في قوله: وَغَرَابِيبُ سُودٌ تأملْ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ لو أردنا أن ننظر في العطف في الآية {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} لو أرجعناه إلى جدد وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ صفتها كذا وكذا، ومن الجبال أيضاً غرابيب سود، يعني كل الجبل أسود خالص، ليس المقصود: فيه جُدة أو خط أو طبقة أو نحو ذلك سوداء، يعني وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ ذات ألوان حمر وبيض مختلفة الألوان، ومن الجبال غرابيب سود، يكون الجبل كله أسود، لكن يحتمل أن يكون العطف هنا على قوله: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ عُطفت على حمر يكون هذا من جملة الجدد، فتكون الجدد حمراً وبيضاً وسوداً مختلفة الألوان، وقوله هنا: وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ هذه ليست جدداً، وإنما اللون بكامله بطبيعة الحال، هنا قال: وَالأنْعَامِ من باب عطف الخاص على العام كذلك هي مختلفة، يعني الأنعام من جملة الدواب فالناس منهم بربر وحُبوش وطماطم في غاية السواد، والطماطم يعني الأعاجم.
وكذلك الدواب والأنعام مختلفة الألوان، حتى في الجنس الواحد، بل النوع الواحد منهن مختلف الألوان، بل الحيوان الواحد يكون أبلق، فيه من هذا اللون وهذا اللون، فتبارك الله أحسن الخالقين.
ولهذا قال تعالى بعد هذا: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ أي: إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى كلما كانت المعرفة به أتمّ والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ قال: الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير.
وعن ابن عباس قال: العالم بالرحمن مَنْ لم يشرك به شيئا، وأحل حلاله، وحرم حرامه، وحفظ وصيته، وأيقن أنه ملاقيه ومحاسب بعمله.
وقال سعيد بن جبير: الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله .
وقال الحسن البصري: العالم مَن خشي الرحمن بالغيب، ورغِب فيما رغّب الله فيه، وزهد فيما سَخّط الله فيه، ثم تلا الحسن: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ.
وقال سفيان الثوري، عن أبي حيان التميمي، عن رجل قال: كان يقال: العلماء ثلاثة: عالم بالله عالم بأمر الله، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله، فالعالم بالله وبأمر الله: الذي يخشى الله ويعلم الحدود والفرائض، والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله: الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود ولا الفرائض، والعالم بأمر الله ليس بعالم بالله: الذي يعلم الحدود والفرائض، ولا يخشى الله .
يعني مثل الذي يعرف من أوصاف الله وكمالاته ما يبعثه على تعظيمه، ولكنه لا يعرف الحدود والأحكام، والعكس قد يوجد من يُعنى بالأحكام والفقه وما إلى ذلك ولكنه لا يعرف المعبود المعرفة اللائقة به - تبارك وتعالى -، وقوله هنا: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ذكره في هذا السياق لما ذكر هذه العجائب في صنعه وخلقه - تبارك وتعالى - عقّب بهذا وهو أن أهل الخشية هم العلماء فمن المراد بذلك؟ كل مَن يُعتد به من أهل العلم مما رأيتم هنا ممن ذكرهم ابن كثير - رحمه الله -، ومن لم يذكرهم كلهم يقولون: المقصود بذلك العلم بالله - تبارك وتعالى -، العلماء بالله، العلم الذي يعبرون عنه كثيراً بالخشية أو الذي يورث الخشية وهو العلم بالله وأسمائه وصفاته، وكذلك العلم بالطريق الموصل إليه، والعلم بما يصير إليه الناس عند الوصول إليه في الدار الآخرة، هذا هو المراد - والله تعالى أعلم -، وما يقوله بعض الناس: إن المقصود بهذا العلماء بهذه الأمور التي في الطبيعة كما يعبر أحياناً، هذا غير صحيح، والتوسع في مثل هذه العلوم ومعرفة الدقائق والتفاصيل في هذه الأشياء سواء كان يتصل بالجبال أو علم الجيولوجيا وعلم الأرض أو كان ذلك مما يتصل بعلوم أخرى كالفلك أو علوم الطب ونحو هذا مما يُعنى فيه الدارس بمعرفة تفاصيل دقيقة وأشياء لا يعرفها عامة الناس، هل العالمون بذلك هم أهل خشية؟ وهل الواقع يدل على هذا؟ الآن كبار العلماء بالجيولوجيا وكبار العلماء في الفلك، وكبار العلماء في الطب، وكبار العلماء في علوم الأحياء الدقيقة وما إلى ذلك هل هؤلاء هم أهل خشية الله والخوف منه كما قال الله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ عرفوا دقائق وأشياء ورأوها بالمكبرات وغير المكبرات، ودراسات وأعمار تفنى في تتبع أشياء دقيقة جداً ثم بعد ذلك ما الذي أورثهم هذا؟ هل أورثهم خشية الله ؟ هل هؤلاء هم أهل الخشية؟ الجواب: لا، أكثر هؤلاء لا يعرفون الله، ويعزون ذلك إلى أمور من الطبيعة وأن الطبيعة هي التي تفعل هذا كله، فهم أبعد الناس عن الإيمان إلا ما ندر، والنادر والشاذ لا حكم له، كونه يَسْلم واحد منهم لا يعني أن هذا يُعطَى للجميع، ويقال: كلما تبحر الواحد في هذه العلوم وتوسع فيها فإن ذلك يكون محققاً لهذه الصفة إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ إنما يزداد خشية لله - تبارك وتعالى -، أبداً إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ هم العلماء الذين عرفوه معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته وما يليق به من عظمته وجلاله، فالعلماء به وبالطريق الموصل إليه، والدار التي يسير الناس إليها هؤلاء هم العلماء الذين يخشونه؛ لأن هؤلاء إذا كانوا يفقهون عن الله وما ذكره في كتابه من دلائل قدرته وعظمته مع ما يشاهدونه من دلائل القدرة والأنفس والآفاق فإن ذلك يورث له تعظيمه وخشيته وكلما كان العبد به أعرف كان أكثر تعظيماً له وإجلالاً وخشية، وهذا هو العلم الصحيح، فمثل هذا العلم من شأنه أن يورث الخشية فإن اختل في المكلف شيء من دوافعه ومقاصده فإن ذلك قد لا يورثه هذه الخشية كالذي يأخذ العلم من أجل الدنيا، أو يتعلم العلم للثقافة، هو لديه نوع من الرغبة والهواية أشبه ما يكون هؤلاء بالهواة، فتجد الواحد منهم له مدارك واسعة ومعرفة، أبعد ما يكون على الوصف بالعلماء الربانيين، لربما تجد حاله وسلوكه لا يختلف كثيراً عن عامة الناس لا في مظهره ولا مخبره يكون هذا من كبار المحققين لكتب التراث وله اطلاع واسع على هذه الأشياء ولا يُسأل عن مخطوط ولا مطبوع إلا وعنده معرفة واسعة فيه، وإذا نظرت إلى حاله أبعد ما يكون عن العمل، وبعضهم لا يصل إليه، لي محقق من المعتنين بالتراث يعرف المخطوطات، والمطبوعات ويعرف كل هذا هي هواية، هؤلاء هواة يعني ما أخذوا العلم من مأخذه الصحيح، ما أورثهم الخشية، بعض هؤلاء يدخن وحليق ومسبل وهيئته إفرنجية وهو من كبار المحققين، ما هي المفارقة؟، وقد لا يكون من هؤلاء المحققين قد يكون من كبار الأساتذة بالجامعات، وإذا نظرت إلى حاله فحال العوام أفضل منه أخلاقاً وتعاملاً، والعبادة والصلاة إذا نظرت إلى صلاته لا تريد أن تنظر إليه، طريقة الصلاة وأداؤها صلاة العوام أحسن منها، وبعد ذلك قد يكون من أقسى الناس قلب جلف جافٍ، سيئ الخلق مثل هذا أين هو من قوله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ؟ فهؤلاء ما أخذوا العلم من مأخذه الصحيح، ولا تلقوه بطريقة صحيحة، وكثيراً ما يقع ذلك لمن كان كما يعبر بعضهم فيقول: وجدت طريقاً فسلكته ثم وجدت نفسي محاصراً، يقول: أنا أدخلني أهلي المعهد المتوسط، وفي الثانوي في المعهد وتخرجت ما وجدت أمامي إلا كلية الشريعة وتخرجت منها أردت أن أكون تاجراً فعينت معيداً في الكلية فوجدت نفسي أكمل الماجستير والدكتوراه، وجدت نفسي هكذا في النهاية، يعني كان ينصح بعض طلابه ألا يسلكوا هذا الطريق، وأن يتعظوا به فمثل هؤلاء أبعد ما يكونون عن العمل لكن هو وجد نفسه هكذا بهذا السياق، ثم صار أمام الناس أنه من المنسوبين للعلم، وقد يكون فيه ذكاء ونباهة، لكن ذكاء من غير زكاة، علم بلا خشية ولا ورع، وبعض أهل العلم يستيقظ ضميره ويشعر بالحرج يصرح أحياناً لبعض الناس يقول: أتمنى أن أكون مثل هذا، يعني يرى عامياً صرفا مصليا يحافظ على الفروض الخمسة في المسجد ما يتأخر يبكر للصلاة فيقول: أتمنى أن أكون مثل هذا، يعني أن يكون خاليا من العلم لكن يكون بهذه المثابة مثل هذا العامي، هذا غير الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها وصار يفتي الناس بالضلال ويضلل الناس - نسأل الله العافية -، فذلك كما قال الله : فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث [سورة الأعراف:176] نحن لا نتحدث عن هذا المستوى لكن نتحدث عما دونه، فحينما يقال: العلم الخشية ليس معنى ذلك أن هذا الإنسان يكون قد درس وقرأ فإن ذلك أيضاً يكون كثيراً لهؤلاء الذين يتلقون العلم من مجرد القراءة والاطلاع على الكتب فقط، فإنّ أخْذ العلم مع التربية وغالب ما يكون ذلك بالجلوس في مجالس العلم عند من ينتفعون بمجالسته، كان بعض السلف يحضر لربما خمسا وعشرين سنة، يقول: من أجل أن أستفيد سمتاً وهدياً ودَلًّا، فمثل هذه الأمور لابد من مراعاتها حتى تخرج الصورة المتكاملة للمشتغل بالعلم فيكون ممن إذا رآه الناس ذكروا الله ، ويحمل قدوة صحيحة في العلم والعمل ولا يكون ذلك لمن أوتى ذكاء ولم يؤت زكاة، فالذكاء شيء، والعلم شيء، والخشية شيء آخر، لكن العلم إذا أخذ من مأخذه الصحيح كما يقول الشاطبي - رحمه الله - في أول الموافقات يقول: ممن رباه الشيوخ وتخرج على يد الشيوخ هي معادلة مركبة من هذه الأمور جميعاً من باب أولى، قال: إن العلوم الطبيعية هذه والمادية والتجريبية إلى آخره بمفردها بمجردها هكذا لا يمكن أن تكون هي المراد بقوله إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ، وكلام أهل العلم على هذه القضية أن العلم هو الخشية.