الأحد 10 / محرّم / 1447 - 06 / يوليو 2025
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَٰجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُۥ وَٱلطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ۝ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة سبأ:10-11].

يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله داود ، مما آتاه من الفضل المبين، وجمع له بين النبوة والملك المتمكن، والجنود ذوي العَدَد والعُدَد، وما أعطاه ومنحه من الصوت العظيم، الذي كان إذا سبح به تسبح معه الجبال الراسيات، الصم الشامخات، وتقف له الطيور السارحات، والغاديات والرائحات، وتجاوبه بأنواع اللغات.

هذا تفسير للفضل الذي أعطاه الله لداود ، فابن كثير - رحمه الله - جمع الأقوال التي ذكرها السلف ودل عليها القرآن في مواضع متفرقة، وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا ففي هذا الموضع قال بعده: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ إلى آخر ما ذكر، فهذا تفسير لهذا الفضل الذي أعطاه الله لداود ﷺ، ولهذا اقتصر بعضهم على هذا القدر، قال: إن ما بعده من قبيل التفسير له، وبعضهم يقول: هو النبوة، أعطاه النبوة، وبعضهم يقول: أعطاه الزبور، وبعضهم يقول: إنه أعطاه العلم، وبعضهم يقول: أعطاه القوة ذَا الْأَيْدِ [سورة ص:17]، يعني: القوة، وبعضهم يقول: أعطاه التوبة إِنَّهُ أَوَّابٌ، وبعضهم يقول: أعطاه الحكم وشَدَّ ملكه، يعني ثبته وقوى دعائمه وأركانه فصار ثابتاً، وهكذا قول من قال: إنه تسخير الجبال، وإلانة الحديد، أو حسن الصوت، وبعضهم قال: إنه المذكور بعده، الشوكاني يقول: هو ما ذكر بعده، فهو تفسير له، وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا، لكن الأشياء الأخرى التي ذكرها الله في مواضع متفرقة هي أيضاً فضل من الله على عبده داود ﷺ، وقد ذكرها الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في الأضواء، جمع الآيات في هذا مما أعطاه الله وتفضل به على داود مما تفرق في القرآن، وفسرها بذلك جميعاً، فهي الأقوال المتنوعة التي أشرت إليها آنفاً عن السلف ، وعلى هذا مشى الحافظ ابن كثير      -رحمه الله- كما ترون، فعبارته قد لا تستبين إلا بالمقارنة مع غيره، يعني يتبين فضلها إذا قورن ذلك بغيره، بكلام غيره، فهو جمع هذه الأقاويل، ما آتاه من الفضل المبين وجمع له بين النبوة والملك المتمكن والجنود ذوي العَدد والعُدد وما أعطاه إلى آخره، فهذا كله من فضل الله عليه.

قال: وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ سمع صوت أبي موسى الأشعري يقرأ من الليل، فوقف فاستمع لقراءته، ثم قال: لقد أوتي هذا مِزْمَارًا من مزامير آل داود[1].

وقال أبو عثمان النهدي: ما سمعت صوت صَنْجٍ...

صَنْج: الصنج آلة نحاسية من طبقين تضرب، معازف يعني، نوع من المعازف، عبارة عن آلة، كالصفيحتين من النحاس، إذا ضربت ببعضها أصدرت أصواتاً مطربة، الصنج.

 قال: ما سمعت صوت صَنْج، ولا بَرْبَطٍ.

البَرْبط: آلة مثل العود يقال: إنها فارسية، بربط: مثل العود.

قال: ما سمعت صوت صَنجٍ ولا بَربَطٍ ولا وَتَرٍ أحسن من صوت أبي موسى الأشعري .

ومعنى قوله: أَوِّبِي أي: سبِّحي، قاله ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد.

والتأويب في اللغة هو الترجيع، فأمرت الجبال والطير أن ترجّع معه بأصواتها.

هنا تفسير التأويب بالتسبيح يدل عليه قوله - تبارك وتعالى -: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ [سورة ص:18]، يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ يعني سبحي معه، وإن كان أصل معنى التأويب الترجيع، آب بمعنى رجع فهي تردد معه التسبيح، وهذا الترديد هل هو صدى - رجع الصدى - لقوة صوته؟ هذا يشعر به كلام بعضهم، وقول من قال: إن الله أعطاه قوة الصوت، ولكن هذا - والله تعالى أعلم - بعيد عن تفسير الآية، وذلك أن الله قرنه بالطير، يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ، فالطير لم تكن تردد معه كرجع الصدى، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن الله أعطاها إدراكاً يليق بها، والنبي ﷺ قال: إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث[2]، وحديث: حنين الجذع[3]، وتسبيح الطعام[4]، فكل هذه جمادات، والنبي  ﷺ كما في حديث جابر عند مسلم لمّا لم يجد شيئاً يستتر به لقضاء حاجته قال لإحدى الشجرتين: "انقادي عليّ بإذن الله، فانقادت معه كالبعير المخْشُوش الذي يصانع قائده، حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها فقال: انقادي عليّ بإذن الله، فانقادت معه كذلك حتى إذا كان بالمَنْصَف مما بينهما لَأَمَ بينهما -يعني جمعهما- فقال: التئما عليّ بإذن الله فالتأمتا..."[5]، ولذلك في الآيات التي يذكر الله فيها أنه يسبح له ما في السماوات وما في الأرض التسبيح على ظاهره، قال: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [سورة الإسراء:44]، فهو تسبيح حقيقي يليق بها، وإن كنا لا نفقه ذلك، فهذه الجبال كانت تسبح مع داود ، ولم يكن ذلك من قبيل الصدى الذي يرجع معه الصوت، ولا يختص ذلك بداود ، بل يكون له ولغيره في التسبيح وفي غير التسبيح، ولكن الله قال: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ، فكانت الجبال تسبح والطير أيضاً تسبح، وهذا من الفضل الذي أعطاه الله إياه، وإلا لو كان مجرد صدى فإن ذلك لا يختص به وليس فيه آية.

وقوله هنا: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ هنا بالنصب، وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ أي وسخرنا له الطير، ويحتمل أن يكون وَالطَّيْرَ منصوباً عطفاً على محل: يَا جِبَالُ فإنه من حيث المحل منصوب، نادينا الجبال يَا جِبَالُ، هذا منادى، والمعنى: نادينا الجبال والطير أن أوِّبي معه، ومثل سيبويه يقول: إن ذلك منصوب بفعل مقدر محذوف: يا جبالُ أوبي معه وسخر له الطير، وبعضهم كالفراء يقول: يمكن أن يكون ذلك؛ لأنه مفعول معه، مثل: استوى الماءُ والخشبةَ، وبعضهم يقول: إنه معطوف على قوله: فَضْلًا لكن باعتبار آخر غير ما ذكر من قبل: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يعني: آتيناه فضلاً وتسبيح الطير، هذا يقوله الكسائي، هذا ليُعرف لماذا جاءت منصوبة، وَلَقَدْ آتَيْنَا لأن المعنى يتوقف على هذا، وإنما نذكر في مثل هذا المجلس ما يتوقف المعنى عليه من الإعراب، وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ فهذا يتوقف على ما سبق: وسخرنا له الطير، أو غير ذلك.

قال: وقوله تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ قال الحسن البصري، وقتادة، والأعمش وغيرهم: كان لا يحتاج أن يُدخلَه نارًا ولا يضربه بمطرقة، بل كان يفتله بيده مثل الخيوط.

يقال: أُلين له فصار مثل الطين، وبعضهم يقول: مثل الشمع يثنيه ويشكله على الأشكال المتنوعة من غير عناء، أُلين له الحديد، صار الحديد مثل الحبال.

ولهذا قال: أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وهي: الدروع، قال قتادة: وهو أول من عملها من الخلق، وإنما كانت قبل ذلك صفائح.

يعني قال: وهي الدروع، أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ فيكون صفة لموصوف محذوف، اعمل دروعاً سابغات، والسابغ، تقول: ثوب سابغ إذا كان ضافياً ساتراً للابسه، أو قد يفضل عنه، يعني: بحيث لا يكون فيه انكماش أو قصر على لابسه فتخرج بعض أعضائه، اعْمَلْ أمره بأن يعمل دروعاً، وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ [سورة الأنبياء:80]، فتكون سابغة مغطية لجميع الجسد، وفي قصة الخندق لما خرج    سعد بن معاذ وعائشة كانت مع أمه، فكانت عليه درع حسرت منها يداه، فعائشة - ا - قالت لأمه: لو كانت درعه سابغة، فأصيب بأكحله، العرق المعروف، فالدروع السابغة هي التي تكون مغطية لجميع الجسد بحيث يكون ذلك حرزاً للابسها من سلاح العدو، والدروع ما يلبسه المقاتل من الحديد الذي يغطي الجسد، مثل الحِلَق تربط ببعضها فتكون مثل الثوب، منه ما يكون سابغاً، ومنه ما لا يكون سابغاً، منه ما يكون غليظاً ومنه ما يكون خفيفاً، فإذا نظر الصانع إلى جانب التحصين صارت الحلق متينة، وصار ذلك مثقلاً لهذا الدرع، يكون ثقيلاً تصعب معه الحركة، وإذا راعى جانب الخفة جعل الحلق دقيقة مما يمكن معه نفوذ السلاح في جسد المقاتل، ولذلك تجد بعض الدروع أشبه ما تكون بما نسميه اليوم بالشبك لا تكاد تمنع لابسها، ضعيفة، ولهذا فسر بعضهم قوله - تبارك وتعالى - هنا: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ بهذا المعنى، اجعل ذلك في الصنعة متوسطاً بين مراعاة الحفظ والصيانة للمقاتل – المنعة -، وبين جانب الخفة، تراعي أن يكون خفيفاً على لابسه فيكون وسطاً، روعي فيه هذا وهذا، فيكون قصداً بين بين.

والصفائح: أن يضع المقاتل صفيحة يحترز بها من الإصابة، لكن الصفيحة صعب التحرك معها، فجاء داود ﷺ بهذه التي علمه الله إياها فصارت مثل الثوب له أكمام يلبسها ويتحرك ويقوم به مثل الثوب، لكنه عبارة عن حلق من حديد، فالحلق الحديد يستطيع أن يقوم ويقعد ويركب الفرس ويتحرك، أما الصفائح فهي عبء يرهقه ويثقله ويعيقه عن الحركة.

وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ هذا إرشاد من الله لنبيه داود في تعليمه صنعة الدروع.

قال مجاهد في قوله تعالى: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ: لا تُدِقّ المسمار فَيقلَق في الحَلْقة، ولا تُغلِّّظه فيقصمها، واجعله بقدر.

الحَلَقة جمع حالق، حالق وحَلَقة، تقول: هؤلاء حَلَقة يعني: حلقوا رءوسهم، حلَقة الرءوس، وحلْقة: حَلْقة الذكر، حلْقة التلاوة، يوجد في المسجد حلْقة للإقراء، حَلَقة جمع حالق، هذا هو المشهور، وإن كان بعضهم قال: يصح أن يقال: حلَقة لهذا المعنى يعني للحلْقة، فهذا الشيء المستدير قد يقال له: حلَقة.

وقوله: لا تُدِقّ المسمار تَدُق يعني: تطرق وتضرب، وليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود الدقة، يكون المسمار ضعيفاً دقيقاً، فإذا كان ضعيفاً دقيقاً فإنه يقلق في الحلقة، يعني يكون غير متناسب معها، تكون الحلقة أكبر من المسمار فيتحرك، لكن إذا كان المسمار على قدر الحلقة فهو المراد وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ، والسرد والزرد مثل الخياطة، وتجمع أطراف الثوب بالخياطة، فالدروع لا يوجد فيها إبرة وخيط يخاط به الدرع، وإنما تخاط أبعاضه بالمسامير، وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ السرد والزرد مثل الخياطة فيجتمع، فيكون الرابط بينها مسامير، وهذه المسامير إنما كانت في الدائرة التي وضعت لها من أجل الربط بين أجزاء هذه الحلق إن كان الموضع أكبر من المسمار، والمسمار دقيق يضطرب، وإذا كان المسمار أكبر من الحلقة فإنه يقصمها، فعلّمه كيف يصنع هذه الدروع، وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ بحيث يكون المسمار متلائماً مع الحلقة فيكون ذلك محكماً في الصنعة، يعلمه كيف يصنعه، وكيف يكون هذا الصنع جيداً محكماً متقناً.

وقوله: لا تُدِقّ المسمار فَيقلَق في الحلقة، ولا تُغَلّظه فيقصمها، واجعله بقدر هذا هو المشهور وهو الذي اختاره ابن جرير في قوله: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ، والمعنى الآخر الذي ذكرته لكم آنفاً، وهو أن يكون في الصنعة متوسطاً، لا يراعي جانب المنعة والحصانة للبس المقاتل فيجعل ذلك غليظاً فيثقله، ولا يراعي جانب الخفة فيكون ذلك دقيقاً فلا يحصل به المطلوب، وإنما يتوسط، وهذا قاله قتادة، يعني كانت في السابق ثقالاً فعلمه الله هذا، أمره أن يتوسط في صناعتها فتأتي بهذا الصفة، هكذا فسر وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ يعني: اجعله متوسطاً، هذا غير المعنى الذي ذكره ابن كثير وابن جرير.

وبعضهم يقول كابن زيد: يعني قدِّر في الحلْقة، يعني في حجمها ومقدارها، فلا تكون صغيرة فتضعف، ولا كبيرة فتثقل اللابس، وهذا يرجع إلى قول قتادة، يعني اجعله وسطاً، ولكن المشهور الذي عليه عامة المفسرين هو أن معنى قوله: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ يعني ما ذكر من الملاءمة بين المسمار والموضع الذي يوضع فيكون متناسباً متلائماً معه.

قال: وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: السرد: حَلَق الحديد، وقال بعضهم: يقال: درع مسرودة: إذا كانت مسمورة الحلق، واستشهد بقول الشاعر:

وَعَليهما مَسْرُودَتَان قَضَاهُما دَاودُ أو صَنَعُ السَّوابغِ تُبّعُ

وقوله تعالى: وَاعْمَلُوا صَالِحًا أي: في الذي أعطاكم الله من النعم، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي: مراقب لكم، بصير بأعمالكم وأقوالكم، لا يخفى عليّ من ذلك شيء.

  1. رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن، برقم (4761)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن، برقم (793).
  2. رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، برقم (2277).
  3. رواه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم (3390).
  4. رواه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم (3386).
  5. رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر، برقم (3012).