الخميس 14 / محرّم / 1447 - 10 / يوليو 2025
إِنَّا عَرَضْنَا ٱلْأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلْإِنسَٰنُ ۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ۝ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [سورة الأحزاب:72-73].

قال العوفي عن ابن عباس: يعني بالأمانة: الطاعة، وعرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم فلم يُطقنها، فقال لآدم: إني قد عرضتُ الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها، فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال: يا رب، وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، فأخذها آدم فتحمَّلها، فذلك قوله تعالى: وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، الأمانة: الفرائض، عرضها الله على السماوات والأرض والجبال، إن أدوها أثابهم، وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيماً لدين الله ألا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها، وهو قوله تعالى: وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا يعني: غِرًّا بأمر الله.

وهكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، والحسن البصري، وغير واحد: إن الأمانة هي الفرائض.

وقال آخرون: هي الطاعة.

وقال الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: قال أبيّ بن كعب: من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها،

وقال قتادة: الأمانة: الدين والفرائض والحدود.

وقال مالك، عن زيد بن أسلم قال: الأمانة ثلاثة: الصلاة، والصوم، والاغتسال من الجنابة.

وكل هذه الأقوال لا تنافِيَ بينها، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف، وقبول الأوامر والنواهي بشرطها، وهو أنه إذا قام بذلك أثيب، وإن تركها عُوقِب، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه، إلا مَنْ وفق اللَّهُ، وبالله المستعان.

حاصل الأقوال في الأمانة: الطاعة والفرائض، وأن المرأة مؤتمنة على فرجها، الدين والفرائض والحدود، الأمانة ثلاثة: الصلاة، والصوم والاغتسال من الجنابة، يقول: كل هذه الأقوال لا تنافيَ بينها، وهذا صحيح، فتفسر الأمانة بالفرائض ووظائف الدين والتكاليف، فهذه هي الأمانة، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم ممن ذكرهم وممن لم يذكروا هنا، ونسبه القرطبي إلى جمهور المفسرين: أن الأمانة هي ما ذكر من التكاليف الشرعية، هي الفرائض، كل هذه العبارات متقاربة، وظائف الدين المتنوعة، وبعضهم يقول: أمانات الناس مع بعضهم، وبعضهم يقول: إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أن آدم ائتمن ابنه قابيل على أهله وولده، فقتل هابيل، وهذا من تضييع الأمانة، كون الإنسان يقتل بغير حق، ولكن الأمانة أوسع من هذا، فيدخل في الأمانة التكاليف الشرعية بجميع أنواعها، والوظائف الدينية، ومما يدخل في ذلك أن الإنسان إذا اؤتمن على شيء فإنه يؤديه، فهناك أمانة مع الله ، ونفسه أمانة، وكذلك الأمانات فيما بين الناس، الوعد أمانة، والشهادة أمانة، كلمة الحق، الكلمة أمانة، إلى غير هذا، وبعضهم يفصل في الأمانات تفصيلاً آخر، لا تفسر به هذه الآية، يقول: إن التكاليف على نوعين: شعائر وأمانات، هذا لا تعلق له بما نحن فيه، يقولون: الشعائر هي الأمور الظاهرة، مثل التلبية والتكبير في الأعياد وأيام العشر، والأذان، وما إلى ذلك، والأمانات: هي التي لا يطلع عليها الناس مثل الصيام أمانة، فلو أكل أو شرب أو غيَّر نيته، نوى الفطر وهو لم يأكل ويشرب هو مفطر، وكذلك الطهارة، الغسل من الجنابة هذه أمانة؛ لأن الناس لا يعلمون هل يصلي هذا بطهارة أو لا؟ هل أحدث أو لا؟ فهذه أمانات، فيقولون: الدين أمانات وشعائر، لكن فيما يتصل بالآية: الجميع أمانة تحمّلها الإنسان، العمل الذي يؤديه أمانة، الأسرة كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته[1] أمانة، وكذلك ما يزاوله من أعمال الوظائف التي يقوم بها ويكلف بها، الأعمال التي تناط به هذه أمانة، يمكن أن يخل بها، حتى المهن والصنائع وما إلى ذلك فقد يكون غاشاً في بيعه وشرائه، أو في صنعته، فكل هذا داخل في الأمانة، ولهذا حملها ابن جرير - رحمه الله - على العموم، على أعم معانيها.

ومما يتعلق بالأمانة الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن حذيفة قال: حدثنا رسول الله ﷺ حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال....

يعني: في أصلها.

ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة، فقال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المَجْل....

هو ذكر قبله: مثل أثر الوَكْت والوَكْت: هو أثر يكون في الشيء، كالسواد الذي يكون في بياض العين، أو لون داكن أحياناً كأنه دم متجمع قديم، ويكون أيضاً بآثار، جروح تكون أحياناً في الجلد قديمة، مثل أثر الوَكْت لون متغير، ثم ينام النومة وذكر ما بعده هنا فتقبض الأمانة من قبله، فيظل أثرها مثل أثر المَجْل وفسره، قال: كجمر إن دحرجته على رجلك تراه مُنتبراً وليس فيه شيء، ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله، مثل أثر المَجْل، أثر المجل: هو ما يكون من أثر في يد الإنسان بسبب العمل، أو بسبب حروق سطحية فيحصل له تنفطٌ في الجلد، يعني إذا كان الإنسان يعمل بآلة أو نحو ذلك فأثر ذلك في يده، فينتفخ الجلد ويكون فيه ماء، فهذا أثر المجل، كجمر دحرجته على رجلك تراه منتبراً يعني: منتفخاً، "وليس فيه شيء" يعني: فيه ماء فقط.

...فيظل أثرها مثل أثر المَجْل كجمر دحرجته على رجلك، تراه مُنتبراً وليس فيه شيء، قال: ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله، قال: فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، حتى يقال للرجل: ما أجلده وأظرفه وأعقله، وما في قلبه حبة من خردل من إيمان، ولقد أتى عَلَيَّ زمان وما أبالي أيكم بايعت، إن كان مسلماً ليردَّنه عليّ دينُه، وإن كان نصرانياً أو يهودياً ليردَّنه عليّ ساعيه فأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانا وفلانا[2]، وأخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش، به.

يقصد هنا بالمبايعة البيع والشراء في التعامل مع الناس، وليس البيعة على الولاية والإمارة؛ لأنه لا يبايع يهودياً ولا نصرانياً، يقول: إن كان مسلماً ليردَّنه عليّ دينُه، يعني: هذا في السابق يوم كانت الأمانة متوفرة في الناس، فدينه يمنعه ويردعه، وإن كان نصرانياً أو يهودياً ليردَّنه عليّ ساعيه يعني: صاحب الولاية، يقال له: ساعٍ، سُعاة، ويقال ذلك على السعاة على الصدقة، ليردَّنه عليّ ساعيه يعني: الوالي أو الأمير، أو الحاكم أو السلطان في ناحيته، هذا في زمن حذيفة ، فأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً، ما يثق بأحد؛ لترحُّل الأمانة من نفوس الكثيرين في زمنه، فكيف باليوم؟!، اليوم صار الأصل عند الناس التهمة، يدخل السوق، إذا جاء يشتري شيئاً من مطعوم أو ملبوس أو مركوب أو أثاث أو غير ذلك، فإن الأصل التهمة، فيحتاج أن يتفقد وأن ينظر، وأن يتحرى، ولربما يسأل؛ لأنه يعتقد أن الأصل الغش والاحتيال والتدليس، فهذا مما ذكر حذيفة ، لاسيما مع كثرة الصنائع اليوم وتنوعها فأصبح المرء يدخل إلى السوق ويتحير في الأسماء الكثيرة، والأصناف الكثيرة التي لا يدري ما الجيد من الرديء.

روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو - ا - أن رسول الله ﷺ قال: أربع إذا كُنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حِفْظ أمانة، وصِدْق حديث، وحُسْن خليقة، وعِفَّة طُعمة[3].
  1. رواه البخاري، كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب العبد راع في مال سيده ولا يعمل إلا بإذنه، برقم (2278)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم، برقم (1829).
  2. رواه أحمد في المسند، برقم (23255)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وأصله في الصحيحين، البخاري، كتاب الرقائق، باب رفع الأمانة، برقم (6132)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب وعرض الفتن على القلوب، برقم (143).
  3. رواه الإمام أحمد، برقم (6652)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لانقطاعه، الحارث بن يزيد الحضرمي لا يعرف له سماع من عبد الله بن عمرو، إنما يروي عنه بواسطة، وقد روى هذا الحديث عن عبد الرحمن بن حُجيْرة، عنه، لكن في الإسناد ابن لهيعة - كما سيرد - وهو سيئ الحفظ، وروي الحديث موقوفاً، وهو أصح"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (873)، وفي السلسلة الصحيحة، برقم (733).