الأحد 18 / ذو الحجة / 1446 - 15 / يونيو 2025
وَمَا يَسْتَوِى ٱلْبَحْرَانِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُۥ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ۖ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ۖ وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا۟ مِن فَضْلِهِۦ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [فاطر: 12].

يقول تعالى منبها على قدرته العظيمة في خلقه الأشياء المختلفة: خلَقَ البحرين العذب الزلال، وهو هذه الأنهار السارحة بين الناس، من كبار وصغار، بحسب الحاجة إليها في الأقاليم والأمصار، والعمران والبراري والقفار، وهي عذبة سائغ شرابها لمن أراد ذلك.

قوله: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ [فاطر: 12] هذا مثل ضربه الله لحال المؤمن والكافر عند بعض أهل العلم، يعني: أنه من قبيل المثل، ولا شك أن هذا من دلائل قدرته وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ العذب الفرات: شديد العذوبة، ابن جرير يقول: أعذب العذب يقال له فرات، هذه صفة للعذب، فالعذوبة نسبية تتفاوت، أعذبه يكون فراتاً.

سَائِغٌ شَرَابُهُ سائغ يعني: أنه يسهل انحداره في الحلق والجوف لعذوبته، لكن الذي يكون مراً أو يكون ملحاً أجاجاً فإنه لا يكاد يسوغه الإنسان، "يتجرعه ولا يكاد يسيغه" هذا في العذاب، - نسأل الله العافية -، فلا يسوغ لشاربه، و"سائغا للشاربين" أي يسهل شربه وانحداره، ولهذا يقولون: هذا يعلق بالحلق لا يكاد الإنسان يمضيه، هذا خلاف العذب الفرات، كما قال الله - تبارك وتعالى -: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ [الفرقان: 53].

وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ أي مُر، وهو البحر الساكن الذي تسير فيه السفن الكبار، وإنما تكون مالحة زُعَاقا مُرة، ولهذا قال: وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ، أي: مر.

يقول: وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ أي: مُر وهو البحر الساكن، يعني: هذا الملح أيضا يتفاوت، فكما أن العذب يتفاوت، فهذا الملح يتفاوت بشدة ملوحته، وأشد ذلك ما كان شديد الملوحة مراً لا يستساغ، قال: البحر الساكن الذي تسير فيه السفن الكبار، تسير فيه السفن الكبار، والسفن الكبار قد تسير في البحر العذب.

البحيرات الضخمة كالبحر تماماً إذا رأيتها، بحيرات لربما تشترك فيها خمس دول وهي كالبحر تماماً بأمواجها وتباعدها، لا ترى لها طرفاً، وتسير فيها السفن الكبار لكن الغالب أن الأنهار ليست كذلك، وهذه البحيرات لا تكون سارحة كالأنهار.

والبحار تتفاوت يعني المحيطات أقل ملوحة من الخلجان، وهذا هو الواقع، الآن لو تذهب إلى المحيطات تسبح فيها ما تحتاج أن تغمض عينك كأنك تسبح بماء عادي، هو ملح، لكن ليس بمستوى الذي عندنا في الخليج، إذا أصاب عينك تحتاج إلى شيء من المعاناة، إنما المحيط تسبح ويدخل في جوفك شيء منه وفي عينك وأنت تفتح عينك ولا تجد أي غضاضة في هذا، ولذلك تجد الأشجار تنبت بكثرة على شواطئ البحار، والبحر الميت أشد البحار ملوحة.

ثم قال: وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا يعني: السمك، وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا، كما قال تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ۝ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 22-23].

قوله: وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ظاهر كلام ابن كثير - رحمه الله - أنه يرى أن ذلك - يعني الحلية أو اللؤلؤ والمرجان - يخرج من البحرين العذب والملح، وهذا هو ظاهر القرآن، مع أن عامة المفسرين لا يقولون بهذا، ويقولون: إن حلية اللؤلؤ والمرجان إنما تستخرج من البحر الملح لا من العذب، ويوجهون الآيتين باعتبار أن العرب قد تعيد الضمير على مذكوريْن وهي تقصد أحدهما، ويحتجون على هذا بأشياء من كلام العرب، ويقولون: هذا أسلوب عربي معروف واضح، ولكن ظاهر الآيات يدل على خلاف هذا، فإذا دل الواقع على أن الحلية تستخرج من البحر العذب فإن ذلك يكون مرجحاً للقول بأن ذلك يرجع إليهما كما يدل عليه ظاهر القرآن، فهم باعتبار ما يكون مُدركاً عندهم أن الحلية لا تستخرج من البحر العذب، والشنقيطي  - رحمه الله - في الأضواء احتج على إبطال ذلك القول المشهور للمفسرين بهذه الآية، والله تعالى أعلم.

والقول الأول قال به خلق لا يحصيهم إلا الله من المفسرين، وأهل معاني القرآن كالمبرد والنحاس، وهو اختيار ابن جرير أن ذلك يخرج من الملح فقط، وبعض أهل العلم يتوسط كالزجاج فقال: يخرج من اجتماع الملح والعذب، أظن هذا لا حاجة إليه.

وقوله: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ أي: تمخره وتشقه بحَيْزومها، وهو مقدمها المسنَّم الذي يشبه جؤجؤ الطير وهو صدره، وقال مجاهد: تمخر الريح السفن، ولا يمخر الريح من السفن إلا العظام.

لاحظ حتى عود الضمير هنا "فيه" هذا يرجع إلى البحرين بظاهر السياق "فيه"، لكن إذا قيل هنا بعود الضمير إلى أقرب مذكور هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [فاطر:12]، فبعضهم يقول: يرجع إلى الملح كما يقول النحاس باعتبار أنه آخر المذكورين، وباعتبار أيضاً أنه المشاهد عندهم بذلك الحين، يعني: أنهم ما ذهبوا وما شاهدوا بعض البحيرات الضخمة التي تسير فيها البواخر الكبيرة.

والفلك يكون بمعنى السفن الضخمة التي لا تسير إلا في البحار الكبيرة، وجؤجؤ الطير هو الصدر الخشب، المنقور في صدر السفينة والمنحوت بطريقة معينة بحيث إنه يقابل صدمات الماء فيتفرق عنه يمنة ويسرة، فتشقه، تشق الماء.

وقوله: لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ أي: بأسفاركم بالتجارة من قطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي تشكرون ربكم على تسخيره لكم هذا الخلق العظيم، وهو البحر، تتصرفون فيه كيف شئتم، وتذهبون أين أردتم، ولا يمتنع عليكم شيء منه، بل بقدرته قد سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض، الجميع من فضله ومن رحمته.

على كل حال كما سبق أن هذا عند أكثر المفسرين مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، وللكفر والإيمان هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ [فاطر:12] هذا العذب وهذا الملح يختلف حالهما اختلافا كبيراً، هذا عند أكثر المفسرين أنه من قبيل المثل كما سيأتي في التمثيل بذلك أيضاً بالحي والميت، ولا شك أن هذه الآية هي من دلائل القدرة، ذكرها الله ليدلل على قدرته، باعتبار أنه لم يقتصر على ذكر البحرين في الموازنة أو المفارقة بينهما، وإنما ذكر أمراً مشتركاً وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [فاطر: (12)]، هذا كله بيان لقدرته ومنته وفضله على خلقه، فلا يكون هذا مجرد مثل، والله أعلم.