يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [سورة الأحزاب:9-10].
يقول الإمام ابن كثير - يرحمه الله -: يقول تعالى مخبراً عن نعمته وفضله وإحسانه إلى عباده المؤمنين، في صرفه أعداءهم وهزمه إياهم عام تألبوا عليهم وتحزبوا وذلك عام الخندق، وذلك في شوال سنة خمس من الهجرة على الصحيح المشهور، وقال موسى بن عُقْبة وغيره: كانت في سنة أربع.
وكان سبب قدوم الأحزاب أن نفراً من أشراف يهود بني النضير الذين كانوا قد أجلاهم رسول الله ﷺ من المدينة إلى خيبر، منهم: سلام بن أبي الحُقَيْق، وسلام بن مِشْكَم، وكنانة بن الربيع، خرجوا إلى مكة فاجتمعوا بأشراف قريش، وأَلّبوهم على حرب رسول الله ﷺ ووعدوهم من أنفسهم النصر والإعانة، فأجابوهم إلى ذلك، ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم أيضاً، وخرجت قريش في أحابيشها ومن تابعها، وقائدهم أبو سفيان صخر بن حرب، وعلى غطفان عُيَينة بن حصن بن بدر، والجميع قريب من عشرة آلاف، فلما سمع رسول الله ﷺ بمسيرهم أمر المسلمين بحفر الخندق حول المدينة مما يلي الشرق، وذلك بإشارة سلمان الفارسي ، فعمل المسلمون فيه واجتهدوا، ونقل معهم رسول الله ﷺ التراب وحفَرَ، وكان في حفره ذلك آيات بينات ودلائل واضحات.
وجاء المشركون فنزلوا شرقي المدينة قريباً من أحد، ونزلت طائفة منهم أعالي أرض المدينة، كما قال الله تعالى: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وخرج رسول الله ﷺ ومن معه من المسلمين، وهم نحو ثلاثة آلاف، وقيل: سبعمائة، فأسندوا ظهورهم إلى سَلْع ووجوههم إلى نحو العدو، والخندق حفير ليس فيه ماء بينهم وبينهم يحجب الخيالة والرجالة أن تصل إليهم، وجعل النساء والذراري في آطام المدينة، وكانت بنو قريظة - وهم طائفة من اليهود - لهم حصن شرقي المدينة، ولهم عهد من النبي ﷺ وذمة، وهم قريب من ثمانمائة مقاتل فذهب إليهم حُيَيّ بن أخطب النَّضري فلم يزل بهم حتى نقضوا العهد، ومالئوا الأحزاب على رسول الله ﷺ، فعَظُم الخَطْب واشتد الأمر، وضاق الحال، كما قال الله تعالى: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا [سورة الأحزاب:11].
ومكثوا محاصرين للنبي ﷺ وأصحابه قريباً من شهر، إلا أنهم لا يصلون إليهم، ولم يقع بينهم قتال، إلا أن عمرو بن عبد ودّ العامري - وكان من الفرسان الشجعان المشهورين في الجاهلية - ركب ومعه فوارس فاقتحموا الخندق، وخلصوا إلى ناحية المسلمين، فندب رسول الله ﷺ خيل المسلمين إليه، فيقال: إنه لم يبرز إليه أحد، فأمر علياً فخرج إليه، فتجاولاً ساعة، ثم قتله علي ، فكان علامة على النصر.
ثم أرسل الله على الأحزاب ريحاً شديدة الهبوب قوية، حتى لم تبقَ لهم خيمة ولا شيء ولا تُوقَد لهم نار، ولا يقر لهم قرار حتى ارتحلوا خائبين خاسرين، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا قال مجاهد: وهي الصّبا، ويؤيده الحديث الآخر: نُصرتُ بالصّبا، وأهلكتْ عاد بالدبور[1].
وقوله: وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وهم الملائكة، زلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف.
فقوله - تبارك وتعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا، قول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا في تاريخ الخندق: وذلك في شوال سنة خمس من الهجرة على الصحيح المشهور، هذا الذي اختاره الحافظ ابن القيم - رحمه الله -، والقول الآخر قول موسى بن عقبة هو المنقول عن الإمام مالك، وبه قال ابن حزم، والمشهور هو الأول، وهؤلاء الجنود الذين ذكرهم الله هم قريش ومن معها ممن تابعها كأشجع وفزارة وبني مرة وغطفان وبني أسد وبني سليم، كل هؤلاء خرجوا معهم، وكانوا قريباً من عشرة آلاف.
وقوله هنا: وجعل النساء والذراري في آطام المدينة يعني: الحصون، وقول النبي ﷺ: نُصرتُ بالصبا وأهلكتْ عاد بالدبور الصبا: التي تأتي من قبل المشرق، والدبور هي التي تأتي من قبل المغرب.
قال: وقوله: وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا هم الملائكة، زلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف، فكان رئيس كل قبيلة يقول: يا بني فلان إليَّ، فيجتمعون إليه فيقول: النجاء، النجاء، لِمَا ألقى الله في قلوبهم من الرعب.
روى مسلم في صحيحه عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: كنا عند حذيفة بن اليمان - ا -، فقال له رجل: لو أدركتُ رسول الله ﷺ، قاتلتُ معه وأبليتُ، فقال له حذيفة: أنت كنتَ تفعل ذلك؟ لقد رَأيتُنا مع رسول الله ﷺ ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقُرّ، فقال رسول الله ﷺ: ألا رجل يأتي بخبر القوم، يكون معي يوم القيامة؟، فلم يجبه منا أحد، ثم الثانية، ثم الثالثة مثله، ثم قال ﷺ: يا حذيفة، قم فأتنا بخبر من القوم، فلم أجد بدَّا إذ دعاني باسمي أن أقوم، فقال: ائتني بخبر القوم، ولا تَذْعَرْهم عَلَيّ...
لا تذْعَرهم عليّ يعني: الذعر هو الخوف والفزع، لا تذعرهم علي يعني: لا تتصرف وتعمل ما من شأنه أن ينفروا منك ويقبلوا عليّ، يعني بعبارة أوضح: لا تستفز القوم، لا يصدر منك ما يستفزهم، ويحرك نفوسهم فيقبلوا عليّ.
قال: فمضيت كأنما أمشي في حَمّام حتى أتيتهم، فإذا أبو سفيان يُصْلي ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كَبِِد قوسي، وأردت أن أرميَه، ثم ذكرتُ قولَ رسول الله ﷺ: ولا تَذْعَرْهم عَلَيَّ، ولو رَمَيْته لأصبته، قال: فرجعت كأنما أمشي في حَمّام، فأتيت رسول الله ﷺ، ثم أصابني البرد حين فَرَغتُ وقُررْتُ.
فأخبرتُ رسول الله ﷺ، وألبسني من فضل عَبَاءَة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائماً حتى الصبح، فلما أن أصبحت قال رسول الله ﷺ: قم يا نومان[2].
- رواه البخاري، كتاب الاستسقاء، باب قول النبي ﷺ : نصرت بالصبا، برقم (988)، ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور، برقم (900).
- رواه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب، برقم (1788).