السبت 27 / شوّال / 1446 - 26 / أبريل 2025
إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَٰتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ وَٱلْقَٰنِتِينَ وَٱلْقَٰنِتَٰتِ وَٱلصَّٰدِقِينَ وَٱلصَّٰدِقَٰتِ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَٱلصَّٰبِرَٰتِ وَٱلْخَٰشِعِينَ وَٱلْخَٰشِعَٰتِ وَٱلْمُتَصَدِّقِينَ وَٱلْمُتَصَدِّقَٰتِ وَٱلصَّٰٓئِمِينَ وَٱلصَّٰٓئِمَٰتِ وَٱلْحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَٱلْحَٰفِظَٰتِ وَٱلذَّٰكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرًا وَٱلذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [سورة الأحزاب:35].

روى الإمام أحمد عن أم سلمة - ا - زوج النبي ﷺ تقول: قلت للنبي ﷺ: ما لنا لا نُذْكَرُ في القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت: فلم يرعني منه ذات يوم إلا ونداؤه على المنبر، قالت: وأنا أسَرّح شعري، فلففت شعري، ثم خرجت إلى حُجْرة بيتي، فجعلت سمعي عند الجريد، فإذا هو يقول عند المنبر: يا أيها الناس، إن الله تعالى يقول: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ إلى آخر الآية[1]، وهكذا رواه النسائي وابن جرير.

قولها: "لم يرعني" يعني: لم يفجأني من النبي ﷺ إلا ونداؤه.

إذاً ما سبق يدل على أن سبب النزول هو سؤال أم سلمة - ا - وقد جاء هذا عنها بروايات متعددة، وكذلك في الآيات النازلة بسبب سؤالها، وقد جاءت روايات أخرى حسنها بعض أهل العلم كالحافظ ابن حجر - رحمه الله - أن ذلك جاء لسبب آخر، يعني من سؤال غيرها، ولكن المؤدَّى واحد أن هذه نزلت بسبب سؤال وُجه من امرأة، سواء كانت من نساء المؤمنات، أو من أم سلمة، أو من غيرها، - رضي الله عن الجميع -، سألوا النبي ﷺ مثل هذا السؤال فنزلت، وهذا الذي ذكره هنا هو أصح هذه الروايات وإن كان بعض هذه الروايات - كما سبق - حسنه بعض أهل العلم، وبعضهم ضعفه.

وقوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ هذا يحتمل أن يكون من قبيل الاستئناف، يعني أنه متصل بما سبق، لمّا ذكر أوصاف أمهات المؤمنين، وما أدبهن به وما ينبغي لهن وما يكون من مضاعفة الثواب والعقاب وما أشبه ذلك، فبقية نساء المؤمنين ما حالهن؟ فقال على سبيل الاستئناف البياني: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ إلى آخر ما سبق، فيكون بياناً لما قد يرد على الذهن: ما حال بقية النساء، وما يكون لهن؟ ويمكن أن يكون من قبيل الاستئناف الابتدائي، يعني بدأ بموضوع آخر، لكن له نوع تعلق من جهة المناسبة أن الله لما ذكر ما لأمهات المؤمنين استأنف الله - تبارك وتعالى - فجاء الحديث عن عامة النساء.

قال: فقوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ دليل على أن الإيمان غير الإسلام، وهو أخص منه لقوله تعالى: قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [سورة الحجرات:14]، وفي الصحيحين: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن[2]، فيسلبه الإيمان، ولا يلزم من ذلك كفره بإجماع المسلمين، فدل على أنه أخص منه كما قررناه في أول شرح البخاري.

وقوله تعالى: وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ القنوت: هو الطاعة في سكون.

وشيخ الإسلام يرى أنه دوام الطاعة.

قال: القنوت: هو الطاعة في سكون، أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [سورة الزمر:9]، وقال تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [سورة الروم:26]، يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة آل عمران:43]، وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [سورة البقرة:238]، فالإسلام بعده مرتبة يرتقي إليها وهو الإيمان، ثم القنوت ناشئ عنهما.

يعني يكون هذا على سبيل الترقي من الأدنى إلى الأعلى.

وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ: هذا في الأقوال، فإن الصدق خصلة محمودة؛ ولهذا كان بعض الصحابة لم تُجَرّب عليه كِذْبة لا في الجاهلية ولا في الإسلام، وهو علامة على الإيمان، كما أن الكذب أمارة على النفاق، ومَنْ صدق نجا، عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، ولا يزال الرجل يكذب ويتَحرَّى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا[3].

هنا سؤال: لماذا قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ قال: هذا في الأقوال، مع أن الصدق يكون في الأحوال والأفعال، وما إلى ذلك، لماذا خصه بالأقوال؟ لذكر الإيمان قبله، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، فهؤلاء صادقون في إيمانهم، وهذا مرتبة أعلى من مجرد الإسلام، يعني لم يذكر الإسلام وحده حتى يقال: إسلام الظاهر، فقد يكون صادقاً وقد لا يكون صادقاً، لكن لما ذكر الإيمان مع الإسلام، فالإيمان: هو تصديق القلب وانقياده وإقراره وإذعانه، فصار هنا الصدق في هذه وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ يعني: الصدق في الأقوال، هذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، وإلا فالصدق يكون في القول والفعل والحال كأن يُظهر حالاً ليست هي الحال التي هو عليها، كمن يُظهر الخشوع مثلاً، وليس بخاشع، يظهر العبادة والنسك وليس كذلك.

قال: والأحاديث فيه كثيرة جداً.

وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ: هذه سَجِيّة الأثبات، وهي الصبر على المصائب، والعلم بأن المقدور كائن لا محالة، وَتَلَقّي ذلك بالصبر والثبات، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى، أي: أصعبه في أول وهلة، ثم ما بعده أسهل منه، وهو صدق السجية وثباتها.

المقصود أن الصبر لا يُخص بالصبر على المصائب وإنما الصبر على طاعة الله والصبر عن معصيته، كل هذا داخل في الصبر.

قال: وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ الخشوع: السكون والطمأنينة، والتؤدة والوقار والتواضع، والحامل عليه الخوف من الله تعالى ومراقبته، كما في الحديث: اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك[4].

الخشوع من الأعمال القلبية، ويريد الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أن يقول: إنه مجموع أوصاف، والذي يظهر - والله أعلم - أنه يمكن أن يقرب المعنى بعبارة يفهم منها حقيقته بأن يقال: هو انكسار القلب من خشية الله ، فأصحاب القلوب المنكسرة من خشيته هؤلاء هم أهل الخشوع، ويظهر أثره على الجوارح بحسب ما يقوم بالقلب، فتكون هذه الأشياء التي تذكر من السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع كل هذه من آثار الخشوع ومظاهره، فهذا منكسر القلب لا يتكبر، وإنما يكون في حال من التواضع والسكون والتؤدة والخضوع وما أشبه هذا، فهم يفسرونه ببعض لوازمه أو ببعض آثاره، لكن حقيقته هو هذا الانكسار الذي يقع في القلب، فتظهر هذه الآثار.

قال: وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ: الصدقة: هي الإحسان إلى الناس المحاويج الضعفاء الذين لا كَسْبَ لهم ولا كاسب، يعطون من فضول الأموال طاعة لله وإحساناً إلى خلقه.

الصدقة أوسع من هذا، كما في الحديث: تُصدق الليلة على غني[5]، فالصدقة تكون على النفس وعلى الأهل وتكون على الناس من المحتاجين وغيرهم، وكل معروف صدقة، لكن السياق يدل على المراد أحياناً، يعني مثلاً هنا وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ الصدقات بالأموال، أن يعطي من ماله، لكن هل يشترط أن يكون ذلك على المحاويج والفقراء؟ ليس بشرط، لكن هؤلاء أولى الناس به، فإذا ذُكرت الصدقة اتجهت الأذهان إلى هؤلاء.

قال: وقد ثبت في الصحيحين: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فذكر منهم: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه[6]، وفي الحديث الآخر: والصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار[7].

والأحاديث في الحث عليها كثيرة جداً، له موضع بذاته.

وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ: في الحديث الذي رواه ابن ماجه: والصوم زكاة البدن[8] أي: يزكيه ويطهره وينقيه من الأخلاط الرديئة طبعاً وشرعاً.

قال سعيد بن جبير: من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر دخل في قوله: وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ.

هنا قوله: وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ، والحديث: لكل شيء زكاة وزكاة الجسد الصوم، هذا الحديث فيه ضعف، لا يصح، قال: أي يزكيه ويطهره وينقيه من الأخلاط الرديئة طبعاً وشرعاً، مثل زكاة الجسد من الأخلاط الرديئة، يعني: أنه يصح بالصوم، وشرعاً: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:183].

وقول سعيد بن جبير - رحمه الله -: من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر دخل في قوله: وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ، فلا يصدق على من صام الفرض – رمضان - أن يقال: إنه داخل في هذا الوصف، وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ، وإنما يقال ذلك لمن أكثر من الصوم، هذا الذي يظهر، وسُمي أو وصف بهذا لكونه قد عرف بهذا وأكثر منه، لملازمته له، يقول سعيد بن جبير في القدر الذي يحصل به هذا الأمر: من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر، باعتبار أن الحسنة بعشر أمثالها، فذلك كصيام الشهر، لكن هذا يحتمل، وقد يقول قائل: يصوم رمضان وستاً من شوال، فهذا كصيام الشهر بهذا الاعتبار، ويمكن أن يقال: إن الإكثار يعني مثل ما جاء من أن باب الريان لا يدخله إلا الصائمون، ليس المقصود به من صام رمضان فقط، وإنما من أكثر من الصوم، من عُرف به، فلو قيل: إن ذلك يحصل بأن يكون الإنسان يصوم الفرض ويصوم من التطوع، بحيث يكثر من صيام التطوع، كصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصوم الإثنين والخميس ونحو هذا، ثم هذا الإكثار والكمال يتفاوت، وأعلاه أن يصوم يوماً وأن يفطر يوماً، لكن الشارع لم يرد عنه تحديدٌ في ضابط الكثرة ومَن يوصف بذلك، مثل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [سورة الأحزاب:41]، وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ، فيكون الإنسان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات بعض أهل العلم يقول: إن من حافظ على الأذكار الواردة في مواقيتها في سائر الأحوال يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، في سائر الأحوال، الدخول والخروج والخلاء والمسجد وما إلى ذلك مما يقال في الصباح والمساء وبعد الصلوات، هذا كله داخل فيه، وبعضهم يرى أن من فعل ذلك فهو من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، فمن حافظ على هذه الأشياء ففوقه مرتبة أيضاً وهي أن يكثر من الذكر فيما بين ذلك، لا يزال لسانك رطباً بذكر الله[9]، فيكثر الإنسان من الذكر واللهج به، ومن الذكر قراءة القرآن، فيكثر من هذا، لو كان الإنسان يقول الأذكار في هذه الأوقات كلها، لكنه لا يقرأ القرآن مثلاً، هل يكون من الذاكرين الله والذاكرات، ولا يذكر فيما بين ذلك؟ ليس عندنا دليل يحدد ذلك بدقة، ولكن يقال: إن الإكثار يتفاوت، ولكن ينبغي أن يعتبر في ذلك ما يقال له إكثار عرفاً، أن يكثر، أنه لا يزال لسانه رطباً بذكر الله، ما تحصل له غفلة عن الذكر، وهكذا بالنسبة للصوم، وباب الريان يدخله الصائمون، هم من أكثروا من هذا، من عُرفوا به، كذلك الباب الذي لأهل الصلاة، وأهل الصدقة، هل هو الذي يخرج الزكاة المفروضة يقال: هذا من أهل الصدقة، يُدعى من باب الصدقة؟ الجواب: لا، وإنما الذي يكثر من هذا، والذي يتصدق في السنة مرة مع الزكاة، لا يكون من أهل الصدقة، إنما من أكثر من هذا، عُرف به، يفتح عليه في هذا الباب.

قال الإمام الحافظ ابن كثير: ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة كما قال رسول الله ﷺ: يا معشر الشباب، مَنْ استطاع منكم الباء فليتزوج، فإنه أغَضُّ للبصر، وأحْصَن للفرج، ومَنْ لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء[10]، ناسب أن يذكر بعده: وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ أي: عن المحارم والمآثم إلا عن المباح، كما قال : وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ۝ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ۝ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [سورة المؤمنون:5-7].

يدخل فيه أيضاً حفظ ذلك من أن ينظر إليه الناس، حفظ العورات من الانكشاف، ولكن المعنى الأول هو حفظها من مقارفة ما حرم الله ، وفي قوله - تبارك وتعالى -: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [سورة النور:30]، قال بعض السلف - وهو اختيار ابن جرير -: إن المقصود: أن يحفظها من الانكشاف، فلا تقع أنظار الناس عليها، فهذا المعنى صحيح، ولكن المعنى الآخر أيضاً وهو: حفظها من مقارفة ما حرم الله  يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، هو داخل في هذا أيضاً، فالآية تشمل المعنيين، لكن هناك في آية النور القرينة التي حملت مثل ابن جرير على القول بأن المقصود أن يحفظها من الانكشاف أن تقع عليها العيون، أن الله قال: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ثم قال بعده: وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، لكن يمكن أن يقال أيضاً في وجه الارتباط: لما كان البصر هو رسول القلب وإنما يكون ما بعده من مقارفات أثراً من آثاره في الغالب أمر بحفظ الفروج بعد الأمر بغض الأبصار، فكذلك هنا ذكر الصوم ثم ذكر بعده حفظ الفرج فيكون عن المقارفات المحرمة، لكن يدخل في العموم يحفظوا فروجهم من أن يرى ذلك أحد، يعني من التهتك والتبذل وعدم المبالاة سواء كان ذلك تحت دعوى الحرية، أو اعتقاد أن ذلك من قبيل الزينة كما هو في بلاد لا تعرف ربها، أو كان ذلك بقلة المبالاة أو تحت مفاهيم أخرى خاطئة، فبعض الناس يقول: أنا رجل، ولا يبالي أن تنكشف عورته، فإذا دخل الخلاء - أعزكم الله - لا يغلق الباب، ويقول: ما فيها شيء أنا رجل، فالرجل عنده لا يستحي، هذه الرجولة أحياناً تعني نزع الحياء.

وقوله تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ روى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال: إن رسول الله ﷺ قال: إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل، فصليا ركعتين، كُتبا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات[11].

قوله: فصليا ركعتين جميعاً، يعني يقيد بهذا القيد الذي جاء في روايات الحديث صليا جميعا، كتبا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وهذا من فضل الله ، صليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، فهذا من فضل الله أن يبلغ بالعمل القليل المراتب العالية، مثل: عمرة في رمضان كحجة معي[12]، وهكذا أيضاً في من جلس في مصلاه بعد الفجر عند من صحح الحديث: يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كتب له أجر حجة وعمرة[13]، فبناء على ذلك يكون هذا داخلاً في هذا المعنى، بلّغه الله بعمل قليل، إلى غير هذا، من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء[14]، قراءة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن[15]، فهنا إذا صليا ركعتين كتبا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، فهذا من فضل الله.

قال: وقد رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث عن أبي سعيد وأبي هريرة - ا - عن النبي ﷺ، بمثله.

هذا العمل في ذاته قليل، يعني لا يعتبر كثيراً، لكن الله جعله بتلك المنزلة، يبلغ به صاحبه تلك المرتبة.

قال: وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة ، قال: كان النبي ﷺ يسير في طريق مكة، فأتى على جُمْدان فقال: هذا جُمْدان، سيروا فقد سبق المُفَرّدون. قالوا: وما المُفَرّدون؟ قال ﷺ: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات، ثم قال ﷺ: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين؟ قال: والمقصرين[16].

تفرد به من هذا الوجه، ورواه مسلم دون آخره.

جمدان: هذا جبل على طريق مكة، بعضهم يقول: على ليلة من المدينة، وبعضهم يقول - وهذا هو الأقرب -: أنه أقرب إلى مكة، يعني يبعد نحو مائة كيلو متراً عن مكة، يعني في أرض بني سُليم، ويمكن أن يقال الآن: تحديداً ناحية الخليص، في الطريق بين مكة والمدينة على بعد ما يقرب من مائة كيلو متراً من مكة.

وقوله تعالى: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا خبر عن هؤلاء المذكورين كلهم أي أن الله قد أعد لهم: أي هيأ لهم مغفرة منه لذنوبهم وأجراً عظيماً وهو الجنة.

والإعداد يدل على عناية بالمُعَد.

  1. رواه النسائي في السنن الكبرى، برقم (11405).
  2. رواه البخاري، كتاب المظالم، باب النهبى بغير إذن صاحبه، برقم (2343)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية على إرادة نفي كماله، برقم (57).
  3. رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله، برقم (2607).
  4. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي ﷺ عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، برقم (50)، وبرقم (4499)، في كتاب التفسير، باب تفسير سورة آلم غلبت الروم، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله ، برقم (8).
  5. رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم، برقم (1355)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ثبوت أجر المتصدق وإن وقعت الصدقة في يد غير أهلها، برقم (1022).
  6. رواه البخاري، كتاب الجماعة والإمامة، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، برقم (629)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، برقم (1031).
  7. رواه الترمذي، أبواب السفر، باب ما ذكر في فضل الصلاة، برقم (614)، وأحمد في المسند، برقم (15284)، وقال محققوه: "إسناده قوي على شرط مسلم، رجاله ثقات غير ابن خثيم، فصدوق لا بأس به"، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5136).
  8. لم أجده بهذا اللفظ، وإنما رواه ابن ماجه، كتاب الصيام، باب في الصوم زكاة الجسد، برقم (1745)، ولفظه: لكل شيء زكاة وزكاة الجسد الصوم، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (5973)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (1329).
  9. رواه الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في فضل الذكر، برقم (3375)، وابن ماجه، كتاب الأدب، باب فضل الذكر، برقم (3793)، وأحمد في المسند، برقم (17680)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7700).
  10. رواه البخاري، كتاب الصوم، باب قول النبي ﷺ: إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، برقم (1806)، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة، واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم، برقم (1400).
  11. رواه أبو داود، كتاب سجود القرآن، باب الحث على قيام الليل، برقم (1451)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل، برقم (1335)، وابن حبان في صحيحه، برقم (2568)، والحاكم في المستدرك، برقم (1189)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (333).
  12. رواه البخاري، أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب حج النساء، برقم (1764)، ومسلم، كتاب الحج، باب فضل العمرة في رمضان، برقم (1256).
  13. رواه الترمذي، أبواب السفر، باب ذكر ما يستحب من الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، برقم (586)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (3403)، وفي صحيح الجامع، برقم (6346).
  14. رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى، برقم (1909).
  15. رواه الترمذي، كتاب فضائل القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في إذا زلزلت، برقم (2894)، وابن ماجه، كتاب الأدب، باب ثواب القرآن، برقم (3787)، وأحمد في المسند،  برقم (17106)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7854).
  16. رواه البخاري، كتاب الحج، باب الحلق والتقصير عند الإحلال، برقم (1641)، ومسلم، كتاب الحج، باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير، برقم (1302).