، هكذا بإطلاق، وتأكيد ذلك أيضاً بقوله: لا يبأس، يعني: لا يحصل له أمر لا معنوي ولا حسي مما يكره، لا حزن ولا غم ولا هم ولا غل ولا حسد ولا ضيق صدر، لا يحصل له ملل، ولا يحصل له ضيق من شيء من الأشياء، ولا يسأم من نعيم - الإنسان يسأم ما يلابسه كثيراً -، وأيضاً لا يحصل له مرض ولا صداع، ولا ألم ضرس، ولا إزعاج، ولا يرى أشياء يكرهها، ولا يسمع عن أشياء يكرهها، إلى غير ذلك من الأمور التي كل أحد يمكن أن يسرح ذهنه فيما يمكن أن يصل إليه هذا الذهن مما يعرفه من مفردات البؤس والنكد الموجود في الحياة الدنيا، إذا سمع المؤمن مثل هذا عرف الدار الحقيقية التي ينبغي أن يشمر في العمل لها، وهان ما يلقاه من نعيم أو بؤس في هذه الحياة الدنيا، فهذا مَعْبر، ليس هذا المعوَّل، سواء حصّل فيه أو لم يحصّل من حطام هذه الدنيا، هناك حيث لا يحصل له بؤس ولا أمر يكرهه، لا يفنى الشباب ولا تبلى الثياب، والله المستعان.
- رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3244)، ومسلم، في أوائل كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، برقم (2824).
- رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، برقم (4780).
- رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في دوام نعيم أهل الجنة وقوله تعالى: وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:43]، برقم (2836)، ولفظه: من يدخل الجنة ينعم لا يبأس لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه، وأحمد في المسند واللفظ له، برقم (8827)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، يحيى بن إسحاق: هو السَّيْلحيني، وأبو رافع: نفيع الصائغ المدني نزيل البصرة، وثابت: هو ابن أسلم البُنَاني".