الجمعة 01 / محرّم / 1447 - 27 / يونيو 2025
ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمْ ۗ وَأُو۟لُوا۟ ٱلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِى كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفْعَلُوٓا۟ إِلَىٰٓ أَوْلِيَآئِكُم مَّعْرُوفًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِى ٱلْكِتَٰبِ مَسْطُورًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [سورة الأحزاب:6].

قد علم الله تعالى شفقة رسوله ﷺ على أمته، ونصحَه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم، وحكمه فيهم كان مُقَدّماً على اختيارهم لأنفسهم، كما قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [سورة النساء:65]، وفي الصحيح: والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين[1]، وفي الصحيح أيضا أن عمر ، قال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي، فقال ﷺ: الآن يا عمر[2]؛ ولهذا قال تعالى في هذه الآية: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.

وروى البخاري عند هذه الآية الكريمة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عَصَبَتُه مَن كانوا، فإن ترك دَيْنًا أو ضَياعًا، فليأتني فأنا مولاه[3]، تفرد به البخاري ورواه أيضا في "الاستقراض".

قوله - تبارك وتعالى - هنا: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، حاصل ما ذكره الحافظ ابن كثير من كلامه والأحاديث التي أوردها يمكن أن نستخلص: أولاً: قال: أولى بهم من أنفسهم وحكمه فيهم كان مقدماً على اختيارهم لأنفسهم، هذا الأول، أن حكمه ﷺ فيهم أولى ومقدم على اختيارهم، والحديث الثاني الذي ذكره لا يؤمن أحدكم، وحديث عمر، يؤخذ منه أنه أولى ﷺ بالمحبة، أن يكون أحب إليه من نفسه والناس أجمعين، هذا الثاني، والثالث: ما تضمنه حديث أبي هريرة وهو قوله ﷺ: ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، يعني مضمون هذا الحديث ما قاله في آخره: أن من مات وعليه دين فإن النبي ﷺ يقضيه عنه، وعلى هذا المعنى حمل القرطبي - رحمه الله - هذه الآية، يعني فسرها بمقتضى هذا الحديث، فصار الآن ثلاثة معانٍ، وهذه المعاني الثلاثة كلها صحيحة، ولهذا عممه بعض أهل العلم، يعني حمله على هذه المعاني جميعاً، وهذا ظاهر صنيع الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، وعلى هذا مشى ابن القيم، ومن المتأخرين من قال بهذا - أعني حمل الآية على العموم -: القاسميّ، وهذا ظاهر - والله تعالى أعلم -، ولهذا قالوا: إذا أمر النبيُّ ﷺ بشيء ودعت النفس إلى شيء كان المقدم ما أمر به النبي ﷺ، وأن حكمه ﷺ أنفذ من حكم المرء على نفسه، وأنه أولى بالمحبة، أي يحب النبي ﷺ أعظم من محبته لنفسه وأهله والناس أجمعين.

والحافظ ابن القيم - رحمه الله - ذكر أنها تتضمن أموراً وذكر بعض ما سبق، أن يكون ذلك في المحبة، وذكر لازمه أنه يلزم من هذا الانقياد وسائر لوازم المحبة، أولى بالمؤمنين بالمحبة، إذاً هذه المحبة تترجم باتباعه والاقتداء به وطاعته وما إلى ذلك، والأمر الثاني أن لا يكون للعبد حكم على نفسه أصلاً، بل الحكم على نفسه للنبي ﷺ، فهي تعمم، أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بالمحبة والطاعة، وأن حكمه أنفذ، وفيما يتصل بموضوع الميراث يقضي عمن مات ولم يترك شيئاً، وكذلك بالنصرة، كل هذه المعاني.

قال وقوله تعالى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ أي: في الحرمة والاحترام، والإكرام والتوقير والإعظام، ولكن لا تجوز الخلوة بهن، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع.

بمعنى ما تكون بنت أم المؤمنين محرمة، عثمان تزوج اثنتين من بنات النبي ﷺ، وعليٌّ تزوج فاطمة، فهذا لا إشكال فيه، وأبو العاص بن الربيع أيضاً تزوج ابنة النبي ﷺ، فلا ينتشر هذا التحريم، بينما الأم أختها خالة، وبنتها أخت، وأمها جدة، فالتحريم ينتشر، أما هنا ففي التوقير والتعظيم وتحريم التزوج منهن، لكن لا يخلو بها ولا يراها، وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ [سورة الأحزاب:53].

وقوله: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ، بعضهم فهم من ظاهره النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ، فهم أن هذا يختص بالرجال، أنهن أمهات الرجال، ليس للواحد منهم أن يتزوجها بعد النبي ﷺ، ولا يخلو بها، وما إلى ذلك، وهذا الذي ذهب إليه ابن العربي المالكي، وكثير من أهل العلم قال: إن ذلك لا يختص بالرجال بل هو عام للرجال والنساء، والآية ليس فيها ما يدل على التخصيص؛ ولهذا عممه كثيرون، وإلى هذا ذهب القرطبي - رحمه الله -، والأولون يستدلون بأن امرأة قالت لعائشة - رضي الله   عنها -: يا أُمَّهْ، فقالت: أنا أم رجالكم لست بأمك[4]، وهذا يحتاج إلى أن يتحقق ويراجع من جهة الثبوت، لكن إذا فهم أن هذا المقصود به التعظيم والتوقير فإنه يدخل فيه النساء والرجال، وهل يقال: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ هل يقال: هو أب لهم؟ من أهل العلم من منع ذلك، وبعضهم قال: لا إشكال فيه؛ لأن ذلك جاء في قراءة غير متواترة، والقراءة غير المتواترة إذا صح سندها فإنه يحتج بها في الأحكام على الراجح، تنزّل منزلة الحديث النبوي، في مصحف أبيّ: وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم، وفي قراءة ابن عباس: وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم، فأثبت له ذلك، وهو أصح الوجهين عن الشافعي - رحمه الله -، والأنبياء هم بمنزلة الآباء لقومهم، وعليه حمل جماعات من أهل العلم قول لوط ﷺ: هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [سورة هود:78] قالوا: يعني بنات القبيلة، بنات قومه، بنات قبيلته، فهو بمنزلة الأب لهم، فقال: هَؤُلاء بَنَاتِي، وهذا أحد الأقوال التي ذكرت في تفسير الآية، والأبوّة كما يقال: أبوتان، أبوة نسب، تكون سبباً لوجود الإنسان، والثانية أبوة تربية، وهي سبب لترقيه في الكمال، والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لا شك أنهم أئمة هذا الشأن، وإذا كان يقال: هو أب لهم، وهن أمهات المؤمنين، فهل يتوسع في هذا فيقال: إن أخوات أمهات المؤمنين خالات المؤمنين، وإن إخوانهن أخوال المؤمنين، فيقال: معاوية خال المؤمنين وما أشبه ذلك، هذه مسألة أيضاً مختلف فيها، وعامة أهل العلم أن ذلك لا يقال، مع أن الشافعي - رحمه الله - نص على هذا أنه يقال: خال المؤمنين أو خالات المؤمنين، ولا أعلم دليلاً على هذا، إنما يوقف عند ما ورد، المقصود التعظيم والتوقير لهن، وما وراء ذلك من قراباتهن وما أشبه هذا فلا يقال ذلك - والله تعالى أعلم - فيوصف بهذا الوصف، إنما يكون ذلك من جهة النسب والرضاع فحسب، وهل يقال لمن طلقها: إنها أم المؤمنين؟ منهم من أجازه، ومنهم من منعه، وبعضهم فصل في ذلك، فقال: إن كان بعد الدخول قيل لها هذا، وإن كان قبله لا يقال.

قال: وقوله تعالى: وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أي: في حكم الله مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ أي: القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار، وهذه ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة التي كانت بينهم، كما قال ابن عباس وغيره: كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه؛ للأخوة التي آخى بينهما رسول الله ﷺ، وكذا قال سعيد بن جبير، وغير واحد من السلف والخلف.

قوله: أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ قال هنا: أي في حكمه، وبعضهم يقول: فِي كِتَابِ اللَّهِ يعني القرآن، والقرآن متضمن لأحكامه وهذا قد جاء في القرآن كما ترون، والله تعالى أعلم.

قال وقوله تعالى: إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا أي: ذهب الميراث وبقي النصر والبر والصلة والإحسان والوصية.

لما نسخ الحكم الذي كان في أول الإسلام من التوارث بالمؤاخاة قال الله : إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا، فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: إنه بقي لهؤلاء من الذين حصل لهم المؤاخاة النصر والبر والصلة والإحسان والوصية كأن يوصي له، إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا، وبعضهم فسره بالوصية للقرابات من غير الوارثين، إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا إلا أن توصوا لقراباتكم، يعني: من غير الوارثين، بل من غير أهل الإيمان والهجرة، لا يتوارث أهل ملتين، أصحاب ملتين شتى، المؤمن لا يرث الكافر، والكافر لا يرث المؤمن، لكن هل له أن يوصي له؟ الجواب: نعم، فإذا قام به مانع من موانع الميراث وهو في الأصل من الورثة فله أن يوصي له، وعلى هذا حمل قوله - تبارك وتعالى - في سورة البقرة: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [سورة البقرة:180]، بعضهم يقول: منسوخة، إما بآيات المواريث، أو بقوله ﷺ: إن الله أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث[5]، وأقوال أهل العلم في هذا معروفة في ناسخها إن كانت منسوخة، وبعضهم يقول: هذه ليست منسوخة، وإنما المقصود مَن كان مِن هؤلاء ممن قام به مانع من موانع الإرث، ففي هذه الحالة له أن يوصي له، إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً، لمّا منع الله من التوارث بين هؤلاء من غير القرابات استثنى سائر وجوه الإحسان، والمعروف هنا يشمل الوصية وغير الوصية من الهبة والهدية، وكذلك تبقى النصرة وما إلى ذلك فهذا لا إشكال فيه.

قال: وقوله تعالى: كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً أي: هذا الحكم، وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول، الذي لا يبدل ولا يغير، قاله مجاهد وغير واحد.

وإن كان قد يقال: قد شرع خلافه في وقتٍ لمَا له في ذلك من الحكمة البالغة، وهو يعلم أنه سينسخه إلى ما هو جارٍ في قدره الأزلي وقضائه القدري الشرعي.

قوله تعالى: كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً يعني: في اللوح المحفوظ، فكل ذلك مثبت فيه، فالتشريع يأتي متدرجاً بحسب أحوال الناس لقيام مصالحهم، وينسخ منه ما ينسخ وفق حكمة الله ، وهذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير في قوله: إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا، يعني لما يتعلق بالبر والإحسان والوصية والنصرة والعقل وما إلى ذلك، هو الذي اختاره أيضاً ابن جرير، وهو الذي عليه عامة أهل العلم.

  1. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب حب الرسول ﷺ من الإيمان، برقم (15)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله ﷺ أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين وإطلاق عدم الإيمان على من لم يحبه هذه المحبة، برقم (44).
  2. رواه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي ﷺ، برقم (6257).
  3. رواه البخاري، كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب الصلاة على من ترك دينا، برقم (2269).
  4. رواه البيهقي في السنن الكبرى، برقم (132).
  5. رواه أبو داود، كتاب الوصايا، باب ما جاء في الوصية للوارث، برقم (2870)، والنسائي، كتاب الوصايا، باب إبطال الوصية للوارث، برقم (3641)، وابن ماجه، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث، برقم (2713)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1788).