الإثنين 12 / ذو الحجة / 1446 - 09 / يونيو 2025
يَٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ ۚ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا۟ بِهِۦ يَسْتَهْزِءُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ۝ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ ۝ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:30-32] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ أي: يا ويل العباد، وقال قتادة: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ: أي يا حسرة العباد على أنفسها، على ما ضيعت من أمر الله، فرطت في جنب الله، قال: وفي بعض القراءة: "يا حسرة العباد على أنفسها" ومعنى هذا: يا حسرتهم وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب، كيف كذبوا رسل الله، وخالفوا أمر الله، فإنهم كانوا في الدار الدنيا المكذِّبون منهم.

مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أي: يكذبونه، ويستهزئون به، ويجحدون ما أرسل به من الحق".

لاحظوا عبارات المفسرين هنا في تفسير قوله - تبارك وتعالى -: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ قراءة الجماهير وهي القراءة المشهورة بالنصب على أنه منادى نكرة منصوب، يا حسرةً احضري، هذا أوانك فاحضري على العباد، وبهذا عبر جماعة من أهل العلم منهم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -.

فإن الاستهزاء بالرسل - عليهم الصلاة والسلام - هو أوان ظهور الحسرة على هؤلاء المستهزئين، وبعضهم يقول: إن ذلك بالنصب على المصدرية، وإن المنادى محذوف يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ يعني: يا هؤلاء تحسروا، حسرة منصوب على المصدرية يعني: فيه تقدير محذوف، والأصل عدم التقدير، لكن كل هذه العبارات من أجل أن ذلك جاء من قول الله - تبارك وتعالى - يَا حَسْرَةً فهل التحسر يضاف إلى الله من جهة المعنى؟، فتجد المفسرين يحاولون تفسير ذلك بمعنى يرجع إليهم، يرجع إلى المكذبين؛ لأن أصل الحسرة هي الندامة البالغة، تحسر على الشيء يعني: ما يلحقه بسبب الندم الكبير الذي يحصل له فيتحسر كأنه ينقطع لشدة ندمه، فيكون حسيراً، وابن جرير كما ذكر الحافظ ابن كثير هنا قال: المعنى يا حسرةً من العباد على أنفسهم، مع أن الله قال: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ لكن على هذا يكون باعتبار أن حروف الجر تتناوب، يُضمَّن بعضُها بعضاً فتكون على بمعنى من، ويكون المعنى يا حسرة من العباد، وهذا قد يكون فيه إشكال أي أن على بمعنى من كما يقول ابن القيم في غير هذا الموضع: إن حروف الجر إذا قيل بتناوبها، أو بتضمين بعضها بعضاً؛ فإن ذلك يبقى معه رائحة على الأقل من أصل المعنى الذي يتبادر من الحرف، مثلاً على تدل على الاستعلاء، وفي تدل على الظرفية؛ وما أشبه ذلك، فيبقى فيها من هذا المعنى.

على كل حال القراءة غير المتواترة المروية عن ابن عباس وعلي بن الحسين زين العابدين : (يا حسرة العباد).

والقراءة الأحادية تفسر القراءة المتواترة أن الحسرة صادرة من العباد، وهذه القراءة مروية عن أبيّ بن كعب ، وبعضهم كالضحاك يقول: إن هذا صادر من الملائكة هم الذين يقولون هذا يا حسرةً على هؤلاء الكفار الذين كذبوا، وهذا فيه بعد؛ لأن ظاهر السياق ليس فيه ما يدل على هذا، وبعضهم يقول: إن هذا صادر من الكفار أنهم لما هلكوا، وعاينوا العذاب؛ تحسروا على تلك الأرواح الطيبة التي كذبوها أعني الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وما لقيه الرسل - عليهم الصلاة والسلام - منهم، تحسروا على قتلهم، وتمنوا الإيمان بهم، وهذا أبعد من الذي قبله.

وبعضهم يقول هذا على ظاهره أن التحسر من الله على هؤلاء الكفار، لكن هذا التحسر بمعنى الندم البالغ الذي يحصل معه الانقطاع، ويقولون: هذا على سبيل الاستعارة لتعظيم ما جناه هؤلاء الكفار، وبعضهم يقول: هي نوع قائم برأسه ليس من المجاز، وعامة أهل العلم يضيفون ذلك إلى هؤلاء الكفار يعني: يا حسرة العباد على أنفسهم.

ويقول السعدي - رحمه الله -: "قال الله متوجعاً للعباد: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أي: ما أعظم شقاءهم، وأطول عناءهم، وأشد جهلهم، حيث كانوا بهذه الصفة القبيحة التي هي سبب لكل شقاء، وعذاب، ونكال"[1].

فقوله: متوجعاً على العباد؛ هذا لا يضاف إلى الله ، ولا يقال في حق الله مثل هذا، فالله لا يتوجع - تبارك وتعالى -، ولا ينسب إليه مثل ذلك، مثل هذه العبارة كان ينبغي أن يعلق عليها، وأن يعبر بغير هذا؛ كما يعبر المفسرون، ترون عبارات المفسرين كيف تنوعت وهي تدور حول معنى أن ذلك يضاف إلى العباد، أو أنه صدر من الملائكة، أو أن ذلك صدر من الكفار، لكن الله - تبارك وتعالى - لا يقال: إنه يتوجع ، وتقدست أسماؤه،  وأنا لا أستبعد أنها حرفت، والنسخة التي حققها الشيخ محب الدين الخطيب وهي الطبعة السلفية، أو الطبعة الأخرى التي أخرجها النجار؛ كلها وقع فيها التغيير من عند أنفسهم، فإذا رأوا عبارة رأوا أن فيها ضعف التركيب شطبوها، وقد رأيت هذا في نسخة محب الدين الخطيب - رحمه الله - بنفسي يضرب بالقلم بالسطر، ويكتب من عنده سطراً آخر، أما النجار فيأتي بالصفحة والصفحتين من عند نفسه، وكثير من الناس كانوا يظنون حتى الذين حققوا الكتاب في البداية كانوا يظنون أن تعليقات النجار هي المشكلة، حتى بعض كبار طلاب الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، ولذلك طبع الكتاب طبعة بعد ذلك من غير تعليقات النجار، وظنوا أنهم قد خلصوه من هذا التحريف، التعليقات كانت أيضاً فيها إشكالات، فحذفت في بعض الطبعات، وما علموا أن المشكلة موجودة في النص، أنه يكتب من عنده بالصفحة والصفحتين يضيفها - ولا يشير - على أن ذلك من كلام الشيخ - رحمه الله -، وأكثر الطبعات المصورة والمتداولة كانت طبعة النجار، وإن لم يكتب عليها ذلك.

  1. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 695).