الأحد 28 / شوّال / 1446 - 27 / أبريل 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا ۝ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة الأحزاب:28-29].

هذا أمر من الله - تبارك وتعالى - لرسوله ﷺ بأن يخَيّر نساءه بين أن يفارقهن، فيذهبن إلى غيره ممن يَحصُل لهن عنده الحياةُ الدنيا وزينتها، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهن عند الله تعالى في ذلك الثواب الجزيل.

كلام ابن كثير - رحمه الله -: أمر من الله لرسوله ﷺ بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن، هنا الفراق يعني الطلاق، فيكون التخيير هنا بين الطلاق والبقاء معه، والقول الآخر: أن التخيير أن يخترن، خيرهن بين الدنيا والآخرة، وتأمل الآيات، مع أن القول الثاني: أنه خيرهن بين الدنيا والآخرة قال به جماعة من السلف، ويستدلون على هذا بما جاء عن علي عند الإمام أحمد في المسند من أن النبيﷺ خيرهن بين الدنيا والآخرة ولم يخيرهن بالطلاق، أنه ما خيرهن بالطلاق، لكن هذا الأثر ضعفه ابن كثير ورد هذا القول، واختار أن التخيير إنما هو بين الطلاق والبقاء معه، والمختصر أبقى على هذا، يعني اختيار ابن كثير: بين أن يفارقهن، فيذهبن إلى غيره.

والقول أنه خيرهن بين الدنيا والآخرة قال به الحسن البصري - رحمه الله - وقتادة وغيرهما، والذي عليه كثير من أهل العلم من المحققين أن التخيير كان بين الطلاق وغيره، وهو الذي ذكره الحافظ ابن كثير، فقوله: أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ خيرهن بين الدنيا والآخرة، أُمَتِّعْكُنَّ يعني: أن يعطيهن من متاع الدنيا وأن يوسع عليهن في العطاء، والواقع الذي يظهر - والله أعلم - أن قوله: أُمَتِّعْكُنَّ أن المقصود به ما يعطى للمطلقة من المتعة التي أمر الله بها، عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ [سورة البقرة:236]، وذلك ما يعطى للمطلقة جبراً لخاطرها، وهو أمر تناساه الناس اليوم إلا من رحم الله ، جبراً لخاطرها بحسب الغنى والفقر، مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ، والتسريح بمعنى التخلية، بصرف النظر هل التسريح يدل على الطلاق دلالة صريحة، أو أنه يحتمل؟، بصرف النظر، لكن لا شك أنه يُعبَّر عن الطلاق بالتسريح، يقال: سرّح امرأة يعني طلقها، ولكن ذلك لا يعني هذا المعنى بالضرورة في كل الأحوال، لكنه يقال فيه ويطلق عليه، فهنا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ فيحتمل أن يكون التسريح بمعنى التطليق، ويحتمل أن يكون كما يقال: يعني بمثابة رفع اليد، يعني التخلية، وذلك أن المرأة إذا طلقت وشارفت على انتهاء العدة فكما قال الله : فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [سورة البقرة:229]، ليس المقصود تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ؛ لأن هنا معنى التسريح قطعاً تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ليس الطلاق؛ لأنه ليس معناه أن المرأة إذا شارفت انتهاء العدة أنها تطلق مرة ثانية، فهذا غير مراد، وإنما المقصود التخلية، يعني أنها حينما كانت في حباله وعصمته قبل الطلاق وبعد الطلاق الرجعي يعني في فترة العدة فهي لازالت في عصمته وحباله وتحت يده ويستطيع أن يراجعها ولا خيار لها في هذا، فإذا شارفت انتهاء العدة فإما أن يمسك بأن يراجع بمعروف، وإما أن يرفع يده، يعني يخلي، لا يكون له بعد ذلك سلطان عليها، فيكون ذلك تسريحاً، فالتسريح يأتي بهذا المعنى – التخلية -، فهنا في هذه الآية: أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ يمكن أن يكون بهذا المعنى، لكن ذلك يكون من توابع الطلاق فيكون الطلاق قد وقع، فهذا يقتضي أنه خيرهن بين الطلاق والبقاء معه، وهذا ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وإن لم يجزم فيما يتصل بمعنى التسريح هنا؛ لأنه يحتمل ويمكن أن يقال: إنه من توابع وآثار الطلاق، لكن ليس المقصود أنه خيرهن بين الدنيا والآخرة، فإن البقاء معه يقتضي أن يكنّ على حال من البعد عن التوسع في الملاذ والمباحات فلا يصلح له ما يصلح لغيره، فكان أزواج النبي ﷺ بعدما فتح الله عليه هذه الفتوح في قريظة والنضير، كان النبي ﷺ يعيش في ضيق من العيش، فاجتمع نساؤه عليه يطالبنه بالتوسيع عليهن في النفقة، ما العلاقة في ذكر هذا بعد غزوة الأحزاب وقريظة؟، لما فتحت قريظة الآن صار هناك أموال هناك توسعة، فاجتمع أزواجه مطالبات بتحسين الأوضاع والأحوال المعيشية، ظناً منهن أن تلك حالة عارضة اقتضاها الحال وأنه لمّا وسع الله عليه، فكان ذلك يقتضي التوسع في الملاذ والمباحات، فخيرهن الله - تبارك وتعالى - بين البقاء معه على التقلل من الدنيا أو التطليق، لاحظ هنا أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا، والسراح الجميل يقال فيه ما يدخل تحت هذا المعنى، السراح الجميل الذي لا يكون معه جرح للمشاعر، لا يكون معه إساءة، لا يكون معه منع للحقوق، لا يكون معه مضايقات بأولاد أو بغيرهم، لا يُسمعها ما تكره، لا يأخذ من متاعها، لا يأخذ من مالها، لا يلجئها إلى أن تطلب الطلاق منه بحال تضرر فيها، فتفتدي وهو لا يريدها، يعني كل هذا من السراح الجميل، تسريح الكرام يعني تذهب المرأة في حال من الكرامة، فابن كثير - رحمه الله - يقول: بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره، ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها ظاهر كلام ابن كثير أنه إذا طلقها يجوز لغيره أن يتزوجها، وهذا قال به طائفة من أهل العلم، لكن الله - تبارك وتعالى - يقول: وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا [سورة الأحزاب:53]، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في موضعه.

قال: فاخترن - ن وأرضاهن - الله ورسوله والدار الآخرة، فجمع الله تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة.

روى البخاري عن عائشة - ا - زوج النبي ﷺ أن رسول الله ﷺ جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه قالت: فبدأ بي رسول الله ﷺ فقال: إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك، وقد عَلمَ أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه، قالت: ثم قال: وإن الله تعالى قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إلى تمام الآيتين، فقلت له: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة[1].

وكذا رواه معلقاً، وزاد: قالت: ثم فعل أزواج النبي ﷺ مثل ما فعلت.

وروى الإمام أحمد عن عائشة - ا - قالت: خيرَنَا رسولُ الله ﷺ فاخترناه، فلم يعدَّها علينا شيئاً[2]. أخرجاه من حديث الأعمش.

هو هذا، يعني الآن هذا الحديث عند الإمام أحمد وأصله في الصحيحين أن النبي ﷺ خيرهن ولم يعد ذلك طلاقاً، هذا لفظ مسلم، فدل ذلك على أن التخيير كان بين الدنيا والآخرة، أو بين الطلاق والبقاء معه؛ لأن الفقهاء اختلفوا في التخيير هل يعد طلاقاً أو لا، فجاء هذا بألفاظ متعددة في الصحيحين وغيرهما، لكن من أصرح ذلك ما جاء في مسلم "ولم يَعدّ ذلك طلاقاً" هنا لم يَعدّ ذلك شيئاً، يعني: طلاقاً.

قال: وروى الإمام أحمد عن جابر قال: أقبل أبو بكر يستأذن على رسول الله ﷺ والناس ببابه جلوس، والنبي ﷺ جالس: فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر - ا - فدخلا والنبي ﷺجالس وحوله نساؤه، وهو ﷺ ساكت، فقال عمر : لأكلمن النبي ﷺ لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول الله، لو رأيت ابنة زيد - امرأة عمر - سألتني النفقة آنفاً، فوَجَأتُ عنقها.

فوجأت عنقها يعني: إذا طعن فيه بيده، وجَأتُ عنقها: طعن فيه بيده يعني دفع فيه بيده.

قال: فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه وقال: هن حولي يسألنني النفقة، فقام  أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة، كلاهما يقولان: تسألان النبي ﷺ ما ليس عنده؟ فنهاهما رسول الله ﷺ فقلن: والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده، قال: وأنزل الله الخيار، فبدأ بعائشة   - ا - فقال: إني أذكر لك أمرًا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك، قالت: وما هو؟ قال: فتلا عليها: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ الآية، قالت عائشة - ا -: أفيك أستأمر أبويّ؟ بل أختار الله ورسوله، وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترتُ، فقال ﷺ: إن الله تعالى لم يبعثني معنفاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً، لا تسألني امرأة منهن عما اخترتِ إلا أخبرتُه[3]، انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري، فرواه هو والنسائي.

هنا في هذا الموضع في نزول هذه الآيات في سورة الأحزاب هذا التخيير بسبب المطالبة بالتوسعة في النفقة، والروايات التي أوردها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - مع قوله - تبارك وتعالى -: عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ [سورة التحريم:5]، والروايات التي نزل بسببها قوله: عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ، وذلك في قصة التحريم لما حرم النبي ﷺ كما هو المشهور الذي عليه عامة أهل العلم وأكثر الروايات أنه حرم العسل، وصح في بعضها أن ذلك بسبب تحريم الجارية، فالروايات متشابهة هنا، والمقام يحتاج إلى شيء من التحرير والتأمل، في القصة المعروفة لما دخل عمر، استأذن، كان غلام أسود على الباب فلم يأذن له النبي ﷺ، ثم استأذن ثانية لما وجد الناس يبكون، فقال: أجاءت الروم؟ فقالوا: طلق النبي ﷺ نساءه، ثم بعد ذلك أذن له فدخل، فأراد أن يُضحك النبي ﷺ، فذكر له خبره مع امرأته، وفي قصة سورة التحريم، عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ، وأن عمر قال لهن ذلك، فنزلت الآية موافقة لقوله ، فهنا في مطالبتهن بالتوسعة بالنفقة، وهناك في قصة التحريم وتظاهر أزواج النبي ﷺ "وإن تظاهرا عليه" وما حصل في ذلك، فالمقام يحتاج إلى تأمل وتحرير ونظر في الروايات، فهو لا يخلو من إشكال، وما وقفتُ على من حرر هذا المقام، يحتاج إلى شيء من الوقت.

وقوله - تبارك وتعالى -: إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا هنا الإرادة معدّاة للحياة الدنيا، هناك مقدر، يعني يحمل على أعم المعاني، يعني متاع الحياة الدنيا، لذّات الحياة الدنيا وما شابه ذلك، يعني يحمل على معنىً عام، يعني المقدر يكون ما يدل على العموم، فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا، تعالين، الأصل في هذا أن يقوله من كان في مكان مرتفع لمن كان في مكان دونه ليرتفع إليه، ثم صار ذلك يستعمل في الطلب والنداء مطلقاً، فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا، وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، يعني تؤثرن رضاه، تردن ما عنده، وَرَسُولَهُ يعني: البقاء معه وطلب مرضاته ، تؤثرن ذلك على متاع الحياة الدنيا، والله أعلم.

قال عكرمة: وكان تحته يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة، وكانت تحته ﷺ صفية بنت حيي النضرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، ن وأرضاهن أجمعين
  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الأحزاب، برقم (4507)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية، برقم (1475).
  2. رواه البخاري، كتاب الطلاق، باب من خير أزواجه، برقم (4962)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية، برقم (1477)، وأحمد في المسند، برقم (24181).
  3. رواه أحمد في المسند، برقم (14516)، وقال محققوه: إسناده صحيح، والنسائي في السنن الكبرى، برقم (9208).