الإثنين 23 / صفر / 1447 - 18 / أغسطس 2025
وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُۥ ۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا۟ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ۖ قَالُوا۟ ٱلْحَقَّ ۖ وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْكَبِيرُ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ۝ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سورة سبأ:22-23].

بَيَّن تعالى أنه الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لا نظير له ولا شريك له، بل هو المستقل بالأمر وحده، من غير مشارك ولا منازع ولا معارض، فقال: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: من الآلهة التي عبدت من دونه لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ، كما قال - تبارك وتعالى -: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [سورة فاطر:13].

وقوله: وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ أي: لا يملكون شيئا استقلالا ولا على سبيل الشركة، وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ أي: وليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور، بل الخلق كلهم فقراء إليه، عبيد لديه.

قوله - تبارك وتعالى - هنا: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّه هذا الخطاب موجه لمن للمشركين من أهل مكة، والسورة كانت مكية فوجه الخطاب إليهم بعد ما ذكر الله له قبلهم، وأحوال الشاكرين والكافرين، قص عليهم خبر داود وسليمان ﷺ ثم بعد ذلك ذكر حال هؤلاء هذا النموذج من الكافرين فوجه الخطاب إلى المشركين، قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فبعض أهل العلم وابن جرير يقول: إن ذلك موجه للمشركين من أهل مكة، ولا شك أنه يعم الكفار جميعاً، ولكن هؤلاء المشركين لما كانوا في مكة في أول الأمر قبل الهجرة كان الخطاب يتوجه إلى إليهم في مواضع من القرآن، لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ الذر معروف هو صغار النمل، والعرب تذكر ذلك لبيان القلة، ولا يفسر بغير هذا قال: وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ يعني نفى هذه الأمور الثلاثة ثم أعقبها بقوله: وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ فهؤلاء الذين يرجون، يرجى نفعهم إما أن يكون مالكاً فيعطي من ملكه وإما أن يكون شريكاً فله حصة من هذا الكون مثلاً، أو أن يكون معيناً وظهيراً فلا يقوم ذلك إلا به ومن ثمَ فإنه يستطيع أن يحقق أمالهم لمكانته ومنزلته وإن قيام ذلك إنما بإعانته ومظاهرته وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ، أو أن يكون مالكاً للشفاعة له وجاهة ويستطيع أن يشفع فيحصل النفع لهؤلاء المعبودين إذا كان هذا المعبود متصفاً بواحدة من هذه الأوصاف الأربع يا مالك يا شريف، يا وزير ومعين وظهير أو شفيع، فالله نفى هذا جميعاً فقطع عليهم الطريق كما قال : وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً [سورة البقرة:48] ما فيه فداء، ما فيه تخليص، وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ما يمكن يفتدي نفسه بشيء آخر، ولا يمكن أن يخلصه أحد أو أن ينفعه وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ كل هذه الأمور لا بالقوة يخلص ولا بالشفاعة ولا بفدية يدفعها، فالإنسان إذا أخذ أسر مثلاً، أسره العدو أما بشفاعة يطلق أو بالقوة أو بالفدية، فهنا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ من أخذ أخذ، فعمله يطلقه إلا لمن أذن الله له في الشفاعة والله لا يأذن إلا لأهل الإيمان، وأيضاً في أهل الإيمان كما هو معلوم في شروط الشفاعة، الرضى عن الشافع والإذن له بالشفاعة، والرضا عن المشفوع له، فنفى هذه القضايا الأربع، والحافظ ابن القيم تكلم على هذا المعنى كلام جيد هذا مضمونه.

ثم قال: وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أي: لعظمته وجلاله وكبريائه لا يجترئ أحد أن يشفع عنده تعالى في شيء إلا بعد إذنه له في الشفاعة، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ [سورة البقرة:255]، وقال: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [سورة النجم:26]، وقال: وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [سورة الأنبياء:28].

ولهذا ثبت في الصحيحين، من غير وجه عن رسول الله ﷺ - وهو سيد ولد آدم، وأكبر شفيع عند الله -: أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلّهم أن يأتي ربّهم لفصل القضاء، قال: فأسجد لله فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل تُسمع، وسل تُعْطَه واشفع تشفع[1]، الحديث بتمامه.

قوله - تبارك وتعالى -: وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ هذه قراءة الجمهور التي نقرأ بها إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ يعني أذن له الله؛ لأن الضمير أذن هو!، وفي قراءة أخرى متواترة لحمزة والكسائي وأبي عمر إِلا لِمَنْ أُذِنَ لَهُ بالبناء للمجهول، وذلك أيضاً يرجع إلى الله! لأنه هو الذي يأذن، وقوله - تبارك وتعالى - هنا: وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ يحتمل أن يكون المعنى لا تنفع الشفاعة عند الله إلا لمن أذن له فيها يعني أن يشفع، أن يكون شافعاً لابد من الإذن للشافع فتكون الآية دليل على هذا، وعليه تكون قوله - تبارك وتعالى -: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يعني بخلاف العظماء من أهل الدنيا والناس الذين يشفع عندهم فإنه يشفع عنده من غير إذنهم أليس كذلك!، وحينما تريد الشفاعة لأحد تذهب إلى المشفوع عنده وتطلب منه أن يشفعك هل تحتاج إلى استئذان؟ أو أن الناس مباشرة يأتون بشفاعتهم يقولون النبي ﷺ يقول: اشفعوا تؤجروا[2]، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء؟ وفلان له حاجة في كذا أو طلب مني أن أشفع بكذا أو نحو ذلك، يعني هم مباشرة يشفعون بغير توقف على إذن؛ وهذا لنقص ملك أهل الدنيا وعظمتهم أما الله - تبارك وتعالى - لا يحق لأحد وأن يجترئ فيتقدم بالشفاعة إلا بعد إذن الله للشافع؛ ولهذا يسجد النبي ﷺ هذا السجود ويفتح عليه من المحامد ثم يأذن له الرب - تبارك وتعالى - فيقول: أرفع رأسك وسل تعطى وأشفع تشفع، هذا أفضل الخلق ، فهذا لكمال ملكه وغناه - - أما المخلوق فلنقصه فإن الشفاعة عنده عند المخلوق شيء آخر؛ لأنه قد يقبل ذلك لحاجته إلى الشافع؛ لأنه لا قيام مثلاً لملكه إلا به وأمثاله يحتاجه في يوم من الأيام، أو يحتاجه في الحال، أو لخوف تقلبه عليه أن يتخلى عنه أو أن يضمر العداوة أو نحو هذا فيضطر إلى قبول الشفاعة، ويقول: من باب ارتكاب خف الضررين، أما الله لا يجري عليه شيء من هذا وتقدست أسماءه فيكون هذا المعنى الأول، يعني لا يحصل شيء من شفاعة الشفعاء المتأهلين للشفاعة يعني من الملائكة والأنبياء وأهل الإيمان إلا بإذن الله لهم بها هذا المعنى الأول، والمعنى الثاني الذي تحتمله الآية: إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ يعني في أن يشفع فيه وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ يعني أن يشفع له، أو أن يشفع فيه، وهذا المعنى أيضاً صحيح فهو من شروط الشفاعة، وقال به جمع من أهل العلم، والحافظ ابن كثير هنا - رحمه الله - ذكر في أول الكلام ما يدل على أن المقصود الشافع، كقوله: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [سورة البقرة:255] لكن الآية الأخيرة التي ذكرها وهي قوله: وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى فهذا في المشفوع فيه، إلا لمن أرتضى يعني أن يشفع له، فالشفاعة لا تكون إلا لأهل الإيمان، والكفار لا تنفع لهم شفاعة الشافعين، فهذان معنيان كل واحد منهم دل عليه القرآن، والأصل أن الآية إذا احتملت معنيين وكل معنى منها صحيح دل عليه القرآن فإنها تحمل على ذلك جميعاً، ما لم يقم مانع يمنع من هذا ولا يوجد مانع، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة فيكون قوله - تبارك وتعالى -: وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أن ذلك يرجع إلى الشافع ويرجع إلى المشفوع فيه، ولعل هذا يعني يكفي في تقرير هذا المعنى، وقوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ يحتمل أن يكون المقصود أنها لا توجد أصلاً ما هو فقط لا تنفع؛ لأنه لا يتقدم أحد بالشفاعة، إذا قلنا مثلاً هي في المشفوع له أو على الأقل هي تدل على هذا المعنى المشفوع له إلا لمن أذن له!، وإذا كان لا يرضى عن المشفوع له؟ هل توجد الشفاعة لكنها لا تنفع؟ هي لا توجد، ولهذا قال بعض أهل العلم: يحتمل أن يكون المراد ولا تنفع الشفاعة أن نفي النفع نفي لأصلها؟ ولكنه عبر بالنفع لأنه المرجوا، هم يرجون النفع فنفى النفع وإلا هي غير موجودة أصلاً، ليست موجودة لكنها لا تنفع؟ تُرد، هي لا أحد يشفع أصلاً فيمن لا يرضى الله الشفاعة فيه، فيكون نفي النفع نفياً لأصل الشفاعة بالاعتبار الذي ذكرت، - والله أعلم -.

وقوله: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ، وهذا أيضا مقام رفيع في العظمة، وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي، سمع أهل السموات كلامه، أرْعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي. قاله ابن مسعود ومسروق، وغيرهما.

حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم أي: زال الفزع عنها، قال ابن عباس، وابن عمر وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي، وإبراهيم النَّخَعيّ، والضحاك والحسن، وقتادة في قوله تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم يقول: جُلِّى عن قلوبهم، وقرأ بعض السلف - وجاء مرفوعا -: " حَتَّى إذَا فرغ" بالغين المعجمة، ويرجع إلى الأول.

فإذا كان كذلك يسأل بعضهم بعضا: ماذا قال ربكم؟ فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم، ثم الذين يلونهم لمن تحتهم، حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا؛ ولهذا قال: قَالُوا الْحَقّ أي: أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.

في قوله: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم قراءة الجمهور، وفي قراءة ابن عامر بالبناء للمعلوم فُزع يعني الله، والمعنى يرجع إلى شيء واحد وهو الذي يزيل الفزع من قلوبهم هو الله - تبارك وتعالى -، والفزع هو الخوف الشديد، فالخوف مراتب، فالخوف والرهبة والرعب والفزع والهلع كل هذه مراتب في الخوف، فالفزع خوف شديد، إذا فُزع عن قلوبهم معنى فزع كما قال هنا: جلي يعني فرغ الخوف منها، يعني خرج الخوف أخرج الخوف من قلوبهم، والمراد بقوله: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ بعض المفسرين يقول: هذا في المحشر مما يتصل بالشفاعة، وأن هذا في الشفعاء، وأنهم في حال من الخوف لا يجترئون على الله في الشفاعة ولا يتقدمون بين يديه بذلك إلا بإذنه، ويكونون في حال من الوجل والفزع والخوف منه - تبارك وتعالى - تعظيماً، فإذا فزع عن قلوبهم أُزيل الفزع منها تقدموا بالشفاعة قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ فيسأل بعضهم بعضاً، وبعضهم يقول: إن الذين يقولون: قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ هم طالبوا الشفاعة، يعني ليسوا الشفعاء وإنما المشفوع فيهم هم ينتظرون النتيجة والجواب، مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ يعني هل قبل شفاعاتكم فينا؟ إلى غير ذلك من المعاني التي ذكروها ولا أحب أن أطول بها لأنها جميعاً مع أن الآية تحتملها في الظاهر تحتمل أن يكون هذا في القيامة! حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فالسياق في هذا، ولكن إذا وجد الحديث عن النبي ﷺ فإنه يوقف عنده ولا يتعداه وإن كان ظاهر السياق يحتمل معنى آخر، فالنبي ﷺ لا ينطق عن الهوى ولذلك المعنى الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله - هنا هو المعنى أن ذلك انتقال إلى بيان عظمة الله من وجهاً آخر، وهو حال الملائكة معه وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ظاهره أنه متصل بموضوع الشفاعة وأن هذا في القيامة، وإنما تكون الشفاعة يوم القيامة أليس كذلك فظاهره هذا، ولهذا قال بعض السلف: إن هذا يوم القيامة في الشفعاء، ولكن الحديث: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ يدل على أن المعنى منفصل عن يوم القيامة وما يتصل به من الشفاعة، وأن ذلك حديثاً آخر لبيان عظمته وذلك في حال الملائكة معه حينما يكلمهم بالوحي فذكر الحديث هنا وهو أنه إذا تكلم بالوحي….. إلى آخره سمع أهل السموات هنا ذكر الحديث نفسه قال: كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع[3]، هذا في الحديث، وإذا جاءت الآية في الحديث معنى ذلك ليس اجتهاد المفسر ربط حديث لم يذكر فيه النبي ﷺ الآية فربطه المفسر بالآية قد يصيب، وقد يخطئ فيكون الحديث لا علاقة له بالآية، لكن هنا النبي ﷺ ذكر الآية فدل ذلك على أن المعنى هنا ليس في القيامة، وإنما في حال الملائكة مع الله حينما يوحي بوحيه فيصعقون، ويصيبهم الفزع وهم ملائكة الرحمن وبتلك المرتبة والمنزلة وبتلك القوة والشدة وهذا ما يقع لهم ويصيبهم، فكيف بغيرهم من المذنبين الضعفاء الذين لا يحتملون شيئاً يقتلهم الماء والهواء.

روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: إن نبي الله ﷺ قال: إذا قضى الله الأمرَ في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خُضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوانَ، فإذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحقّ، وهو العلي الكبير فيسمعها مُسْتَرق السمع، ومسترق السمع - هكذا بعضه فوق بعض - ووصف سفيان بيده - فَحَرّفها ونشر بين أصابعه-فَيسمع الكلمة، فيلقيها إلى مَنْ تحته، ثم يلقيها الآخر إلى مَنْ تحته، حتى يلقيَها على لسان الساحر أو الكاهن، فَربما أدركه الشّهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كَذْبَة، فيقال: أليس قد قال لنا يومَ كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدّق بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء[4].

انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم من هذا الوجه، وقد رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، - والله أعلم -.

هذا الحديث نص في تفسير الآية، وأن ذلك ليس في الشفاعة، لكن لبيان عظمته فبين ذلك في الشفاعة، وبينه أيضاً في إيحاء الله للملائكة وهذا الذي اختاره المحققون ومنهم الحافظ ابن القيم، ولا يصح العدول عنه، وهذا مثال على تفسير الآية في السنة على غير ما يسبق إليه الذهن بدلالة السياق، - والله أعلم -.

  1. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب كلام الرب يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، برقم (7072)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أدني أهل الجنة منزلة فيها، برقم (193).
  2. رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها، برقم (1365).
  3. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة سبأ، برقم (4522).
  4. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة سبأ، برقم (4522).