أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [سورة فاطر:27-28].
يقول تعالى منبها على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة المختلفة من الشيء الواحد، وهو الماء الذي ينزله من السماء، يُخرج به ثمرات مختلفا ألوانها، من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض، إلى غير ذلك من ألوان الثمار، كما هو المشاهد من تنوع ألوانها وطعومها وروائحها، كما قال تعالى في الآية الأخرى: وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [سورة الرعد:3- 4].
وقوله - تبارك وتعالى -: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا أي: وخلقَ الجبال كذلك مختلفة الألوان، كما هو المشاهد أيضا من بيض وحمر، وفي بعضها طرائق - وهي: الجُدَد جمع جُدّة - مختلفة الألوان أيضا.
في قوله: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا أي وخلقَ الجبال كذلك مختلفة الألوان كما هو المشاهد من بيض وحمر، وفي بعضها طرائق - وهي الجُدد جمع جُدّة - مختلفة الألوان أيضاً ونقل قول ابن عباس وغيره، هذا المعنى الذي ذكره هنا من كون الجدد هي الطرائق هذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - والمراد بذلك – أي الطرائق - أن الجبال فيها ما يسمى اليوم مثل الطبقات فتجد الجبل فيه مثل الشرائح، هذه هي الطرائق التي ذكروها هنا، تجد الجبال فيها مثل العرق الجبل لونه أحمر تجد فيه عرقاً يضرب إلى السواد مثلاً، وتجد في الجبل الأسود عرقاً أحمر مثل الطبقة فتجد هذه الطبقات موجودة في الجبال وهذا من دلائل قدرته - تبارك وتعالى -، والله - تبارك وتعالى - خلق الجبال وأرساها وجعلها أوتاداً فلا يقال: إن الجبال - جميع الجبال - متكونة عبر ملايين السنيين من تراكم الأتربة والطين والأشياء الأخرى من حمم بركانية وما إلى ذلك حتى تجمعت وصارت بهذه المثابة، وصارت جبالاً بهذه الطريقة، هذا لا يقال، فالله أخبر أنه خلق الجبال وأرساها وجعلها أوتاداً للأرض؛ لئلا تميد، فكيف كان حال الأرض قبل الجبال، إذاً هل يقال: إنها خلقت بلا جبال وإنها تكونت عبر السنيين بفعل العواصف وما إلى ذلك من الأمور التي يقولون ويعزونها إلى الطبيعة؟ الجواب: لا، فالله خلق الأرض وخلق الجبال وجعلها أوتاداً ولذلك تجد في خلقها وهيئتها مثل هذه الأمور العجيبة الغريبة، وبعض أهل العلم يقول: إن الجُدد ليس بجمع جُدّة كما ذكر ابن كثير، وابن جرير، وبعضهم يقول: إن الجُدد مأخوذة من القطع، جَدّهُ بمعنى قطعه، قِطَع أي بيض وحمر وسود وهكذا، وبعضهم يشبه هذه التي ذُكرت هنا بأنها الطرائق كما يكون على ظهر الحمار لون مغاير لسائر لونه إن كان الحمار أبيض فذلك لربما يميل إلى السواد، وإن كان الحمار يميل إلى السواد لربما وجدت شيئاً من الحمرة فوق ظهره كالخط، يشبهون هذا وهذا تقريباً للمعنى، وهذه الجدد مشاهدة ويراها الناس ومعروفة - والله أعلم - فهي مثل الخطوط وهذا قول عامة المفسرين سلفاً وخلفاً، عروق وخطوط ألوان في هذه الجبال يعني ليس المقصود - والله تعالى أعلم - أن من الجبال ما لونه أحمر وما لونه أسود وما لونه أبيض، إنما في الجبل الواحد تجد مثل هذه الطرائق، هذا قول عامة المفسرين، وإن كان هناك من فسر الجدد بأن الجبال تختلف ألوانها هذا أحمر وهذا أسود، وما أشبه ذلك.
قال ابن عباس - ا -: الجُدَد: الطرائق. وكذا قال أبو مالك، والحسن، وقتادة، والسدي. ومنها وَغَرَابِيبُ سُودٌ، قال عكرمة: الغرابيب: الجبال الطوال السود. وكذا قال أبو مالك، وعطاء الخرساني وقتادة.
وقال ابن جرير: والعرب إذا وصفوا الأسود بكثرة السواد قالوا: أسود غربيب.
الأسود الغربيب، ويقولون: أسود حالك، وأسود زنجي، يصفون به شدة السواد، كقوله - تبارك وتعالى -: إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا [سورة البقرة:69] فهذا من أوصاف الإبل عند العرب، وقيل: إنها صفراء يعني الصفرة المعروفة، وابن جرير - رحمه الله - يقول: إن ذلك لا يمكن أن يوصف بكونه فاقعاً؛ لأن الفقوع إنما يُقال في أوصاف البقر، فالمقصود بالصفراء يعني الصفرة المعروفة في أوصاف البقر، أما الإبل إذا قيل صفراء فإنها لا توصف بالفقوع، وإنما إذا قيل ذلك فإن المقصود به الصفرة المعروفة، فالعرب تصف الألوان فإذا قالوا في البقرة صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا فمعناها الصفرة المعروفة، والإبل قد توصف بالصفرة كما قال الشاعر يصف إبلاً:
تلك خيلي منه وتلك ركابي | هنّ صفرٌ أولادُها كالزبيبِ |
أي سود، وكقوله - تبارك وتعالى -: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ [سورة المرسلات:32-33] صفر أي سود وليس المقصود الصفرة المعروفة فذلك من أوصاف الإبل خاصة، - والله تعالى أعلم -، وَغَرَابِيبُ سُودٌ [سورة فاطر:27] غرابيب يقول هنا الجبال الطوال السود، وكذا قال ابن جرير، والعرب إذا وصفوا الأسود بكثرة السواد قالوا: أسود غربيب، ووَغَرَابِيبُ سُودٌ عند ابن جرير من المقدم الذي بمعنى التأخير، المعنى المؤخر أي سود غرابيب، سود خالصة السواد، حالكة السواد، وهنا غرابيب صفة للسود هذا وصف له يصف السواد بأنه شديد، والسواد والبياض - كما هو معلوم - الذي يسميه أهل المنطق المشكك يعني يتفاوت، البياض على درجات، والسواد على درجات وهكذا الألوان الأخرى من باب أولى.