يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [سورة فاطر:19-26].
يقول تعالى: كما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة، كالأعمى والبصير لا يستويان، بل بينهما فرق وبون كثير، وكما لا تستوي الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، كذلك لا تستوي الأحياء ولا الأموات، وهذا مثل ضربه الله للمؤمنين وهم الأحياء، وللكافرين وهم الأموات كقوله تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [سورة الأنعام:122]، وقال تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا [سورة هود:24] فالمؤمن سميع بصير في نور يمشي، على صراط مستقيم في الدنيا والآخرة، حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال والعيون، والكافر أعمى أصم، في ظلمات يمشي، لا خروج له منها، بل هو يتيه في غَيِّه وضلاله في الدنيا والآخرة، حتى يفضي به ذلك إلى الحرور والسموم والحميم وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [سورة الواقعة:43-44].
فقوله - تبارك وتعالى -: وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ، كما سبق في قوله -تبارك وتعالى-: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ [سورة فاطر:12] أن ذلك عند طائفة من أهل العلم من قبيل ضرب المثل، ومن القرائن الدالة على هذا قوله - تبارك وتعالى - هنا: وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ فإن ذلك بلا شك من قبيل ضرب المثل فكأنه قرينة دالة على أن ما سبق أيضاً من قبيل المثل، وإن كان في هذا المقام أوضح، وصدر الآية يمكن أن يُحمل على هذا مع ما فيه أيضاً من معنى آخر وهو تقدير قدرة الله - تبارك وتعالى - وما إلى ذلك من المعاني، وقوله هنا: وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ فيكون ذلك باعتبار الهداية والإيمان، وما يقابله من الضلالة والكفر، وقد مضى الكلام على هذا في تفسير الأمثال في رمضان، وتحدثت عن الآيات التي تتعلق بهذا المعنى، وقوله - تبارك وتعالى - هنا: وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ الظل معروف، وأما الحرور فالمقصود به الحر، حر الشمس على خلاف في تفصيل ذلك، الحافظ ابن كثير هنا ما تكلم على معنى الحرور، في الأصل ما في شيء، هو شدة الحر حر الشمس، وبعضهم يقول: إن الحرور لا يكون إلا في النهار مع الشمس، بخلاف السموم فإنه يكون بالليل، وبعضهم يقول عكس ذلك يقول: الحرور يكون في الليل، والسموم يكون في النهار مع الشمس، وهذه أقوال أهل اللغة، وبعضهم يقول: إنه يكون في الليل والنهار، والحرور هو الحر في أي وقت كان وإن المقصود بالظل هنا البرد، ولا الظل ولا الحرور يكون قابله بالحرارة، هكذا فسرها بعضهم، والمعنى أنه لا يستوي الظل الذي لا حر فيه ولا أذى، والحر الذي يكون متلهباً مؤذياً مزعجاً بحرارته يتأذى منه الناس، والحرور كما نعلم أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، فهو من الحر إلا أن فيه زيادة في الحروف وفيه مبالغة في ذلك، يعني شدة الحر، قيل له: حرور بهذا الاعتبار - والله تعالى أعلم -، وذهب كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - إلى أن الحرور يكون في الليل والنهار لكنه هنا بهذا الموضع يكون مع الشمس، ما القرينة الدالة على ذلك عنده؟ هنا قال: وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ؛ لأن الظل يكون في وقت الشمس فقابل هذا وهذا وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ - والله تعالى أعلم -.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ أي: يهديهم إلى سماع الحجة، وقبولها، والانقياد لها وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ أي: كما لا يسمع وينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم وهم كفار بالهداية، والدعوة إليها؛ كذلك هؤلاء المشركون الذين كُتِب عليهم الشقاوة لا حيلةَ لك فيهم، ولا تستطيع هدايتهم.
إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ أي: إنما عليك البلاغ، والإنذار، والله يضل من يشاء، ويهدي من يشاء.
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا أي: بشيرًا للمؤمنين ونذيرًا للكافرين، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ أي: وما من أمة خلت من بني آدم إلا وقد بعث الله إليهم النُّذر، وأزاح عنهم العلل، كما قال تعالى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [سورة الرعد:7]، وكما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ الآية [سورة النحل:136]، والآيات في هذا كثيرة.قوله - تبارك وتعالى - هنا: إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ اقتصر هنا على النذارة، ربما يقال في ذلك - والله تعالى أعلم - باعتبار أنها أعلق بالمقام، أعلق بالمقام في هذا الموضع إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ ثم ذكر الأمرين بعده في قوله إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فهو ﷺ في رسالته جامع بين البشارة والنذارة، وقوله: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ يمكن أن يكون، قوله: بِالْحَقِّ حالاً من الفاعل إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ يعني نحن بِالْحَقِّ يعني محقين، أو من المفعول إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ أي محقاً، ويحتمل أن يكون غير ذلك، يعني يمكن أن يكون من قبيل النعت لمصدر محذوف، إنا أرسلناك إرسالاً بالحق، أو يكون إرسالاً متلبساً بالحق - والله تعالى أعلم -، ويحتمل أن يكون تعلقه بقوله: بَشِيرًا، إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا يعني بَشِيرًا بالحق أو بالوعد الحق، ونذيراً بالوعد الحق لكن هذا أضعف - والله تعالى أعلم -، والأوضح أن يقال - والله أعلم -: إنا أرسلناك إرسالاً متلبساً بالحق - والله أعلم -.