الأحد 28 / شوّال / 1446 - 27 / أبريل 2025
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِىٓ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَىٰهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَٰكَهَا لِكَىْ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِىٓ أَزْوَٰجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْا۟ مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً [سورة الأحزاب:37].

يقول تعالى مخبراً عن نبيه ﷺ إنه قال لمولاه زيد بن حارثة وهو الذي أنعم الله عليه، أي: بالإسلام، ومتابعة الرسول ﷺ: وَأَنْعَمْتَ عَلَيْه أي: بالعتق من الرق.

هنا عبر بالاسم الموصول لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْه، لاحظْ ما عبر بالاسم، باسمه العلم، ما قال: وإذ تقول لزيد، لما يشعر به من العلة، يعني: لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ، ما عطف على الصلة، وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ، من فضل النبي ﷺ عليه، وأن ذلك ينفي ما يظنه الظانون من أن النبي ﷺ كان يتطلع إلى زينب أن يتزوجها، ويريد أن يطلقها زيد ليتزوجها، تجدون هذا للأسف في بعض كتب التفسير، في روايات لا يعول عليها بحال من الأحوال، وسيأتي الكلام على هذا عند قوله تعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، ما الذي أخفاه النبي ﷺ؟، فهنا النبي ﷺ متفضل عليه، وهو الذي خطبها له، هو الذي أعتقه، فكيف يظن مثل هذه الظنون السيئة؟

قال: أي بالعتق من الرق وكان سيداً كبير الشأن جليل القدر، حبيباً إلى النبي ﷺ، يقال له: الحِبّ، ويقال لابنه أسامة: الحِبّ ابن الحِبّ، قالت عائشة - ا -: ما بعثه رسول الله ﷺ في سرية إلا أمّره عليهم، ولو عاش بعده لاستخلفه[1]، رواه أحمد

وكان رسول الله ﷺ قد زَوّجه بابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية - ا - وأمها أميمة بنت عبد المطلب، وأصدقها عشرة دنانير، وستين درهما، وخِمارا، ومِلْحَفة، ودرْعاً، وخمسين مُدّاً من طعام، وعشرة أمداد من تمر، قاله مقاتل بن حيان، فمكثت عنده قريباً من سنة أو فوقها، ثم وقع بينهما، فجاء زيد يشكوها إلى رسول الله ﷺ فجعل رسول الله ﷺ يقول له: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ، قال الله تعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ.

وروى ابن جرير عن عائشة - ا -، أنها قالت: لو كتم محمد ﷺ شيئاً مما أوحي إليه من كتاب الله، لكتم: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ.

وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، ما الذي أخفاه النبي ﷺ؟ خلاصة ما هنالك أن الله أعلمه أن زيداً سيطلقها، وأن الله سيزوجه بها بعد زيد، فشق ذلك على النبي ﷺ؛ لأن المنافقين سيجدون متنفساً، فيتحدثون عن هذا ويخوضون فيه، ويلوكون عرض نبي الله ﷺ، فكان النبي ﷺ يقول له: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ، مع أن الله أعلمه أنه سيطلقها، وأن الله سيزوجه إياها، هذا معنى وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، وما عدا ذلك فهو باطل، من أن النبي ﷺ كان يتطلع إليها، وأن قلبه كان يميل إليها، وما إلى ذلك مما يُذكر، هذا كله غير صحيح، ولو كان للنبي ﷺ فيها حاجة، لو كان له بها حاجة لتزوجها قبل أن يتزوجها زيد.

وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ، كان يتخوف النبي ﷺ من ألسن المنافقين.

وقوله تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا.

هنا أظهره في موضع الإضمار، ما قال: فلما قضى منها وطراً يعني: فيه تنويه بشأن زيد ، زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، وهم يرجعون إلى قبيلة تغلب، كان حراً فخطف وهو صغير، لما ذهبت به أمه إلى أخواله من طيئ، فأغارت خيل فأُخذ، وبيع بسوق حباشة قريباً من مكة، وعمره ثماني سنوات، واشتراه حكيم بن حزام، ووهبه لخديجة - ا -، وهي عمته، ثم خديجة - ا - وهبته للنبي ﷺ.

قال: الوَطَر: هو الحاجة والأرَب، أي: لما فَرَغ منها، وفارقها، زَوّجناكها، وكان الذي وَلي تزويجها منه هو الله ، بمعنى: أنه أوحى إليه أن يدخل عليها بلا ولي ولا عقد ولا مهر ولا شهود من البشر.

روى الإمام أحمد عن ثابت، عن أنس ، قال: لما انقضت عدة زينب - ا - قال رسول الله ﷺ لزيد بن حارثة: اذهب فاذكرها عليّ، فانطلق حتى أتاها وهي تُخَمِّر عَجينها، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها وأقول: إن رسول الله ﷺ ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي، وقلت: يا زينب، أبشري، أرسلني رسول الله ﷺ يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي ، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله ﷺ فدخل عليها بغير إذن، ولقد رأيتنا حين دَخَلَتْ على رسول الله ﷺ أطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله ﷺ واتبعته، فجعل يتتبع حُجَر نسائه يسلم عليهن، ويقلن: يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أُخبر، فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقي الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب، ووعظ القوم بما وعظوا به: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [سورة الأحزاب:53] الآية كلها[2]، ورواه مسلم والنسائي.

وقد روى البخاري - رحمه الله -، عن أنس بن مالك قال: إن زينب بنت جحش - ا - كانت تفخر على أزواج النبي ﷺ فتقول: "زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات"[3].

وقد قدمنا في سورة النور عن محمد بن عبد الله بن جحش قال: تفاخرت زينب وعائشة - ا - فقالت زينب - ا -: أنا التي نزل تزويجي من السماء، وقالت عائشة - ا -: "أنا التي نزل عُذْري من السماء، فاعترفت لها زينب - ا"[4].

هذه الواقعة كانت في السنة الخامسة بعد وقعة الأحزاب، وبهذا تدرك الارتباط بين هذه الواقعة وموضوع هذه السورة في صدرها، الموضوع الأساس الذي هو الأحزاب، وهذه الغزوة تحدثت عن غزوة الأحزاب وما تبعها من قريظة، والآن الحديث عن تزويج النبي ﷺ بزينب - ا -، وكان ذلك بعد وقعة الأحزاب، وهكذا ما يذكر بعده مما يتصل بالحجاب، فإن ذلك كان في هذا الحين، فجاءت السورة متحدثة عن هذه القضايا التي كانت متقاربة مع غزوة الأحزاب، وحصلت بعدها.

وقوله: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا [سورة الأحزاب:37]، أي: إنما أبحنا لك تزويجها وفعلنا ذلك؛ لئلا يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات الأدعياء، وذلك أن رسول الله ﷺ كان قبل النبوة قد تبنى زيد بن حارثة ، فكان يقال له: "زيد بن محمد"، فلما قطع الله هذه النسبة بقوله تعالى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُم إلى قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، ثم زاد ذلك بياناً وتأكيدا بوقوع تزويج رسول الله ﷺ بزينب بنت جحش - ا - لما طلقها زيد بن حارثة ؛ ولهذا قال تعالى في آية التحريم: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُم [سورة النساء:23]، ليحترز من الابن الدَّعِي؛ فإن ذلك كان كثيراً فيهم.

فقول الله - تبارك وتعالى -: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ هذا دليل واضح على أن النبي ﷺ يشترك مع الأمة في الخطاب - خطاب التشريع - إلا لدليل يخصه، يعني الأصل عدم الاختصاص، فإن خطاب الشارع متوجه إليه ، فمن قال غير ذلك فعليه الدليل، قال: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا، الوطر بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء، والمقصود هنا أنه حصل له نكاحها والدخول بها، فلم يبق له بها حاجة، قضى منها وطراً، وبعضهم يفسر ذلك بالطلاق، والأول - والله تعالى أعلم - أقرب.

قال: وقوله تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا أي: وكان هذا الأمر الذي وقع قد قدّره الله تعالى وحَتَّمه، وهو كائن لا محالة، كانت زينب - ا - في علم الله ستصير من أزواج النبي ﷺ.

وهذا قد يكون قرينة لقول من قال: إن أمْر الله فيما قبله إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا [سورة الأحزاب:36]، أن المقصود بذلك الأمر الكوني، ولكن ظاهره يشمل الشرعي والكوني، ما كان من الشرعي من قبيل الخبر، وما كان من قبيل الطلب، لكن الأمر الكوني لا يستبعد من تفسيره، لا يستبعد من معناه، وإنما هو داخل فيه، وقول الله : وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا هذا في الأمر القدري.

  1. رواه الحاكم في المستدرك، برقم (4962)، وقال: "صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه".
  2. رواه أحمد في المسند، برقم (13025)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، بهز: هو ابن أسد العمي، وهاشم: هو ابن القاسم"، ومسلم، كتاب النكاح، باب زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب وإثبات وليمة العرس، برقم (1428).
  3. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب {وكان عرشه على الماء} [سورة هود:7]، {وهو رب العرش العظيم} [سورة التوبة:129]، برقم (6984).
  4. رواه نحوه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (122)، والحاكم في المستدرك، برقم (6774).