يقول الإمام الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [سورة السجدة:23-25]: يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله موسى أنه آتاه الكتاب وهو التوراة.
وقوله: فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ: قال قتادة: يعني به ليلة الإسراء، ثم روى عن أبي العالية الرّياحي قال: حدثني ابن عم نبيكم - يعني ابن عباس - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: أُريتُ ليلة أسري بي موسى بن عمران، رجلا آدم طُوَالاً جَعْداً، كأنه من رجال شَنُوءة، ورأيت عيسى رجلاً مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سبط الرأس، ورأيت مالكًا خازن النار والدجال، في آيات أراهن الله إياه[1]، فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ، أي: أنه قد رأى موسى، ولقي موسى ليلة أسري به.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله - تبارك وتعالى -: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ، الحافظ ابن كثير - رحمه الله - نقل هذه الأقوال التي رأيتم أن المراد موسى ، يعني ليلة المعراج، أو ليلة الإسراء، سواء قيل: إن هذه السورة نازلة قبل الإسراء، فيكون ذلك في المستقبل، أنك ستلقاه، أو كانت السورة نازلة بعد الإسراء والمعراج، بمعنى أنك لقيته، وعبارات أهل العلم منها ما تجد فيه أنه يقول: سيلقاه. يعني: في ليلة المعراج، لكن هذا بناء على وقت نزول السورة، هل كان قبل المعراج أو كان بعده؛ ولهذا الحافظ ابن كثير - رحمه الله - جاءت عباراته غير مقيدة، بمعنى أن ذلك المقصود به ما كان من لقاء موسى ليلة المعراج، فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ، وبعضهم يقول: إن ذلك في القيامة، فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ يعني: في الآخرة، وبعضهم يقول: إن المقصود بقوله: فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ يعني: من لقاء موسى الكتاب، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ، من لقاء موسى الكتاب الذي هو التوراة، الذي أنزله الله على موسى ﷺ، وهذا اختيار الزجَّاج، ولا يخلو - والله أعلم - من بعد؛ لأن هذه القضية لا يمتري فيها أحد، وما كان أهل الكتاب ولا أهل الإشراك يجادلون فيها، لم تكن محل جدال، كانت قضية معلومة مسلمة، لا إشكال فيها.
وبعضهم كالحسن يقول: فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ يعني: لقاء ما لقي موسى ﷺ من التكذيب والأذى، فيكون الضمير يرجع إلى غير مذكور، لكن الأصل أن الضمير حينما يرجع إلى غير مذكور أن يكون ذلك مما يفهم من السياق، وهنا لا يوجد ما يدل عليه من السياق، فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ، فالذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن ذلك يرجع إلى موسى ، يعني من لقاء موسى، والله تعالى أعلم.
يعني الآن هذا تفسير القرآن بالقرآن؛ لأن قوله تعالى: وَجَعَلْنَاهُ يحتمل أن يرجع إلى موسى ، باعتبار أنه المحدّث عنه، وأنه أوتي الكتاب، ومن ثَمّ قيل: إن قوله: فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ يرجع إلى موسى، ولم نقل: إنه يرجع إلى أقرب مذكور وهو الكتاب؛ لأن الأصل أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، فلماذا لم نقل مثلاً: إنه هنا يرجع إلى الكتاب، فلا تكن في مرية من لقائه؛ لأن المحدث عنه موسى ﷺ، والمعنى أوضح حينما يقال: فلا تكن في مرية من لقاء موسى، بخلاف ما لو قلنا: فلا تكن في مرية من لقاء الكتاب، ثم أيضاً هنا: وَجَعَلْنَاهُ، جعلنا الكتاب الذي هو آخر مذكور، أو جعلنا موسى ، ابن كثير - رحمه الله - حمله على الكتاب، وفسره بقوله: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَجَعَلْنَاهُ، وبعضهم يقول: إن الضمير يرجع إلى موسى ﷺ، جعلنا موسى هدىً لبني إسرائيل، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -، وهو يتوافق مع القاعدة التي ذكرناها مراراً أن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها، فيكون ذلك يرجع إلى موسى، جعلنا موسى هدى لبني إسرائيل، وهذا قال به قتادة من التابعين، ولو أن بين القولين ملازمة فالقول: إن ذلك يرجع إلى موسى ﷺ، فجعله الله هدىً لبني إسرائيل وذلك بما أنزل عليه من التوراة، فكتابه الذي أنزل عليه كان هدى، - والله تعالى أعلم -، ومن ثم لا نحتاج إلى الترجيح، وفيما يتعلق بالحديث الذي ذكره هنا: أن النبي ﷺ وصف موسى قال: رجلاً آدم يعني: فيه سمرة طوالاً يعني: طويل القامة، جعداً يعني: مثل شعر العرب يقال له: جعد، بخلاف عيسى ، سبط الرأس مثل: شعور الأوربيين، وهنا قال: كأنه من رجال شنوءة يعني: القبيلة المعروفة الأزد - أزد شنوءة -، التي منها غامد وزهران، فإنهم يرجعون إلى الأزد - أزد شنوءة -، كأنه من رجال شنوءة، يعني: فيه ضخامة وطول وقامة ممتدة .
- رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء: آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه، برقم (3239).