وقوله: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا أي: ينادون فيها، يجأرون إلى الله بأصواتهم: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أي: يسألون الرجعة إلى الدنيا، ليعملوا غير عملهم الأول، وقد علم الرب أنه لو ردهم إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون، فلهذا لا يجيبهم إلى سؤالهم، كما قال تعالى مخبرا عنهم في قولهم: فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [سورة غافر:11-12]، أي: لا يجيبكم إلى ذلك لأنكم كنتم كذلك، ولو رُددتم لعدّتم إلى ما نُهيتم عنه؛ ولهذا قال هاهنا: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ أي: أوَما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم؟
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة، لقد أعذر الله إليه، لقد أعذر الله إليه[1].
وهكذا رواه الإمام البخاري في "كتاب الرقاق" من صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: أعذر الله إلى امرئ أخَّر عمره حتى بَلَّغَه ستين سنة[2].
وروى ابن جرير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من عَمَّرَه الله ستين سنة، فقد أعذر إليه في العمر[3]، وقد رواه الإمام أحمد والنسائي في الرقاق.
ولما كان هذا هو العمر الذي يعذر الله إلى عباده به، ويزيح به عنهم العلل كان هو الغالب على أعمار هذه الأمة، كما ورد بذلك الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم مَن يجوز ذلك[4].
وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه جميعا في كتاب الزهد.
قوله - تبارك وتعالى -: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ العمر الذي يكون كافياً للتذكر، وأمهلكم هذا الإمهال، وقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا: أوََما عشتم في الدنيا أعماراً لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم؟ هذا المعنى، والأحاديث التي أوردها هنا التي تدور حول هذا المعنى أعذر الله إلى رجل أمهله حتى بلغ ستين سنة، هذا مما يحصل به أبلغ الإعذار إلى الخلق، أن يمهل الإنسان إلى ستين سنه، لكن قوله - تبارك وتعالى - هنا: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ هل هذا التذكر يحصل ببلوغ ستين سنة فيكون الله قد أعذر إليه، وأن التذكر لا يحصل بما دون ذلك مما يلقاه الإنسان في هذه الحياة؟، الذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن هذا التذكر يحصل بما هو دون ذلك بلا شك، لهذا فإن هذا العمر الذي يمكن أن يحصل به هذا يكون دون الستين، ولكنه بالستين يكون قد بلغ إلى حد قد أعذره الله فيه إليه، ولهذا فإن من أهل العلم من يقول: إن ذلك يحصل بأربعين سنة يعني أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ بأربعين سنة، وبعضهم يقول: هو بما دون ذلك، بعض السلف كعطاء وقتادة يقولون: إذا بلغ الثامنة عشرة فقد بقي هذه المدة التي يحصل بها التذكر أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ إذا بلغ ثماني عشرة سنة، والذين قالوا بالأربعين كأنهم أخذوا ذلك - والله تعالى أعلم - من قوله - تبارك وتعالى -: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [سورة الأحقاف:15]، بمعنى أنه بمنتهى العقل وقوة الإدراك؛ لأن ذلك يعظم في سن الأربعين، وهذه قضية تتفاوت يعني من جهة قوة المدارك العقلية ولكن الإنسان يكون في حال يتذكر فيها إذا كان يعقل عن الله - تبارك وتعالى - فهذا يكون ببلوغ السن التي يحصل بها التكليف، فإن كان له زيادة إمهال فإن ذلك يكون أكثر في الإعذار إليه، فإذا بلغ ستين سنة فذلك المنتهى؛ ولهذا لا يُرجى لأحد رشدٌ بعد الستين، يعني إذا كان فيه سفه لا يرجى له رشد بعد ذلك، لكن الناس يتفاوتون، وهكذا في كل مقام بحسبه، يعني فيما يتصل بالأموال والتصرف فيها الله - تبارك وتعالى - يقول: وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [سورة النساء:6]، وقد مضى الكلام على هذا وأن الأقرب في محمل الآية أن يكون ذلك بمجموع أمرين كما قال الإمام مالك وغيره: البلوغ وحسن التصرف بالمال؛ لأنه هو المقصود هناك، آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فهنا التذكر يحصل ببلوغ الستين ويحصل ببلوغ الأربعين، وهذا التعمير الذي يحصل ويتحقق فيها هذا يحصل لما دون ذلك أيضاً، يعني أبقيناكم مدة كافية للتذكر، والله أعلم.
وسن التكليف إذا كنت تعني هذا: أن الله - تبارك وتعالى - لا يؤاخذهم بالميثاق الأول حينما استخرجهم من صلب أبيهم آدم فذلك ميثاق، وكذلك ما أودع في نفوسهم من الفِطر وما أعطاهم أيضاً من العقول التي يميزون فيها، وما علِمه أيضاً منذُ الأزل عما هم عاملون، كل هذه الأمور لا يؤاخذهم فيها، وإنما أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب وأناط التكليف بحال أو بحد محدود وهو أن يكون الإنسان وصل إلى سن البلوغ، فهنا يجري عليه الكتاب ويحاسبه على أعماله التي صدرت منه، لكن المقصود هنا - والله تعالى أعلم -: أن أمهلناكم وأبقيناكم المدة التي تكفي للتذكر.
وقوله: وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ روي عن ابن عباس، وعِكْرِمَة، وأبي جعفر الباقر، وقتادة، وسفيان بن عُيَيْنَة أنهم قالوا: يعني: الشيب.
وقال السُّدِّيّ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني به الرسول ﷺ وقرأ ابن زيد: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى [سورة النجم:56]، وهذا هو الصحيح عن قتادة، فيما رواه شيبان عنه أنه قال: احتج عليهم بالعمر والرسل.
وهذا اختيار ابن جرير، وهو الأظهر؛ لقوله تعالى: وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [سورة الزخرف:77-78]، أي: لقد بينا لكم الحق على ألسنة الرسل، فأبيتم وخالفتم، وقال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا [سورة الإسراء:15]، وقال تبارك وتعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [سورة الملك:8-9].
وقوله: فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي: فذوقوا عذابَ النار جزاء على مخالفتكم للأنبياء في مدة أعماركم، فما لكم اليوم ناصر ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والنكال والأغلال.
قوله هنا: وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ ما ذكره عن طائفة من السلف كابن عباس - ا - وغيره أن المراد بذلك الشيب، وهذا اختيار الفراء وجماعة، الشيب بمعنى أن الشيب نذير للموت، أنه مؤذن بقرب الرحيل، والقول الآخر الذي نقله عن السدي وجماعة أن النذير هو الرسول وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ وهذا الذي قال هو اختيار ابن جرير، ورجحه أيضاً الحافظ ابن كثير، وهو قول جمهور المفسرين، وهذا هو الأقرب - والله تعالى أعلم -؛ وذلك أن النذير في القرآن يأتي كثيراً بمعنى الرسول، والقرآن إنما يفسر باعتبار الأغلب في الاستعمال في الألفاظ والتراكيب، فجمع لهم بين هذا وهذا أنهم بقوا مدة كافية للتذكر وقامت عليهم الحجة وجاءهم الرسول وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا وكما في قوله - تبارك وتعالى - عن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - أو عن الرسول هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى [سورة النجم:56]، وبعضهم يقول غير هذا، يعني هناك أقوال في بعضها غرابة في تفسير النذير، هذا هو الأشهر، يعني أشهر هذه الأقوال أنه الشيب، أو أنه الرسول ﷺ، أما قول من قال: إنه القرآن وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فهذا لا نقول إنه بحاجة إلى ترجيح أو رد لهذا القول؛ لأنه متلازم مع القول بأنه الرسول من قال: إن النذير هو القرآن فالنبي ﷺ جاء بالقرآن، ولكن تفسيره بالرسول أظهر، ومثل هذا لا يحتاج أن يرجح بينه وبين القول بأنه الرسول ، لكن بعضهم يقول: النذير رسول الموت الذي هو الحُمى، أي أنها رسول الموت باعتبار أن الناس تصيبهم الحمى في حياتهم، يتكرر ذلك مراراً، لكن هذا القول بعيد، وبعضهم يقول: موت الأهل والقرابات حتى إن الإنسان لربما انفرد بينهم، فإذا مات قرابته وأقرانه ونحو ذلك فهذا نذير باعتبار أنه ينتظر الدور وأنه سيلاقي المصير نفسه ، وبعضهم يقول: وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ يعني كمال العقل، وبعضهم يقول: البلوغ، وهذا بعيد - والله تعالى أعلم -، وأما فيما يتعلق بالشيب فيظهر في الإنسان في وقت مبكر ولربما يكون كثير من الناس يبدأ يظهر فيهم الشيب بعد الأربعين.
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (7713)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الشيخين غير الرجل الذي من بني غفار، وهو معن بن محمد الغفاري، كما جاء مصرحاً به في رواية البخاري وغيره، وهو صدوق حسن الحديث"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5118).
- رواه البخاري، كتاب الرقائق، باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر، برقم (6419).
- رواه أحمد في المسند، برقم (9251)، وقال محققوه: "حديث صحيح"، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (6310)، والحاكم في المستدرك، برقم (3597)، وقال محققوه: "صحيح على شرط البخاري و لم يخرجاه"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (414).
- رواه الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله ﷺ، باب في دعاء النبي ﷺ، برقم (3550)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الأمل والأجل، برقم (4236)، وابن حبان في صحيحه، برقم (2980)، وقال الألباني: "حسن لذاته صحيح لغيره"، في السلسلة الصحيحة، برقم (757).