الإثنين 12 / ذو الحجة / 1446 - 09 / يونيو 2025
إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَٰحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَٰمِدُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ [يس:28] يخبر تعالى أنه انتقم من قومه بعد قتلهم إياه، غضباً منه - تعالى - عليهم؛ لأنهم كذبوا رسله، وقتلوا وليه، ويذكر - تعالى -: أنه ما أَنزل عليهم، وما احتاج في إهلاكه إياهم إلى إنزال جند من الملائكة عليهم، بل الأمر كان أيسر من ذلك، قاله ابن مسعود فيما رواه ابن إسحاق عن بعض أصحابه عنه أنه قال في قوله: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ أي: ما كاثرناهم بالجموع الأمر كان أيسر علينا من ذلك، إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [يس:29] قال: فأهلك الله ذلك الملك، وأهلك أهل أنطاكية، فبادوا عن وجه الأرض، فلم يبق منهم باقية".

هذا هو القول المشهور الذي عليه عامة المفسرين أعني أن قوله: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاء المقصود بذلك أن إهلاكهم ما احتاج إلى جند من الملائكة من أجل هذا الإهلاك، وإنما الأمر كان أيسر من ذلك، خلافاً لقول من قال: إن المعنى في قوله: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاء يعني: رسالة أرسلناها إليهم بعد ذلك، وحاول بعضهم أن يتأول على قول من قال: أي برسالة من السماء، فالرسالة لا يقال عنها: إنها جند، فبعضهم قال: أي: بإرسال رسل، وأن المقصود بالرسالة ما يلزم منها من إرسال الرسل؛ لأن قول من قال: برسالة اعترض عليه؛ لأن الرسالة لا يقال لها جند، وهذا ضعيف، وإنما المقصود أن الله استأصلهم، وعذبهم، وأهلكهم جميعاً.

"وقيل: وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ أي: وما كنا ننزل الملائكة على الأمم إذا أهلكناهم، بل نبعث عليهم عذاباً يدمرهم.

وقيل: المعنى في قوله: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاء أي: من رسالة أخرى إليهم. قاله مجاهد، وقتادة.

قال قتادة: فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ.

قال ابن جرير: والأول أصح؛ لأن الرسالة لا تسمى جنداً.

قال المفسرون: بعث الله إليهم جبريل فأخذ بعضادتيْ باب بلدهم، ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون عن آخرهم، لم يبق فيهم روح تتردد في جسد.

وقد تقدم عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلاً من عند المسيح  كما نص عليه قتادة وغيره، وهو الذي لم يُذكر عن واحد من متأخري المفسرين غيره، وفي ذلك نظر من وجوه:

أحدها: أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله لا من جهة المسيح، كما قال تعالى: إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ [يس:14] إلى أن قالوا: رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ۝ وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ [يس:16-17] ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح  - والله أعلم -.

ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم: مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا [يس:15].

الثاني: أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم، وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح؛ ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللاتي فيهن بتاركة، وهن: القدس لأنها بلد المسيح، وأنطاكية لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها، والإسكندرية لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البتاركة، والمطارنة، والأساقفة، والقساوسة، والشمامسة، والرَّهابين، ثم رومية لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم، وأطّده، ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البترك من رومية إليها".

قد مضى الكلام على شيء من هذا، وما فعله ملك الروم، وما إلى ذلك في بلاد الشام، ومصر، وأُنفقت الخزائن للملوك بهذا السبيل، لما انتقل إلى القسطنطينية أيضاً، فالبطريك، والبترك؛ أصلها كلمة يونانية تعني: الأب الرئيس، وهؤلاء أربعة يعني بمنزلة البابا، البابا الذي في مصر هذا بهذه المنزلة الأب الرئيس، فهذا من كبار أهل ملتهم، وهذه الوظائف في ديانة النصارى ليست محل اتفاق عند النصارى، وكلها حادثة بعد المسيح - عليه الصلاة والسلام -، وهذه الرتب: القساوسة أوالبتاركة، والمطارنة، والأساقفة، والشمامسة، والرَّهابين إلى آخره؛ هذه كلها مسميات لمراتب دينية وظيفية عندهم في الكنيسة، اللهم إلا الرهبان، وليست محل اتفاق عند النصارى لاختلاف مذاهبهم الأرثوذكس مثلاً، والبروتستانت، وهؤلاء يختلفون في مثل هذه الأشياء، فيعتبرون بعضاً دون بعض، ومن أراد فليقرأ في تاريخ النصارى سيجد هذه المسميات مُقرَّة جميعاً عند بعض مذاهبهم، وتجد بعضها دون بعض في مذاهب أخرى، فهذا البطريك هو الأعلى مثل البابا يقال له ذلك، المرتبة التي بعدها تأتي هي المطران، هو دون البابا أو دون البطريك، فالبابا مثلاً في مصر تحته أربعة من هؤلاء الذين يقال لهم مطارنة، فهي مرتبة بعد البابا، ثم يأتي بعد ذلك عندهم الأساقفة، أسقف هي أيضاً كلمة يونانية، والبطريك أيضاً كلمة يونانية في أصلها، الأسقف بمنزلة المشرف عندهم دون المطران، ولكنه فوق القسيس، ثم بعد ذلك يأتي القسيس وهي كلمة أيضاً يونانية بمنزلة الشيخ، القسيس هو الذي يفتيهم، ويجيب على أسئلتهم، يعني: شخصية علمية عند النصارى يسألونه، ويستفتونه، من رؤسائهم في العلم، الذي يقيم لهم الصلوات، هذا القسيس، ثم يأتي بعد ذلك الشماس وأيضاً كلمة يونانية الشماس دون القسيس يعني بمنزلة الخادم، خادم في الكنيسة مثلاً فهو يقرأ الكتاب المقدس، ويقوم بخدمة المذبح يعني: يقوم بأعمال مساندة، لكن ليست شخصية علمية، ولذلك تجد مثل هؤلاء الشمامسة لا يطلب من الواحد منهم ما يطلب من غيره ممن هم فوقه ألا يتزوج مثلاً، ويكون له أولاد إلى آخره، لا، الشمامسة يتزوجون، ويكون لهم أولاد، بل بعضهم يشترط هذا؛ لأنه يقوم على ممارسة هذه المهنة بين الرجال، وكذلك بين النساء، وكذلك اشتراطات سن معين عندهم في هذه الوظائف، كل وظيفة، وكل مرتبة؛ لها شروط من السن، فبعض ذلك لا يشترط فيه السن، وبعضه يشترط فيه السن، أما الراهب فهو بمنزلة العابد لكن في الدير، فهذه كلمة تعني عندهم التبتل، والفقر، والزهد، والعبادة، وما أشبه ذلك من الطاعة، يعني: هو رجل عابد منقطع، هذا هو الراهب، وإن كانت هذه الكلمة تستعمل عند غيرهم كالبوذيين، ونحو هذا اليهود.

"كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم كسعيد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب، والمسلمين، فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت فأهل هذه القرية قد ذكر الله - تعالى - أنهم كذبوا رسله، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم - فالله أعلم -.

الثالث: أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة، وقد ذكر أبو سعيد الخدري وغير واحد من السلف: أن الله - تعالى - بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين، ذكروه عند قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِمَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى [القصص:43].

فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن العظيم قرية أخرى غير أنطاكية، كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضاً، أو تكون أنطاكية إن كان لفظها محفوظاً في هذه القصة مدينةً أخرى غير هذه المشهورة المعروفة، فإن هذه لم يعرف أنها أُهلكت لا في الملة النصرانية، ولا قبل ذلك، والله - - أعلم.

على كل حال مثل هذا لا أثر له، وقد سبق الكلام في عدد من المناسبات عن المبهمات في القرآن، وأن معرفة ذلك لا فائدة تحته، لا طائل تحته، اللهم إلا في مواضع بسيطة كدفع تهمة ونحو ذلك.