فيكون على هذا الاعتبار أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ المقصود به مطلق الاتصاف لا معنى أفعل التفضيل، وادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ يعني قل: فلان ابن فلان، أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ.
قول ابن كثير - رحمه الله - هنا: هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام، هل يقال لهذا نسخ، ما كان الناس عليه ثم بعد ذلك جاء فيه تحريم أو نحو ذلك هل يقال له نسخ؟، رفع ما كان عليه الناس في ابتداء الإسلام، يعني مما كانوا عليه قبل الإسلام، فجاء الإسلام ثم بعد نزل الحكم، هل يقال له نسخ؟ هل يدخل في النسخ، معنى النسخ الاصطلاحي؟
إن هذا سُكت عنه تُرك، لم يتعرض له إلى هذا الوقت، فيمكن أن يقال: إنّ هذا ليس من قبيل النسخ، يعني مثل رفع البراءة الأصلية لا يقال له نسخ، وإنما النسخ بالمعنى المعروف هو رفع حكم شرعي متقدم بخطاب شرعي متأخر، متأخر عنه يعني.
روى البخاري - رحمه الله - عن عبد الله بن عمر قال: إن زيد بن حارثة مولى رسول الله ﷺ، ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن: ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي[1].
وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه، في الخلوة بالمحارم وغير ذلك؛ ولهذا قالت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة - ا -: يا رسول الله إنا كنا ندعو سالماً ابناً، وإن الله قد أنزل ما أنزل، وإنه كان يدخل عَلَيّ، وإني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً، فقال ﷺ: أرضعيه تحرمي عليه[2] الحديث.
أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسالم مولاه، قال: أرضعيه وهو كبير تحرمي عليه، وفي هذا كلام معروف لأهل العلم، هل يحرم رضاع الكبير أو لا؟ فالذي عليه عامة أهل العلم من السلف فمن بعدهم: أن رضاع الكبير لا يؤثر، أن هذا خاص بهذه الحالة، هذا الذي عليه الجماهير، السواد الأعظم سلفاً وخلفاً، ويقابل ذلك قول من قال: إنه يؤثر مطلقاً، وهو قول عائشة - ا -، فكانت إذا أرادت أن يدخل عليها أحد أمرت بإرضاعه يعني أن ترضعه أختها أو نحو ذلك فتكون عائشة خالته من الرضاع، وليس المقصود إطلاقاً في مثل هذا أن تباشر إرضاعه، فهذا لا يقول به أحد، وإنما المقصود أن يكون ذلك بواسطة، وكثير من الناس لما يسمعون مثل هذا يصيبهم الذهول والدهشة ويظنون أنها تباشر إرضاعه فمِن متهكم ومِن فَزِعٍ، وليس المقصود هذا إطلاقاً وإنما أن تعطيه قدر خمس رضعات مشبعات، وشيخ الإسلام - رحمه الله - توسط في هذه المسألة، فرأى أن ذلك لا يختص بأبي حذيفة ولا يكون أيضاً بإطلاق وإنما في حالات خاصة كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة مع سهلة، نشأ عندهم وكان يصعب فصله، فوجدوا حرجاً، فجاءت هذه الرخصة، فعند شيخ الإسلام يكون ذلك فيمن نشأ مع أناس، تربى معهم كأنه أحد الأولاد، ويصعب عليهم عزله، فإن الإرضاع عند شيخ الإسلام في مثل هذه الحالة يصح.
هذا جواب على سؤال مقدر وهو: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ طيب وكذلك من الرضاعة؟، فأجاب عنه بهذا الجواب، ثم تحدث عما يقال على سبيل التكريم.
بعضهم ضبطه حُمُرات، يعني حُمر، وبعضهم ضبطه بالجيم، واللطخ ضرب لين.
أُبَيْنيّ أي تصغير ابني، أو تصغير أبنائي، أُبَينيّ.
أُبَيْنيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس[4]، قال أبو عبيد وغيره: "أُبَيْنيّ" تصغير ابني، وهذا ظاهر الدلالة، فإن هذا كان في حجة الوداع سنة عشر.
وقوله: ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ في شأن زيد بن حارثة، وقد قتل في يوم مؤتة سنة ثمان، وأيضاً ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال لي رسول الله ﷺ: يا بُني[5]، ورواه أبو داود والترمذي.
هنا يريد الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أن يقول: إن ما جاء من النهي عن التبني لا ينافي أن يقال على سبيل التحبب والتلطف لغير الابن، يقال له: بُنيّ أو نحو ذلك، وأن ذلك لا إشكال فيه وساق الحديث، وهذا واضح وليس من التبني في شيء.
وقوله: ادعوهم لآبائهم يعني يقال: فلان ابن فلان، وكذلك ما سبق من قوله - تبارك وتعالى -: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [سورة الأحزاب:4]، هل له أن يقول بعد هذا لزوجته: أنت أمي، أو يا أمي، والله قال في سورة المجادلة: مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا [سورة المجادلة:2]، فهل له أن يقول هذا؟، فيما يتعلق بالتلطف بالغير يمكن أن يقول: يا بنيّ، لكن هل له تلطف بزوجته أن يقول: يا أمي، أو أنت أمي، أو أنت كأمي، أو أنت مثل أمي، أو نحو هذا، أو يقول: يا ماما من أجل أن يعلّم الأولاد كيف يدعونها، فإن دعاها باسمها دعوها باسمها، فبعض الناس يعمد إلى هذا ويقول: يا ماما، من أجل أن يسمعوه ويحاكوه، ليس له أن يقول هذا، وإن لم يكن ذلك ظهاراً، لو قال إنسان لزوجته: أنت أمي، أو أنت كأمي، أو أنت مثل أمي، أو نحو ذلك فهذا يحتمل، فإن قصد به الظهار فهو ظهار، وإن لم يقصد به الظهار، وقال: أنا قصدت التعظيم والتقدير والمنزلة وما أشبه ذلك فليس له أن يقول مثل هذا، ليس له أن يقول: أنت أمي، ويا أمي، أو يا ماما أو نحو هذا؛ لأن الله قال: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ، ولقد نبه الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - على هذا المعنى في تفسير سورة المجادلة، أنه ليس للرجل أن يقول لزوجته هذا على سبيل التلطف أو نحو ذلك، لكن لا يكون ظهاراً إلا إذا قصد به الظهار، إذا نوى الظهار؛ لأنه من العبارات المحتملة، فيستفصل عن قصده.
إذا كان لا يعرف أباه فإنه يقول: يا أخي، أو يقول: يا مولاي، إن كان مولى له.
ففي هذا الحديث أحكام كثيرة من أحسنها: أنه ﷺ حكم بالحق، وأرضى كلا من المتنازعين، وقال لزيد : أنت أخونا ومولانا، كما قال تعالى: فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ.
يعني يؤخذ من هذا أشياء منها أدب القاضي، فيخرج الخصوم من عنده إن أمكن في حال من الرضا والقناعة بحكمه، وما هو مشهور عند الفقهاء من أن المرأة إذا تزوجت فإن حقها يسقط في الحضانة، وأن هذا ليس على إطلاقه، وسبب الكلام على العلة في ذلك هل من أجل الزوج وأنه يكون له منة على أولادها، الزوج الجديد يعني، أو لاشتغالها؟، فالمقصود أن الزوج إذا كان راضياً فذلك لا يسقط حقها إذا تزوجت، وأن ما ورد في الحديث من إسقاط الحق يجمع مع هذا الحديث، وهي مسألة خارجة عما نحن فيه، لكن الحافظ أشار إلى كثرة ما تضمنه هذا الحديث من الأحكام، فهنا جعفر كان معه خالة ابنة حمزة، وجعلها بمنزلة الأم، وكانت متزوجة، فجعلها أحق بالحضانة، فكيف بالأم؟
قال: ثم قال تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ أي: إذا نسبتم بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة خطأً، بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع، فإن الله قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إثمه، كما أرشد إليه في قوله آمراً عباده أن يقولوا: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [سورة البقرة:286]، وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله ﷺ قال: قال الله: قد فعلت[7]، وفي صحيح البخاري عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله ﷺ: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر[8]، وفي الحديث الآخر: إن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما يُكرَهُون عليه[9].
وقال - تبارك وتعالى - هاهنا: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا أي: وإنما الإثم على مَنْ تعمد الباطل كما قال : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْالآية.
يعني فيما يسبق إليه اللسان، فالناس اعتادوا دهراً طويلاً أن يقولوا: فلان ابن فلان، زيد بن محمد، فلما جاء المنع من ذلك فإن الخطأ أمر وارد والألسن قد تسبق إلى ما عهدت واعتادت، فرفع الله هذا الحرج عن الناس، وهذا من رحمته بالمكلفين، لا يؤاخذهم بمثل هذا.
هو الشاهد هنا: "لا ترغبوا عن آبائكم" هذا من القرآن الذي نسخ لفظه وبقي حكمه، والمقصود "لا ترغبوا عن آبائكم" يعني فتنتسبوا إلى غيرهم رغبة عنهم.
- رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد - ا -، برقم (2425)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة الأحزاب، برقم (3209)، والنسائي، كتاب النكاح، باب تزوج المولي العربية، برقم (3223).
- رواه مسلم، كتاب إرضاع الكبير، باب رضاعة الكبير، برقم (1453).
- رواه البخاري، كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، برقم (4821)، ومسلم، كتاب الرضاع، باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، برقم (1447).
- رواه أبو داود، كتاب المناسك، باب التعجيل من جمع، برقم (1940)، والنسائي، كتاب مناسك الحج، باب النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس، برقم (3065)، والترمذي، كتاب الصوم عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في تقديم الضعف من جمع بليل، برقم (893)، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب من تقدم من سمع إلي منى لرمي الجمار، برقم (3025)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1696).
- رواه مسلم، كتاب الآداب، باب جواز قوله لغير ابنه يا بني واستحبابه للملاطفة، برقم (2151)، وأبو داود، كتاب الأدب، باب في الرجل يقول لابن غيره يا بني، برقم (4964)، والترمذي، كتاب الأدب عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في يا بني، برقم (2831).
- رواه البخاري، كتاب الصلح، باب كيف يُكتب هذا ما صالح فلان ابن فلان، وفلان ابن فلان وإن لم ينسبه إلى قبيلته أو نسبه، برقم (2552).
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لم يكلف إلا ما يطاق، برقم (126).
- رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، برقم (6919)، ولفظه: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر، ومسلم، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، برقم (1716).
- رواه ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، برقم (2045)، وابن حبان في صحيحه، برقم (7219)، ولفظهما: إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وصححه الألباني في إرواء الغليل تخريج أحاديث منار السبيل، برقم (2566).
- رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا [سورة مريم:16]، برقم (3261).
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة، برقم (67)، بلفظ: اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت، ورواه بلفظ: أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة...، كتاب الجنائز، باب التشديد في النياحة، برقم (936).