قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة سبأ:24-27].
يقول تعالى مقررًا تفرُّدَه بالخلق والرزق، وانفراده بالإلهية أيضا، فكما كانوا يعترفون بأنه لا يرزقهم من السماء والأرض - أي: بما ينزل من المطر وينبت من الزرع - إلا الله، فكذلك فليعلموا أنه لا إله غيره.
في قوله: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ فالرزق هنا يشمل أنواع الرزق المطر وما ينزله الله من خزائنه، وأما من الأرض سواء كان ذلك من الماء أو النبات أو المعادن أو غير هذا مما يستخرجه الناس من الأرض، أو ما أوجده الله فيها لكن هنا ذكر السموات مجموعه قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ الحافظ ابن القيم - رحمه الله - قارن بين هذه الآية وقوله: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ [سورة يونس:31]، فهناك ذكرها مفردة لفت النظر إلى معنى لماذا هنا جمعت وهناك أفردت؟ لا بأس أن يقف عليه طالب العلم وهو ما خلاصته أن هناك ذكر أموراً مقررة معلومة لا يجادلون فيها ليتوصل بذلك تقرير الربوبية إلى الإلهية هم يعرفون أن الله هو الذي يرزقهم من السماء والمطر ينزل من السماء، والسماء يقال: للعلو فهذه القضية لا ينكرونها هو الذي يملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت إلى آخره فذلك كان تقريراً لهم بأمور يعلمونها ويقرون بها ليتوصل إلى توحيد الإلهية إذاً أعبدوه وحده، أما هنا فيقول ابن القيم - رحمه الله - في أمر لم يكن هؤلاء يقرون به تقريراً مطلقاً فذكر السموات مجموعة السموات والأرض قل الله! فأجاب ولم يترك الجواب لهم! فالسموات من الذي يرزقهم منها الوحي يأتي من فوق سبع سموات من الله - تبارك وتعالى - وهم لا يقرون بما فوق السماء ولا يعرفون شيء فوق السماء أصلاً، يعني هل الكفار الذين خوطبوا بالقرآن يعرفون أن فيه سموات فوق السماء هذه وفيها ملائكة؟ وأن الله فوق السموات العلا؟ بعضهم يعرف هذا وهم قلة كما جاء في بعض أشعارهم:
يا عَبلُ أينَ من المَنيَّة ِ مَهْربي | إن كانَ ربي في السَّماءِ قَضاها |
إن كان ربي في السماء قضاها هذا قول الشاعر الجاهلي، لكن هؤلاء قلة وإلا فهم أهل جهالة فلما كانوا ما يدركون ولا يؤمنون بالوحي أصلاً الذي يتنزل من فوق سبع سموات وهو أعظم الرزق الذي ينزل على الخلق، الرزق المعنوي الهدايات والكتب وما إلى ذلك لما كانوا ما يقرون يقول ابن القيم: أجابا قال: قل الله! هناك لم يذكر الجواب؛ لأنهم يقرون فكان الاستفهام تقريري، أنتم تقرون بهذا! فلماذا تعبدون غيره، والفرق على قول ابن القيم لماذا جمع هنا وهناك أفرد؟ ليشمل هنا الوحي، فأجابهم وما ترك الجواب لهم فهم هنا في مقام إنكار وتكذيب ومكابرة ولهذا قال: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
يقول: هذا من باب اللف والنشر، واللف والنشر يذكر قضيتين وأكثر ثم يذكر أحكامها بعدها أما مرتبة وأما غير مرتبة، فالمرتب هو الذي يقولون له اللف والنشر المرتب، وغير المرتب يقولون له: اللف والنشر المشوش، يعني هنا وأن وإياكم ذكر طائفتين لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ ذكر الأحكام بعدها، طائفة على هدى وطائفة على ضلال، فهذا مرتب، أن وذكر الهدى أولاً في الأحكام، الهدى لنا، والضلال للفئة الثانية فيكون الأحكام مرتبة كما رتب أصحابها، والمشوش كقوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [سورة آل عمران:106] ثم ذكر الأحكام، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ بدأ بالثاني أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ثم ذكر الفريق الأخر حكم الفريق الآخر، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ [سورة آل عمران:107]، وقوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [سورة هود:105]؟ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [سورة هود:106]، ثم إلى أن قال: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ [سورة هود:108] فهذا مرتب، يذكر القضيتين ثم يذكر أحكاماً بعدها إن كانت مرتبة بحسب الترتيب السابق نصيب الأولين جاء أولاً، ونصيب الثانين جاء ثانياً هذا يسمونه لف ونشر مرتب، لف يعني يجمل وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ مجمل، ثم ذكر الأحكام بعدها نشر بين حكم كل واحد من هذه الطوائف فإن جاء بالأحكام مرتبة على نفس النسق فهذا مرتب، وإذا جاء بها فيها تقديم وتأخير يسمى مشوش، يذكر قضيتين فأكثر ثم يذكر الأحكام بعدها فإن ذكرها على التوالي نفس ترتيب ما ذكر قبله فهذا مرتب، وإن ذكرها فيها تقديم وتأخير ذكر حكم الثاني أولاً، ثم حكم الأول ثانياً فهذا مشوش، وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يقول: يعني نحن أما أن نكون مهتدين، وأما أن نكون ضالين هذا يقال على سبيل التنزل في المخاصمة والمناظرة والجدل تنزل مع الخصم تقول له: لا يخلوا الحال من طائفة مهتدية وطائفة ضالة يقوله من يعلم أنه مهتدي، وأنه واثق بما عنده، لكنه لا يريد أن يبين عن ذلك، فبعضهم يقول: "أو" هنا على بابها وليست للشك كما يقوله البصريون، وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ يعني واحد من الفريقين لا يخلوا الحال إما هذا وأما هذا، لكن يقولها لغرض كالتنزل مثلاً مع الخصم، وبعضهم يقول: بأنها بمعنى الواو، يعني وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أو في ضلال مبين أنها بمعنى الواو وهذا قول الفراء وأبي عبيدة ومعمر ابن المثنى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ تكون بمعنى الواو، وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وكأن الأقرب - والله أعلم - أنه الأول أنها على بابها، وأن المقصود بذلك أنه يقوله على سبيل التنزل أن الحال لا يخلوا أما كذا أو كذا؟ - والله أعلم -.
قال قتادة: قد قال ذلك أصحاب محمد ﷺ للمشركين: والله ما نحن وإياكم على أمر واحد، إن أحد الفريقين لمهتد.
وقال عِكْرِمة وزياد بن أبي مريم: معناه: إنا نحن لعلى هدى، وإنكم لفي ضلال مبين.