وقوله: وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ [فاطر: 11] أي: ابتدأ خلق أبيكم آدم من تراب، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا [فاطر: 11] أي: ذكرا وأنثى، لطفا منه ورحمة أن جعل لكم أزواجا من جنسكم، لتسكنوا إليها.
وقوله: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر: 11] أي: هو عالم بذلك، لا يخفى عليه من ذلك شيء، بل وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [الأنعام: 59]. وقد تقدم الكلام على قوله تعالى: اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد: 8-9].
وقوله: وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [فاطر: 11] أي: ما يُعطَى بعض النُّطَف من العمر الطويل يعلمه وهو عنده في الكتاب الأول، وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ الضمير عائد على الجنس، لا على العين؛ لأن الطويل العمر في الكتاب وفي علم الله لا ينقص من عمره، وإنما عاد الضمير على الجنس...
وروي من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله: وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ[فاطر: 11]، يقول: ليس أحد قضيت له طول عمر وحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر، وقد قضيت ذلك له، فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت لا يزاد عليه، وليس أحد قضيت له أنه قصير العمر والحياة ببالغ للعمر، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له، فذلك قوله: وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، يقول: كل ذلك في كتاب عنده، وهكذا قال الضحاك بن مزاحم.
حاصل هذا القول هو أن قوله - تبارك وتعالى -: وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وما يعمر من معمر، قضى الله أن يعمر ولا ينقص من عمر معمر آخر إلا في كتاب، يعني: في اللوح المحفوظ، وأن التعمير أو القصر - قصر العمر - أن ذلك ليس بنقص ولا زيادة عما في اللوح المحفوظ، وإنما النقص والزيادة بالنظر إلى الطرف الآخر، يعني: هذا لما طال عمره، والآخر مات في أول شبابه مثلاً، هذا مات وهو ابن عشرين سنة، وهذا مات وهو ابن مائة، هذا عمر وهذا بالنظر إليه، ولا ينقص من عمره إلا في كتاب، ولا ينقص من عمر آخر، وهذا هو المشهور الذي عليه عامة أهل العلم وهو الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - ابتداءً أول ما ذكر هذا القول، هذا معنى كلام ابن كثير، ولا ينقص من عمره، والضمير عائد على الجنس لا على العين، ومعنى على الجنس لا على العين أنه لا يعود على هذا المعمر أنه ينقص من عمره وإنما آخر وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ يعود على الجنس لا على الشخص المعين الذي عمر، من الناس من يطول عمره، ومن الناس من يقصر عمره، يكون عمره قصيراً، وهذا هو المقصود - والله تعالى أعلم - هذا هو المشهور، وفي الآية أقوال كثيرة وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله.
وقال بعضهم: بل معناه: وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ أي: ما يكتب من الأجل وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ، وهو ذهابه قليلا قليلا الجميع معلوم عند الله سنة بعد سنة، وشهرا بعد شهر، وجمعة بعد جمعة، ويوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة، الجميع مكتوب عند الله في كتاب. نقله ابن جرير عن أبي مالك، وإليه ذهب السدي، وعطاء الخرساني، واختار ابن جرير القول الأول، وهو كما قال.
وقال النسائي عند تفسير هذه الآية الكريمة: عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من سره أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أجله فليصل رحمه[1]. وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود، وقوله: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر: 11] أي: سهل عليه، يسير لديه علمه بذلك وبتفصيله في جميع مخلوقاته، فإن علمه شامل لجميع ذلك لا يخفى منه عليه شيء.
هذا القول غير القول الأول تماما، أن ذلك يرجع إلى شخص واحد وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ هذا باعتبار ما يصير إليه ما كتب لهم من العمر المديد وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ التناقص الذي يكون بعد كر الليالي والأيام فينقص العمر، نقصت ساعة، نقص أسبوع، نقص شهر وما إلى ذلك انظروا هذه الساعة الآن لو أنها برمجت على طريقة بالتناقص، يعني قدرنا مثلاً مائة دقيقة، ثم جعلناها تتناقص حتى تصل إلى الصفر هذا ممكن وموجود في بعض الساعات، فهذا التناقص مثل عمر الإنسان، هذا قُدر له أن يعيش ستين سنة، ثم بعد ذلك كأن الساعة ركبت بهذا فيبدأ التناقص، ويفرح الإنسان بمرور الأيام والليالي، وينتظر الأجازات وما إلى ذلك، والواقع أن العمر يتلاشى حتى يضمحل، ثم بعد ذلك ينقضي الأجل، فنحن قبل الصلاة أعمارنا كانت أطول من الآن، وبعد هذا الدرس ستكون أعمارنا أقصر، وفي هذا المساء إذا قدر لنا أن نبقى ستكون أعمارنا أقصر، وفي الغد أقصر من اليوم، واليوم أقصر من أمس، وهكذا، فيكون ذلك يرجع إلى شخص واحد، وعلى كل حال المقصود بالكتاب هو اللوح المحفوظ، واختار ابن جرير - رحمه الله - القول الأول أن ذلك يرجع إلى معمر آخر، وهو الذي اختاره ابن كثير – رحمه الله .
ولما كانت القضية تتعلق بالعمر "وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره" عمر إنسان ما هو نفس المعمر، السياق لابد أن يكون مراعى، يعني: ما نمشي على قاعدة دائماً الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، فالسياق أحياناً يأبى هذا وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ فهل نقول: ينقص من عمر هذا المعمر باعتبار تناقص الأيام والليالي؟، أو يقال: ينقص من عمر معمر شخص آخر؟ هذا أقرب للسياق - والله تعالى أعلم ، ودلالة السياق أولى من مراعاة مرجع الضمير وكونه لأقرب مذكور، فإن هذا لا يساعد عليه السياق أحياناً، وأحياناً توجد قرينة أخرى تأباه، وأحياناً الخارج يأبى ذلك، فما نبقى مع هذه القواعد بصورة آلية جافة، لابد من مراعاة السياق والسباق واللحاق وما أشبه ذلك.
وقوله ﷺ: من سره أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أجله فليصل رحمه، وقوله : لا يرد القضاءَ إلا الدعاءُ، ولا يزيد في العمر إلا البر[2]، فمثل هذه الأحاديث دلت على أن الدعاء له أثر، وأن صلة الرحم لها أثر، فيكون عمر هذا الإنسان الذي قد قدره الله له في اللوح المحفوظ أنه يعيش سبعين سنة، يكون في صحف الملائكة - التي عند الملائكة - أنه يعيش ستين سنة وفي علم الله أنه سيصل رحمه، وأن ذلك يكون زيادة له فيصل إلى السبعين، فالذي في اللوح المحفوظ أنه يموت وهو ابن سبعين سنة، فالزيادة صارت عشر سنوات بما في صحف الملائكة، وبعضهم حمله على هذا أنه يرجع إلى شخص واحد، ما يزاد في عمره إلا بسبب صلة الرحم والدعاء.
فالدعاء سواء كان دعا بدفع بلاء، أو دعا بدعوة فدُفع عنه من الشر مثل ذلك كما في الحديث، واضح؟، الذي في اللوح المحفوظ لا يتغير، فهذا قول ثالث أنه يرجع إلى شخص واحد بهذا الاعتبار: ما يزاد وينقص في صحف الملائكة.
وقد قال الله - سبحانه -: فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34]، وقال - سبحانه -: يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد: 39]، باعتبار أن أم الكتاب هو اللوح المحفوظ وأن المحو والإثبات يكون بالصحف التي تكون بأيدي الملائكة، والله تعالى أعلم.
على كل حال الأقرب من هذه الأقوال - والله أعلم - أن ذلك يرجع إلى الجنس كما قال الحافظ ابن كثير، وقبله ابن جرير - رحم الله الجميع -، مع أن الأقوال الأخرى التي ذكرت آنفاً ليست شاذة ولها وجه، ولكن هذا هو الأقرب، والله أعلم.
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم (8/5)، رقم (5985).
- أخرجه الترمذي، أبواب القدر، باب ما جاء لا يرد القدر إلا الدعاء (4/448)، رقم (2139).