الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
هُوَ ٱلَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وَمَلَٰٓئِكَتُهُۥ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ ۚ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ: هذا تهييج إلى الذكر، أي: أنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم، كقوله : كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ۝ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [سورة البقرة:151-152]، وقال النبي ﷺ: يقول الله تعالى: مَنْ ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومَنْ ذكرني في مَلأ ذكرته في ملأ خير منهم[1]، الصلاة من الله ثناؤه على العبد عند الملائكة، حكاه البخاري عن أبي العالية، ورواه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عنه.

وقال غيره: الصلاة من الله : الرحمة، وقد يقال: لا منافاة بين القولين، والله أعلم.

قوله - تبارك وتعالى -: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا لما أمر بذكره والإكثار منه أمر أيضاً بالتسبيح الذي هو بمعنى التنزيه، وذلك أن ينزه المعبود عما يصفه الواصفون وعن إشراك أهل الإشراك، وأن العبد مهما عبَدَ ربه وذكره فإنه لا يفي بحقه، ولا يكون مؤدياً ما عليه، ولا قائماً بما يليق بالله مما يتفق مع عظمته وجلاله وكبريائه، فالعبد بحاجة مع الذكر إلى التنزيه والتسبيح، كأنه يقول: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.

وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا قال: أي عند الصباح والمساء، والبكرة أول النهار، والأصيل آخر النهار، والمعنى: اشغلوا ألسنتكم معظم أوقاتكم بذكره وتسبيحه وحمده وتنزيهه، والتسبيح والتحميد في البكور والآصال، بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [سورة النور:36]، وقد مضى في بعض المناسبات أن من أهل العلم من يحمل ذلك على العموم في الأوقات، باعتبار أن العرب تذكر طرفي الشيء وتريد العموم، كما في قوله - تبارك وتعالى -: وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [سورة البقرة:115]، مع أن جميع الجهات لله ، وهنا ذكر هذه الأوقات الغدو والآصال، وكذلك البكرة والأصيل، باعتبار أن ذلك أطراف الليل والنهار، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا، وحمل بعضهم ذلك التسبيح على الدعاء، وبعضهم حمله على الصلاة لله بكرة وأصيلاً، وبعضهم يقول: المقصود صلاة الفجر والمغرب والعشاء، وأنه ذكر هذه؛ لأنها أطراف الليل والنهار.

وبعض السلف يقول: إن هذا يشير إلى صلاتين: صلاة العصر وصلاة الفجر، وهذا اختيار كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -، وهو مسبوق إلى هذا، قاله قبله قتادة، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن المعنى أعم من ذلك، فالله - تبارك وتعالى - يُسبَّح في كل الأوقات، ويُذكَر في جميعها، وهذه الأوقات تتأكد أكثر من غيرها لكونها أطراف الليل والنهار، ولهذا تقال أذكار الصباح في البكور، بالغدو، مع أنه لو قالها قبل الزوال صح ذلك في أذكار أول النهار، ولو قال بعد صلاة الظهر أذكار المساء فإن ذلك يصدق على كونه قالها في المساء، ولو قالها في الليل بعد العشاء فإنه قالها في المساء، ولكن الأفضل أن يكون ذلك في أول النهار، بِالْغُدُوِّ يعني: بعد صلاة الفجر، وفي آخر النهار يعني بعد العصر، والله تعالى أعلم.

قال: وأما الصلاة من الملائكة، فبمعنى الدعاء للناس والاستغفار، كقوله - تبارك وتعالى -: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ۝ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۝ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ الآية [سورة غافر: 7-9].

بعده قال: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ لما أمر بذكره وتسبيحه قال: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ، فمن كان مصلياً عليك من غير حاجة إلى عبادتك وذكرك فإن ذلك ينبغي أن يكون حافزاً ودافعاً ومحركاً للنفوس أن تذكره وأن تسبحه وأن تنزهه وأن تكثر وأن تلهج من ذكره في الأوقات كلها، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم...، وهو ليس بحاجة وأنت محتاج إليه، فأكثِر من ذكره وأقبل عليه، وصلاته - تبارك وتعالى - الأرجح فيها ما ذكره الحافظ ابن كثير وهو اختيار ابن القيم - رحمه الله -: أن صلاته على عبده أن يذكره في الملأ الأعلى، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [سورة البقرة:152]، وأن صلاة الملائكة بمعنى الاستغفار، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ [سورة الشورى:5]، وهذا الاستغفار في واقعه هو من قبيل الدعاء؛ ولهذا من عبر عن صلاة الملائكة بأنها الدعاء فإن هذا لا منافاة بينه وبين من قال: إنه الاستغفار، ولهذا في قوله -تبارك وتعالى- في الآية التي ساقها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - من قِيل الملائكة - عليهم الصلاة والسلام -: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [سورة غافر:7] إلى آخر ما ذكر، هذا كله من قبيل الدعاء، وهو من جملة صلاة الملائكة على المؤمنين، وصلاة الناس بمعنى الدعاء، وصلاة المخلوقين بمعنى الدعاء، وبعضهم يقول: صلاتنا على النبي ﷺ بمعنى سؤال الرحمة، والمعنى أعم من ذلك، والله تعالى أعلم، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ، فصلاته هذه التي بمعنى: أن يذكر عبده في الملأ الأعلى تقتضي الهداية والتوفيق والصلاح، أن يسوق إليه الألطاف؛ ولهذا قال بعده: لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، فاللام هذه تدل على التعليل، فكانت صلاته مفضية إلى ذلك، فإذا كان الله يصلي على عبده ويذكره في الملأ الأعلى فإن هذا يقتضي أن يسوق إليه ألطافه وأن يوفقه وأن ينقله من هداية إلى هداية، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.

قال: وقوله تعالى: لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ أي: بسبب رحمته بكم وثنائه عليكم، ودعاء ملائكته لكم يخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى واليقين، وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً أي: في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا: فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم، وبَصّرهم الطريق الذي ضَلَّ عنه وحاد عنه مَن سواهم من الدعاة إلى الكفر أو البدعة وأتباعهم من الطِّغام، وأما رحمته بهم في الآخرة: فآمنهم من الفزع الأكبر، وأمر ملائكته يتلقونهم بالبشارة والفوز بالجنة والنجاة من النار، وما ذاك إلا لمحبته لهم ورأفته بهم.

وروى الإمام أحمد عن أنس قال: مر رسول الله ﷺ في نفر من أصحابه وصبيٌّ في الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني، وَسَعَت فأخذته، فقال القوم: يا رسول الله، ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار، قال: فَخَفَّضهم رسول الله ﷺ وقال: ولا الله، لا يلقي حبيبه في النار[2]، إسناده على شرط الصحيحين، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، ولكن في صحيح الإمام البخاري، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن رسول الله ﷺ رأى امرأة من السبي قد أخذت صبياً لها، فألصقته إلى صدرها، وأرضعته فقال رسول الله ﷺ: أترون هذه تلقي ولدها في النار وهي تقدر على ذلك؟ قالوا: لا، قال رسول الله ﷺ: فوالله، لله أرحم بعباده من هذه بولده[3].

الحديث الأول بهذا السياق ضعفه بعض أهل العلم، وإن كان يشهد له الحديث الآخر.

وقوله - تبارك وتعالى -: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً، هذه يستدل بها من يقول: إن الرحيم أي ذو الرحمة الخاصة بالمؤمنين، وذلك أنه قدم الجار والمجرور، وذلك يفيد الاختصاص أو الحصر، وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ، ما قال: وكان رحيماً بالمؤمنين، فيكون ذلك لهم ولغيرهم، ويقولون: الرحمن يعني: أنه ذو الرحمة العامة، هكذا فرق بعضهم بين الرحمن والرحيم، وهذه الآية - والله تعالى أعلم - لا تدل على ما ذُكر إذا نُظر إلى الآيات الأخرى في الباب، فإن رحمة الله وسعت كل شيء، والآيات جاءت عامة في هذا المعنى، إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:143]، والرأفة: رحمة رقيقة، فرحمته - تبارك وتعالى - عامة، هو رحيم بالعباد، رحيم بخلقه، ولكن المؤمنين لهم من رحمته النصيب الأوفر، هذا في الدنيا وأما في الآخرة فإن رحمته تختص بهم، ولعل من أحسن ما قيل في الفرق بين الرحمن والرحيم ما ذكره الحافظ ابن القيم - رحمه الله - من أن الرحمن يدل على صفة الرحمة وكذا الرحيم، إلا أن الرحمن يدل على القدر الذي يعود إلى الله منها، وأما الرحيم فإنه يدل على ما يتعدى من هذه الصفة، القدر المتعدي من الصفة، المتعدي إلى المخلوقين، والله أعلم.

  1. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (8650)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وله إسنادان: أما الِإسناد الأول فحسن،     حماد بن سلمة سمع من عطاء بن السائب قبل الاختلاط في رأي بعض أهل العلم، وأما الِإسناد الثاني - وهو حماد بن سلمة عن حميد وثابت وصالح - ففيه انقطاع، لأن الحسن - وهو البصري - لم يسمع من أبي هريرة".
  2. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (12018)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم (7133).
  3. رواه البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، برقم (5653)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، برقم (2754).