الخميس 08 / ذو الحجة / 1446 - 05 / يونيو 2025
قَالُوٓا۟ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا۟ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ [يس:18-19] فعند ذلك قال لهم أهل القرية: إنا تطيرنا بكم أي: لم نر على وجوهكم خيراً في عيشنا، وقال قتادة: "يقولون: إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم"، وقال مجاهد: "يقولون: لم يدخل مثلكم إلى قرية إلا عذب أهلها"".

يعني بمعنى أنهم تشاءموا منهم، كما كان الكفار يقولون لأنبيائهم - عليهم الصلاة والسلام -، فقد قال فرعون لموسى ﷺ: اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ [النمل:47] فكانوا يتشاءمون، فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [الأعراف:131]، وهذه ليست من قول فرعون، بل قد قالها قوم صالح - عليه الصلاة والسلام -.

"قوله: لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ [يس:18] قال قتادة: "بالحجارة"، وقال مجاهد: "بالشتم"".

قال قتادة: "بالحجارة"، وقال مجاهد: "بالشتم"، فالرجم يكون تارة بالحجارة، وقد يكون أيضاً بالشتم، والعلماء - رحمهم الله - يختلفون في تفسير هذه المواضع في كتاب الله - تبارك وتعالى - أي ما جاء فيه الرجم - ذكر الرجم - إلا في موضع واحد وهي الآية المنسوخة لفظاً وهي قوله: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبته نكالاً من الله فهنا المقصود به الرجم بالحجارة، وما عدا ذلك فإنهم يختلفون فيه، فبعضهم يقول: المقصود الرجم بالحجارة، وبعضهم يقول: المقصود معنى آخر وهو الشتم، كما قال مجاهد، وبعضهم يقول كالفراء: إن عامة المواضع في كتاب الله التي يذكر فيها الرجم المقصود به القتل، وإن الموضع الذي يُختلف فيه يُرجع فيه إلى الغالب إذا كان محتملاً، ينظر لاستعمال الغالب في كتاب الله فيفسر به، فعند الفراء أن المقصود بذلك القتل، وهذا العذاب الأليم.

"وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ [يس:18] أي: عقوبة شديدة".

هو هذا العذب الأليم، لا حاجة إلى تقييده بمعنى كذاك الذي يقول بأنه الشتم، ولا دليل على هذا، لكن العذاب الأليم العذاب المؤلم، يتوعدونهم بالرجم، والعذاب الأليم أعم من الرجم سواء قيل بأن الرجم هو القتل، أو قيل بأنه الرجم بالحجارة، أو قيل بأنه الشتم.

"فقالت لهم رسلهم: طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي: مردود عليكم كقوله تعالى في قوم فرعون: فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهِ [الأعراف: 131]، وقال قوم صالح: اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ [النمل: 47] وقال قتادة، ووهب بن منبه: "أي أعمالكم معكم"، وقال تعالى: وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء: 78].

طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي: مردود عليكم، يعني كأنه يقول: إن شؤمكم معكم، يعني من قِبل أنفسكم لازم لكم في أعناقكم، والإضافة إلى العنق عادة؛ لأنه جزء لا ينفك إلا بمفارقة الحياة، والشيء يمكن أن يعلق باليد فتنفصل اليد ويبقى الإنسان حياً، لكنه يعلق بالعنق، وتقول: هذه أمانة في عنقك؛ لأن هذا الجزء لا ينفك إلا بمفارقة الحياة، وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا [الإسراء:13]، فالطائر في هذه الآية عمله، لكن هنا قالوا: طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي: أن شؤمكم معكم من جهة أنفسكم لازم في أعناقكم، وبعضهم يقول: رزقكم وعملكم معكم، يعني: أن ذلك جميعاً قد كتب عليكم، فواقعٌ بكم ولا محالة، يعني: ما كتب لكم من رزق، وعمل، وأجل؛ فهو واقع متحقق، يعني: لا علاقة لنا به، ولا لمجيئنا، فلا تتشاءموا بنا، هذا المعنى، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، وسبقه إلى ذلك الفراء، واضح الفرق بين المعنيين، الأولون يقولون: شؤمكم معكم لازم لكم بسبب أعمالكم، وليس بسببنا، والقول الآخر: أن ذلك من الأرزاق، والآجال، وما إلى ذلك كله قد كُتب، فالطائر صار بمعنى ما كتب على الإنسان، وقدر من رزق، وأجل، وعمل.

"وقوله: أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ [يس:19] أي: من أجل أنا ذكّرناكم، وأمرناكم بتوحيد الله، وإخلاص العبادة له؛ قابلتمونا بهذا الكلام، وتوعدتمونا، وتهددتمونا؟ بل أنتم قوم مسرفون، وقال قتادة: "أي إن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا؟، بل أنتم قوم مسرفون"".

بعضهم يقول: من عادتكم الإسراف في المعصية، أنتم مسرفون على أنفسكم في الكفر، والمعاصي، مجترئون عليها، مستكثرون منها، وبعضهم يُرجع ذلك إلى التطير كقتادة، بل أنتم قوم مسرفون في تطيركم يعني: متوسعون فيه، مكثرون منه، فبادروا الرسل - عليهم الصلاة والسلام - بمثل هذه التهمة، وبعضهم يقول: مسرفون في كفركم، وهذا يرجع إلى ما سبق، وقال بعضهم: بمعاصيكم، وذنوبكم، وابن جرير - رحمه الله - يقول: ما بكم التطير بنا، ولكنكم قوم أهل معاصٍ.

فليست المسألة عندكم مسألة تطير، ولكنكم قوم مسرفون في كفركم، ومعاصيكم، فعبرتم بذلك لدفع دعوة الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، ومناهضتها، فجئتم بهذه الشبهة أو بهذه الفرية التي افتريتموها علينا، وغاية ما هنالك أنكم تريدون الإقامة على إجرامكم، وكفركم، ومعاصيكم يعني: أنهم غير متشائمين حقيقة، ولكن استمرءوا حالاً كانوا عليها من الكفر، والمعاصي، وما قصه الله - تبارك وتعالى - عن الرسل مع أقوامهم أنهم تطيروا بهم يدل على أنهم كانوا يتطيرون بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وهذا لا يمنع أن يكون التطير له دوافع، منها أنهم يريدون الإقامة على الضلال، والانحراف، والكفر، ولكن أيضاً هؤلاء لفساد اعتقادهم يُسرع إليهم التطير، ولهذا فإن التطير هو من أخلاق وأعمال الجاهلية، وهو نقص في توحيد العبد، فحينما يتطيرون فإن هذا هو مظنة ذلك، أعني هؤلاء الكفار هم مظنة التطير، كانوا يتطيرون بالطيور، وبأشياء كثيرة كما هو معروف، فإذا جاءتهم الرسل - عليهم الصلاة والسلام - تطيروا بهم، يقولون: لِمَا يرون ما يكرهون، ولهذا رد الله عليهم: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا [النساء:79] في مقام التقرير، وفي مقام الرد عليهم قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء:78].