وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [سورة فاطر:36-37].
لما ذكر تعالى حال السعداء شرع في بيان مآل الأشقياء، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، كما قال تعالى: لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [سورة طه:74]، وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله ﷺ قال: أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون[1]، قال الله تعالى: وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [سورة الزخرف:77]، فهم في حالهم ذلك يرون موتهم راحة لهم، ولكن لا سبيل إلى ذلك، قال الله تعالى: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا، كما قال تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [سورة الزخرف:74-75]، وقال: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [سورة الإسراء:97]، فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا [سورة النبأ:30].
ثم قال: كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ أي: هذا جزاء كل من كفر بربه وكذب بالحق.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقول الله - تبارك وتعالى -: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ قول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: لما ذكر تعالى حال السعداء إلى آخره هذا الذي يعرف بعلم المناسبة - وقد سبق التنبيه عليه مراراً - ووجه الارتباط بين الآية والتي قبلها، ومنه أنواع أخرى كوجه الارتباط بين المقطع والمقطع، أو وجه الارتباط بين خاتمة الآية وموضوع الآية وما شابه ذلك، وابن كثير - رحمه الله - يشير إلى هذه المناسبات في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، وكذلك بعض من ينكر المناسبات صراحة كالشوكاني في مواضع من كتابه إلا أنه يكثر من ذكرها من الناحية العملية، وقوله - تبارك وتعالى - هنا: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا بمعنى أنهم يبقون فيها أبداً كما ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وأورد عليه النصوص من الكتاب والسنة، وقول النبي ﷺ هنا: "أما أهل النار الذين هم أهلها.." يعني أهل الخلود فيها وذلك لا ينافي قوله - تبارك وتعالى -: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [سورة النبأ:23] فالأحقاب هي المدد الطويلة غير المتناهية، وهكذا في قوله - تبارك وتعالى -: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [سورة هود:106-107]، وتعليقه ببقاء السماوات والأرض هذا على طريقة العرب وهي أنها قد تعلق شيئاً بفانٍ وتريد التأبيد وهذا معروف في كلامهم، ونحن نقول مثلاً: "اللهم صلِّ على محمد ﷺ ما تعاقب الليل والنهار مثلاً أو ما تحركت الأغصان أو ما غرد طائر أو نحو ذلك"، والمقصود بهذا التأبيد، تقول: لا أفعل ذلك ما تعاقب المَلوان يعني الليل والنهار، والعرب قد تعلق بزائل وقد تريد التأبيد، وهكذا في الاستثناء في قوله: إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ فهذا كما قال الله - تبارك وتعالى - في سورة الفتح: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ [سورة الفتح:27] وهم داخلون قطعاً، فقد يأتي الاستثناء أو التعليق بالمشيئة على أمر متحقق الوقوع، وقد يرد ذلك على أمر منتفي الوقوع كما في هذا الموضع، ولكنه لما كان كل شيء بإرادة الله ومشيئته ذكر ذلك، ودلت النصوص الكثيرة على أن أهل النار لا يخرجون منها، وأنهم باقون فيها أبداً.
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار، برقم (185).