قوله: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ قال: يعني الأحزاب مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ فسره مجاهد بأن المقصود مِنْ فَوْقِكُمْ يعني: من أعلى الوادي، وأن غطفان جاءوا من تلك الناحية من أعلى الوادي، يعني بينهم وبين المدينة الوادي من الناحية الشرقية نزلوا بمكان يقال له: ذنب نقماء، وهو وادٍ هناك، جاءوا من الناحية الشرقية، وجبل أحد من الناحية الشمالية، بينهم وبين المدينة الوادي، وهناك أودية تجتمع فيما يسمى مجمع الأسيال، فتجد من ناحية الشرق اليوم يعرف بوادي العاقول، يأتي قريباً من حرة النار، وإذا نظرت إلى جبل الرماة تجد الوادي الذي كان عنده أصحاب النبي ﷺ الذين يحمون ظهورهم ونحو ذلك يحمونهم من جهة الوادي قريباً من جبل الرماة يمر به، فهذا من فروع تلك الأودية في تلك الناحية، ثم تتجه وتجتمع في مجمع الأسيال، فالحاصل أن مجاهد - رحمه الله - فسر قوله: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ يعني: من أعلى الوادي من جهة الشرق إلى جانب أحد، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: تقدم عن حذيفة أنهم بنو قريظة، وبنو قريظة كانوا في ناحية في شرقي المدينة، يعني جهة ما يسمى اليوم بالحرة الشرقية، ولا زال العامة يقولون لها: قريظة، وهذا قول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، قال: تقدم عن حذيفة، هو حديث حذيفة، لم يكن تفسيراً لقوله: وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ولكنه ساق الحديث في نقض قريظة للعهد مع رسول الله ﷺ، وإلا فإن مجاهد وابن جرير - رحمه الله - فسروا قوله: وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أنها قريش، الذين نزلوا بمجمع الأسيال، لم يكن بينهم وبين المدينة حاجز من الحواجز الطبيعية، يعني لم يكن هناك وادٍ مثلاً بينهم وبين المدينة، فحفر النبي ﷺ الخندق كما سبق، وهذا المكان الذي نزلوا فيه بمجمع الأسيال تجدون في كتب السيرة وفي غيرها يقولون: بين الجر والغابة، وفي بعضها الجرف ورغابة، وفي بعضها الجوب وزغابة، بعضهم يقول: المراد..، يعني يرجح واحداً منها، وبعضهم يقول: هذه أماكن متعددة ليست مكاناً واحداً، والمسألة تحتاج إلى تحرير، وهي قضية يسيرة لا يترتب عليها شيء، فهؤلاء قريش نزلوا بمجمع الأسيال، مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ.
وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ الزيغ: هو الميل عن حد الاعتدال والاستواء، بحيث إن البصر لا يستطيع صاحبه أن يصوبه وأن يوجهه إلى ما يريد، فيميل عن مقصوده، ينحرف عن مراده من شدة الخوف كما قال الله في أحوال الآخرة وأهوال القيامة بأن البصر أيضاً يحصل له شيء من هذا، يشخص، فهنا زَاغَتِ الأبْصَارُ بحيث لا يستطيع الإنسان أن يصوبه فينظر ويرى ما يريد، يعني لا يستطيع أن يتحكم ببصره من شدة الخوف والفزع، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وهي جمع حنجرة كما هو معروف، منتهى الحلقوم.
قال: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، قال ابن جرير: ظن بعض مَنْ كان مع رسول الله ﷺ أن الدائرة على المؤمنين، وأن الله سيفعل ذلك.
وقال محمد بن إسحاق في قوله: وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا: ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق حتى قال مُعَتّب بن قشير - أخو بني عمرو بن عوف -: كان محمد يَعِدُنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط.
وقال الحسن في قوله : وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا: ظنون مختلفة، ظن المنافقون أن محمداً وأصحابه يُستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق، وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله، هل من شيء نقول، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال ﷺ: نعم، قولوا: اللهم استر عوراتنا، وآمن رَوْعاتنا، قال: فضرب وجوه أعدائه بالريح، فهزمهم بالريح[1]، وكذا رواه الإمام أحمد بن حنبل، عن أبي عامر العقدي.
هذا الحديث فيه ضعف، وقوله - تبارك وتعالى -: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا لعل من أحسن ما يفسر به - والله أعلم - ما قاله الحسن - رحمه الله -: والمراد أن ظنونهم تفرقت، فأهل الإيمان ظنوا بالله خيراً وأنه ناصرهم، كما قال الله عنهم فيما سيأتي: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [سورة الأحزاب:22]، كان هذا قول أهل الإيمان، وأهل النفاق ظنوا الظنون السيئة، مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا، فهذه ظنون متفرقة بالله - تبارك وتعالى -، هذا المراد، والله أعلم.
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (10996)، وضعف إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2018).