الثلاثاء 20 / ذو الحجة / 1446 - 17 / يونيو 2025
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا۟ ۖ وَكَانُوا۟ بِـَٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال: وقوله: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ أي: لما كانوا صابرين على أوامر الله وترك نواهيه وزواجره وتصديق رسله واتباعهم فيما جاءوهم به كان منهم أئمة يهدون إلى الحق بأمر الله، ويدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ثم لما بدلوا وحَرَّفوا وأوَّلوا، سُلبوا ذلك المقام، وصارت قلوبهم قاسية، يحرفون الكلم عن مواضعه، فلا عمل صالحاً، ولا اعتقاد صحيحاً؛ ولهذا قال: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا قال قتادة وسفيان: لما صبروا عن الدنيا، وكذلك قال الحسن بن صالح.

قال سفيان: هكذا كان هؤلاء، ولا ينبغي للرجل أن يكون إماماً يُقتَدى به حتى يتحامى عن الدنيا.

ولهذا قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ۝ وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ الآية، كما قال هنا: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي: من الاعتقادات والأعمال.

قوله - تبارك وتعالى -: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا، في قراءة حمزة والكسائي: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لِمَا صَبَرُوا، يعني تكون اللام للتعليل، لِمَا صَبَرُوا يعني: بسبب صبرهم، والإمام المقصود به من يقتدى به في الخير، المقدم في ذلك، وليس المقصود به الملك، والإمارة ونحو ذلك؛ ولهذا في قوله - تبارك وتعالى - في سورة البقرة: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124]، فإن إبراهيم ﷺ ما وعده الله  إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا يعني: بالملك، وما طلب ذلك لبنيه قال: وَمِن ذُرِّيَّتِي، ومن ثَم فلا يشكل قوله - تبارك وتعالى -: لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، أنه يوجد من الظالمين كثير من أصحاب الولايات والملك، مع هذه الآية، لاَ يَنَالُ عَهْدِي بالإمامة، وإنما المقصود الإمامة في الدين.

وقوله - تبارك وتعالى - هنا: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا، فـ"مِن" هذه تحتمل أن تكون تبعيضية، يعني جعل بعضهم أئمة يهدون بأمرهم، فيكون المراد بذلك العلماء وقبلهم الأنبياء؛ لأن الأنبياء من بني إسرائيل كثير، فصاروا أئمة للناس، ولا يختص ذلك بالأنبياء - والله تعالى أعلم -؛ لأن جميع الأنبياء وليس فقط أنبياء بني إسرائيل يهدون بأمر الله، وهم أئمة في الدين والصبر والدعوة والخير، ولكن المقصود هنا غير الأنبياء، ولذلك قدمته في الذكر على الأنبياء، يعني من العلماء من بني إسرائيل؛ بسبب صبرهم ويقينهم، ولهذا قالوا: تُنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين، الصبر على طاعة الله وترك معصيته، والصبر على أقداره بأنواعها، الأقدار المؤلمة، وكذلك أيضاً الصبر على الأمور المحبوبة من الغنى ونحو ذلك من النعم، فإنها تحتاج إلى صبر، من أجل أن لا يفضي ذلك بصاحبها إلى الخروج عن طاعة الله ، والطغيان، فهناك صبر في حال النعمة، وصبر في حال المصيبة، فتنة السراء والضراء، يحتاج الإنسان أن يصبر، فإذا صبر وكان عنده يقين فإنه بذلك تحصل له الإمامة في الدين، فلابد من الابتلاء، فإذا صبر الإنسان اجتاز، وصار إماماً يقتدى به، ولا يزيده البلاء إذا صبر عليه، وأيقن بما هو عليه من الحق لا يزيده ذلك إلا رفعة، وهذا أمر مشاهد.

قال: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا، عبارة سفيان هذه، وقتادة قال: لما صبروا عن الدنيا، فهذا مما يدخل في الصبر، صبروا عنها بمعنى أن أطماعهم لم تتعلق بها، وإنما كانوا يريدون الآخرة، فالمعنى لا يختص بهذا - والله أعلم -، ولكنهم ذكروه للحاجة إلى التنبيه عليه، وإلا فلا يخفى عليهم أن الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر على أقداره، عن هذا جميعاً، لكن هنا نوع من الصبر يغفل عنه كثير من الناس وهو الصبر عن الدنيا، قال سفيان: هكذا كان هؤلاء، هذه العبارة في غاية الأهمية، وهي قوله: ولا ينبغي للرجل أن يكون إماماً يقتدى به حتى يتحامى عن الدنيا، ليس المقصود بذلك أنه يترك الكسب المباح، وطلب الرزق، فإن الله وصف الأنبياء بأنهم يمشون في الأسواق، فهذا لا إشكال فيه، ولا يكون الإنسان عالة على الناس، وإنما المقصود بذلك أن يتعلق الطمع بها، فيكون مزاحماً لأهلها منافساً لهم في دنياهم، فمثل هذا لا تكون له الإمامة في الدين، إذا كان الإنسان يتهافت على الدنيا ولو بالمباح، عالم ولكنه حريص على الدنيا، ينافس أهلها، تجده في ألوان التجارات، ويبيع المخططات العقارية، ومن أغنى الناس ليس عن مال ورثه مثلاً، وإنما بسبب تجارته ومزاحمته لأهل الدنيا، فمثل هذا لا تكون له الإمامة في الدين، ولو كان عنده علم، هذا المقصود، فيحتاج إلى شيء من الزهد بهذا الحطام، وأن يأخذ منه ما يكفيه ويغنيه عن الناس، أما التوسع في هذا والاشتغال به، وتتبع هذه الأمور بحيث لا يكون بينه وبين أهل الدنيا والمشتغلين بجمع حطامها لا يكون هناك فرق، مثل هذا لا تكون له الإمامة في الدين، حتى يتحامى من الدنيا، والله المستعان.

وهذه الآية لا تختص ببني إسرائيل، فإن العلة المذكورة لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ، مَن تحقق ذلك فيه حصلت له الإمامة في الدين، فإن الله أخبر أنه جعلهم كذلك لهاتين العلتين، والمقصود باليقين هنا يقين المرء بما هو عليه من الحق، فلا يتشكك ولا يتردد ولا يتزعزع، وكذلك اليقين بوعد الله، فلا يحصل له شك واضطراب، فيثبت على ما هو عليه، أما الذي يحصل له تردد وشك حينما يرى إعراض الناس، أو يبتلى، أو يبدأ يراجع ما هو عليه من الحق، ويبحث عن مخرج وطريق آخر يقبله الناس، ولو كانوا على انحراف وضلال، كأن يتماشى معهم في أهوائهم ورغباتهم فلا يسخطون عليه، فمثل هذا لا يكون إماماً في الدين، وليست العبرة بكثرة المشاهدين، فهذا لا يعني الإمامة في الدين، فنحن نشاهد من أهل الضلال من لهم جمهور كبير، سواء كانوا يتكلمون باسم الدين، أو كانوا من أهل الشهوات، وإذا أردت اقرأ في أخبار القساوسة في هذا العصر، ورجال الدين عند النصارى مثلاً، تجد أن الواحد منهم في برامجه التي يقدمها في قنوات فضائية تجد أرقاماً هائلة، هذا يتابع برنامجه مائتا مليون، وهذا يتابع برنامجه مائة مليون، فيتحدثون بهذه الأرقام، ومن الدعاة إلى الله والعلماء من يتابع برنامجه مائة مليون، فهل هذا يعني أن أولائك على حق، يتابع برنامجه مائة مليون من حطب جهنم، ثم ماذا؟ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103]، وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأنعام:116]، فليست هذه هي الإمامة في الدين، ولا يكون لهؤلاء لسان صدق، والله المستعان.

وفي قوله - تبارك وتعالى -: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ قال: أي من الاعتقادات والأعمال، يعني: كأن ابن كثير - رحمه الله - أجراه على ما قبله، وإن لم يكن كلامه صريحاً، إلا أن يكون في الأصل شيء آخر، يعني أن ذلك في بني إسرائيل أن ربك هو يفصل بينهم، والسياق هو في بني إسرائيل، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ۝ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ فالضمير يرجع إلى بني إسرائيل، مع أن ابن جرير - رحمه الله - حمله على جميع الخلق، ولا شك أن الله     يفصل بين جميع الخلائق يوم القيامة، وهذا يدل عليه آيات كثيرة في القرآن، ولكن السياق هنا في بني إسرائيل.

قوله: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ما معنى بأمرنا، ماذا قال ابن كثير فيها؟ قال: يهدون إلى الحق بأمر الله، عبارة ابن كثير محتملة، يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا، يحتمل أن يكون المراد بأمرنا أي: بأمرنا لهم، يعني أمرناهم بذلك، بسبب أمرنا لهم أن يهدوا الناس ويرشدوهم، والمعنى الثاني: يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا أن هدايتهم تكون بما أمر الله به، والله أمر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وأهل العلم أن يبينوا للناس، وأخذ عليهم العهد في ذلك والميثاق لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ [سورة آل عمران:187]، فهذا أمره - تبارك وتعالى - لهم، وكذلك أيضاً إنما يرشدون الناس بما أمر الله به، ويعظونهم بذلك، فيعلمونهم شرعه، فهذا كله حق، والله أعلم.